فضاءات فكرية

الأخلاقُ عند العَرب بين الوعظِ والحقوق

بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

وعلى الرغم من أن العرب مارسوا في الجاهلية (قبل الإسلام) كثيراً من القبائح وسوء الخصال والفعال والمنكرات والرذائل، لكن بقيت قيم النخوة والمروءة والشهامة، تعيش وتتألق في دنيانا العربية، حيث أضاف إليها الإسلام إطاراً دينياً جديداً تمثل في الإلزام الخلقي والحكم الشرعي.. بمعنى أن القبيلة العربية تمسكت بمكارم الأخلاق العملية المتجذرة في العادة والتقليد، ورفضت التفريط بها، حتى في ظل أشد الأيام عداوة وضراوة مع الإسلام ومحاربة الدين الجديد، وقبل الدخول فيه.

ولكن ما نشهده اليوم نحن كأجيال متعاقبة نشأت وتربت على تلك القيم والخصال، هو تغير كامل في معناها وواقع عملها وهدفها، مع هيمنة وسيادة قيم جديدة تجمعها صفة واحدة أو مناخ واحد هو مناخ التدليس والكذب والنفاق على الذات وعلى الآخر… حتى بتنا نقول إننا نقبع في قلب هزيمة نفسية، ونعايش اليوم أزمة أخلاقية عربية – وليس فقط بشرية عالمية – بكل معنى الكلمة، انهارتْ من خلالها الحدود والفواصل بين القيم والمبادئ والفضائل الأخلاقية وبين السلوكيات والقيم اللا أخلاقية..

فعلى مستوى التربية والأسرة والعائلة مثلاً، أصبحنا نرى في كثير من الأحيان – ولكل قاعدة شواذ – كيف أن الولد يكذب على أبيه، والأم تكذب على زوجها، والوالد يكذب على الأم؛ وهكذا، كلهم في بحر الكذب يسبحون.. الابن الذي لم يبلغ بعد سن الـــ14 سنة تراه مثلاً يدخن أمام أهله، بلا خوف أو احترام لمعنى الأبوة والأمومة، ولقيم الأخلاق الأسرية، بل ربما نلاحظ أن هناك بعض الآباء أو الأمهات يسهلون ويساعدون ويشجعون ولدهم على هذا الفعل المشين.. وهكذا فحتى الصغير لم يعد يحترم الكبير بأبسط الأمور… والمشاهدات كثيرة والأمثلة كبيرة وواقعية، وليست من محض الخيال والتجريد.

وعلى مستوى الدول والمجتمعات، نجد كيف أن القائمين على الأمر في كثير من دولنا ومجتمعاتنا، يكذبون على شعوبهم، ويدلّسون في التعامل معهم، ويسلكون أبشع أشكال التمويه والدجل في تمرير مصالحهم كنخب حاكمة لا خمّ لها سوى التنعم بالسلطة والنفوذ وإنفاق المال العام بلا حسيب ولا قيب، فيسرقون الموارد، وينهبون الثروات في وقت يكذبون أمام الناس في لغة الأرقام التي يطرحونها في وسائل الإعلام حول ثروات الدولة ومالها العام..

كذلك، نشاهد أمامنا كيف تعاظمت لغة العنف والدم، وعدم تحمل الناس لبعضها بعضاً، فباتت تتكرر كثيراً في كل مجتمعاتنا بشكل شبه يومي، وبطرق وآليات مختلفة…فمثلاً منذ فترة وقعت حادثة مروّعة في إحدى الدول العربية، حين أقدم شخص معروف بسجله الإجرامي، على طعن الضحية (وهو زوج وأب لثلاثة أطفال) طعنات نافذة أدّت لمقتله على الفور، وسط صياح الرجل وتوسلاته للحضور أن يغيثوه دون أن يتدخل أحدهم، مكتفين بتصوير الحادثة بكاميراتهم الهاتفيّة إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة أمامهم! ليقوم القاتل بعدها دون أن يطرف له جفن بشرب كوب من العصير.!!!.. كما قتل منذ أيام أربعة أشخاص خلال عرس تحول لمأتم في خلاف على موال كان نقطة تفجر غرائز الذات..!. مضافاً إليه شيوع تعاطي الحشيش المخدرات وغيرها من مناخات التخدير العقلي والروحي وإبعاد الشباب عن وعيهم ومسؤولياتهم وأخلاقهم وتدينهم..

ولعل المثال الأكبر الذي عايشناه مؤخراً منذ أكثر من عام وإلى يومنا هذا، حول موضوع تراخي الالتزام بالأخلاق العربية، هو مشاهدة العرب لما جرى ويجري أمام أعينهم في غزة وفلسطين ولبنان، دون أن يرف لهم جفن..!!. بل كانوا (الرسميون منهم بالذات) شهود زور على ما جري..!!. فأين هي النخوة العربي والخصال عربية الإسلامية الحميدة؟! وأين هي الشهامة وإغاثة الملهوف؟!.. أكثر من عام وأهلنا العرب يتعرضون لأفظع ويلات الظلم والقتل والعدوان والتشريد والتجويع والتدمير والضياع جراء حرب صهيو – أمريكية مجنونة يشنها كيان محتل غاصب ظالم تحت قيادة إنسان مجرم معتوه مدعوم بدعم لا محدود من أمريكا والغرب في مشهد يعد وصمة عار في جبين الإنسانية، ولن ينساها التاريخ؟!..

للأسف إنها ثقافة اللا مبالاة واللا مسؤولية واللا قيم التي باتت حالة شبه متأصلة في ثقافتنا وسلوكنا العربي، الرسمي منه والشعبي المتأثر تغييباً ربما بسلوك وتضليل أنظمته الحاكمة، طمعاً وخوفاً على حد سواء..!!.

ويبدو أنه وعلى كثرة أحداث ومشاهد وأفلام ويوميات العنف الأعمى والقتل والدمار الفظيع التي يشاهدونها، تبلّدت مشاعر الناس، وتكلست أحاسيسهم، وتجمدت عواطفهم ومشاعرهم وانحرفت أخلاقياتهم، وأصاب العور الدائم حميتهم وقيمهم “الجاهلية-الحضارية!!” التي نعرفها تاريخياً وتقليدياً، والتي قال الرسول الكريم محمد(ص) في يوم من الأيام، بأنه جاء ليتممها “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق“…

ولكن على ما يبدو أن الأخلاق لا تشتعل ولا تتحرك لوحدها في عالم عربي ينوء بمشكلات وأزمات وجودية، سياسية واجتماعية واقتصادية كبرى.. إذ أن ما يشغّل محركات الأخلاق عند العرب – وعند عموم البشر – ليسَ فقط الوعظ والحض والحث والكلام المنمق الجميل، ولا كثرة الأحاديث الأخلاقية والفضائلية، ولا انعقاد مؤتمرات وندوات عن القيم والتربية والأخلاق وغيرها، ويتكلفون فواتير باهظة الأثمان.. ومجتمعاتهم باقية في لجة التخلف، تعيش في الحضيض والقاع الحضاري بعيدة عن أدنى تمثل للأخلاق (العربية منها قبل الغربية).!!. ولهذا: ما فائدة الكلام والشعارات والخطابات المستمرة في بلداننا منذ سنوات طويلة، طالما أنها لم تُحدث أي فارق أو تغيير وتحول إيجابي مثمر على صعيد الأخلاق الحقيقية والتنمية وبناء الذات وتطور العلوم وازدهار المجتمعات؟!..

إن ما ينفع في موضوع التمكين الأخلاقي الصلب الحقيقي هو تكريس الحقوق وتلبية حاجات الناس، وترسيخ مبدأ المواطنة وسيادة القانون على الجميع..!!.. أي كما نقول دوماً: أعطوا الناس حقوقها تصبح الضرورة أخلاقية بامتياز..!!!.. وعلى رأسها حق أن تصبح حرة، فولادة الذوات الحرّة شرط ومقدمة ورافعة قوية للتمكين الأخلاقي، وللبناء العقلي والعلمي والتقني؛ وعندما نصل إلى مرحلة أنْ تُولدَ عندنا الذواتُ الحرّة الواعية، فهذا يعني عملياً أنْ الطريقَ نحو الأخلاق والعلم والتنوير فُتحتْ على مصراعيها، ليأتي الدورُ عندئذٍ على تلكَ الذوات (الحرّة) لتعلن عن حقيقتها وحضورها الفاعل في حقل الوجود الإنساني الحقيقي، فتثريه إنتاجاً وفاعلية وسلوكيات أخلاقية إنسانية.

إننا نعتقدُ أنّ محاربة الحقوق وتغييب العقل كانت من أهم أسباب حضور ثقافة العنف وشيوع النفاق والكذب واللا مبالاة في حياتنا العربية، بل من أسباب هزيمة هذه المجتمعات التي تدعي الفلاح والنجاح، وهي باتت مجرد قبور تمشي على الأرض نتيجة محاربة العقل والتفكير العقلي والقيم الحقوقية والأخلاقية.

أختم مقالتي هنا بعبرة (فيها حسرة) من التاريخ، فقد كتب أحد الولاة لعمر بن عبدالعزيز (الخليفة العادل) أنّ الناسَ ساءتْ أخلاقُها، ولا يُصلحُها إلا السّيف والسّوط..!!. فردَّ عليه عمر زاجراً: “قد كذبت..!. بل يُصلحهم العدل والحق”..!!!. يعني الحقوق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *