هامش ثقافي

الشهرة وكتابة المحظور!!

بقلم غسان عبد الله

ظهرت في العقود الأخيرة روايات كثيرة لروائيين قاموا بتوظيف الجنس في رواياتهم بطريقة لم تكتفِ بالجرأة، بل وصَفها بعضُ النُّقاد بأنها محظورات فظّة وقبيحة، لم تستهدف الجنس في خدمةِ التوظيفِ الفنّي لرواياتهم بل استخدمته كظاهرة تخدم الأدب الجديد.

انتشرت تلك الظاهرة بكثافة مطلع القرن العشرين في نماذج متعددة، وباحت بممنوعات مسكوت عنها بالتصريح المكشوف بعد أن كانت بالتلميح والمجاز. هناك دوافع دفعت بكتّاب المحظورات الجنسية إلى كتابة وتصوير مشاهد إباحية في ثنايا سردهم الروائي بأريحية تامة منها:

اعتقاد هؤلاء الكُتّاب بحرية الرأي، بحيث أنهم يؤمنون بحقّهم في الكتابة دون قيد أو وصاية من “أشباح العادات والتقاليد” أو حتى العرف بل إنهم يتمردون على عباءة العرف الاجتماعي باعتباره رمزاً من رموز العمى الفكري!!.

يرى هؤلاء الكُتّاب أن الأدب منذ القدم حفل بتوظيف الجنس في أغلب نصوصه الأدبية وظهر هذا جلياً في قصائد (أبي نواس) المثيرة للغرائز إلى أن ظهر النص الروائي في العصر الحديث فقاموا بتسجيل مكبوتاتهم النفسية في رواياتهم بطريقة مثيرة جعلتهم في مواجهة المساءلة القانونية أو العرف الاجتماعي الذي يرفض هذه المحظورات الجنسية على أساس من الاعتبارات الدينية أو الأخلاقية التي لا تتناسب مع التقاليد الاجتماعية الموجودة.

كما أن معظم هؤلاء الكُتّاب يسعون لتحقيق الشهرة، والشهرة لا تأتي إلا بكتابة نصوص أدبية بطريقة جريئة وبصورة إباحية قد ينتج عنها قرار بمصادرة الرواية ومنع انتشارها لدى الجمهور، وقد يكون هذا القرار مصدر سعادتهم، وهنا يتساءل البعض عن سبب سعادتهم بمصادرة منتجهم الأدبي ووقف عرضه، والسرُّ بالطبع أن قرار المصادرة يعقبه فرقعة إعلامية مثيرة للجدل لمعرفة أسباب الرفض وماهية عنوان وموضوع الرواية والبحث عنها بأي طريقة ممكنة، فالقاعدة تقول إنّ (الممنوع مرغوب).

وقد يكون السبب والدافع لكتابة ما هو محظور هو البحث عن متعة غائبة ربما تكون مكبوتة في اللاشعور ولم يستطع ممارستها أو حتى البوح بها في الحياة الحقيقية بإرادة حرة بسبب موانع دينية أو أخلاقية أو عرفية، فيضطر الكاتب إلى الهروب من الحياة الواقعية والوقوف في شرفة عمله الفني يشاهد منها ما كتبه وصوّره عبر أبطال روايته بشغف ومتعة ترضي وتشبع ذاته المحرومة، لكن ليس بالضرورة أن تكون شخصية بطل الرواية هي شخصية الكاتب نفسه أو أن ما كتبه هو سيرته الذاتية، فالكاتب قد يستعين بشخصية شهوانية ويبرِّر لها سلوكها المنحرف ويدافع عنها في سرده، وقد يحدث العكس بعد تصويره لسلوكه تفصيلياً يصف نهايته بعقاب إلهي له.

الخلاصة أن هكذا كاتب كثيراً ما يجعل سرده نوعاً من البوح بأوجاعه أو أمنياته الغائبة المنقوصة ويسردها عبر بطل روايته أو عبر أكثر من شخصية من شخصيات نصه في مشاهد مختلفة بطريقة فنية.

لقد تأثّر كثير من الكُتّاب بالحضارة الغربية وبالسلوك المتحرّر الرافض لأية قيود وغير المناسب لهويتنا العربية، واعتبروا العلاقات الجنسية هي حقّ من حقوق الإنسان الطبيعية وقد بدأ التأثر بالسلوك الغربي في الرواية العربية منذ نشأتها لكنه زاد بشكل فج في الرواية العربية المعاصرة، والسبب في ذلك هو السياق العام الذي بدأت فيه الرواية العربية الحديثة خطواتها الأولى بتقليد النماذج الروائية الغربية دون تمثُّل الظروف المجتمعية العربية بسبب التبعية للمستعمر الغربي وبثقافته الوافدة المبهرة، وفي سياق بناء المجتمع العصري كان المتلقي مفتوناً بالرواية وما تحمله من مضامين مختلفة ومثيرة ولم يكن الوعي آنذاك يسمح بمطابقة الشكل الروائي العربي الوليد لطبيعة الواقع المجتمعي وشروطه الفارقة له عن مجتمع (الرواية البرجوازية) في أوروبا.

قد يضطر الكاتب إلى توظيف ما هو محظور في مشاهد كثيرة في الرواية لأن موضوع الرواية وتيمتها مرهون بالتصوير التفصيلي لمشاهد إباحية، لكن الإفراط في هذا النسق غير مبرر، ولو أراد التأكد من هذه الحقيقة وقام بحذف تلك المشاهد سيلحظ أن المعنى العام والدلالة الفنية لم تختل.

إذن يمكن للكاتب الاستغناء عن هذه المحظورات باستخدام لغة فنية راقية يفهمها القارئ عن طريق الإشارة والتلميح دون إفراط في وصف دقيق لمشاهد جنسية غير مبررة هدفها هو إثارة الغرائز فقط.

أما كُتّاب القصة والرواية المعاصرة فقد أسهبوا في الوصف الجنسي في أعمالهم بجرأة زادت عن الموروث الحكائي القديم الذي كان أغلبه تلميحاً إلى كتابة صريحة مناسبة لتقنيات التصوير الفني المعاصر بل أضافوا ظواهر كان مسكوتاً عنها مثل ظاهرة المثلية الجنسية التي يتمُّ تبريرها على أساس نظرية (الانعكاس) كمظهر من مظاهر التفسّخ في المجتمع العربي.

في النهاية أرى أن الكتابات الجنسية في الرواية العربية المعاصرة معظم أسبابها ترجع إلى عوامل نفسية بحتة قد تعود إلى الكاتب نفسه فكتابة تلك المشاهد بطريقة تصويرية مفصّلة وبألفاظ صريحة خادشة للحياء هو نوع من التنفيس عن مكبوتات جنسية حبيسة لديه في اللاشعور لم يستطع أن يشبع بها غريزته إشباعاً كاملاً أو حتى أن يبوح بها في الحقيقة لأسباب مجتمعية عُرفية أو دينية فلجأ إلى بطل شخصيته في روايته ليعبِّر عن آلامه من خلال العمل الفني الذي يسرده وكثيراً ما نرى الكاتب يسرد بنفسه (تقنية السارد العليم).

كما أرى أن الدفع بحرية التعبير وانبهارهم بالفكر والحضارة الغربية أو تقليد التراث العربي والغربي حجج ومبررات واهية تخدم استمرارهم في التنفيس عن مكبوتاتهم الجنسية المحرومة التي يعقبها الشعور بالانتشاء ومن ثم صناعة روائي مشهور مثير للجدل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *