جُذورُ معاداة الغربِ للإسلام
بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري
لم يأتِ الإسلامُ ليكونَ منافساً عدائياً أو خصماً لدوداً حضارياً للغرب أو لغيره من باقي حضارات هذا العالم البشري الكبير، بل جاء ليكونَ رسالة عدل ودعوة سلام وإخاء للإنسانية جمعاء، ليربطها بمبادئ إنسانية تؤمن بالتنوع والتعددية الحضارية والبشرية..
وهو اعترفَ – في عمق فكره ونصوصه – بكل التنوعات الرمزية والمادية للحضارات التي سبقته، وبلغت حدود انفتاحه أنه قَبِلَ الآخر حتى المغاير عنه، بل وحتى المناقض والمعادي له، طالما لم يشهر سلا القوة والعنف.
نعم هذا الوعي الحَضاري الإنساني المُبكر في فكر الإسلام وسلوكيات المسلمين وتعاملاتهم وعلاقاتهم التفاعلية مع الجميع، (أدياناً ومذاهب وأعراقاً وإثنيات وقوميات)، حيث اندفع الإسلام لينفتح على تلك التنوعات، فتفاعل معها وهضم كثير من محتوياتها ونتاجاتها، واستوعبها، بل وهيأ له سبلَ التّواجد والتّأصيل والحُضور في الواقع والأرض، دونما ممانعة أو اعتراض أو مواجهة..
وعلى الرغم من كل ذلك، نشأت في الغرب – منذ بدايات الدعوة الإسلامية – مظاهر رفْضٍ وخصومة وعداوة وممانعة لهذا الدين، ولكل ما نتج عنه وتمثله من قيم ومبادئ ومقاصد وسلوكيات رمزية، بل بنى المخيال الغربي الثقافي والحضاري (والديني) أساطيرَ مخيفة كثيرة عن هذا الدين، رسختها رموزه ونخبه في عقول الناس ونفوسهم، من قبيل أن الإسلام ليس ديناً سماوياً، وجاء فقط ليقتل ويبطش ويستولي عليهم، وينهبهم، ويقضي عليهم، ويأكل لحومهم، ويلغي طقوسهم، وينتهك حرماتهم، وووإلخ..
وحتى عندما انطلق الأوروبيون في العصور الوسطى لتأسيس هويتهم الأوروبية الخاصة بهم، فإنهم أنشأوها على نقيض الإسلام والشرق، لذا فقد انتشرت لديهم مقولة: “أن تكون أوروبيًا يعني ألا تكون مُسلماً”.. وقد تعمق هذا الشعور الهوياتي العملي بالعداء الغربي للإسلام خلال الحروب الصليبية التي كانت عبارة عن سلسلة معقدة وطويلة من الحملات العسكرية التي نظّمتها القوى المسيحية في الغرب (اختلط بها الديني بالسياسي بالنفعي والمصلحي) تحت مزاعم وشعارات استعادة الأراضي المقدسة ومدينة أورشاليم (القدس)، (إنقاذ بيت المقدس) من سيطرة المسلمين والتخلص من ظلمهم وعسفهم، في منطقة شرق المتوسط، والقضاء على الخطر الإٍسلامي..!!.
إن هذا الوعي الغربي التاريخي بالإسلام، المتشكل تحريفاً وتشويهاً مقصوداً، والممتد لألف وأربعمائة عام، ما زال يتغذى للأسف من تلك الأساطير، ومن غيرها (من المقولات التي رسخها الاستشراق الغربي لاحقاً)، وما زال مستمر الحضور إلى اللحظة الراهنة، فالكثير من الساسة ومراكز الدراسات والمستشرقين والمفكرين، كــ (برنارد لويس) مثلاً، المعروف بعدائه للإسلام، يذكِّر الغربيين دوماً بأنّ للمسلمين ذاكرة تاريخية عجيبة، وأنهم لم ينسوا أبداً ما أصابهم بعد ذلك من هزائم أمام الغربيين.. وما يزالون يعترفون بأن للإسلام – حتى باعتباره عقائد ونظماً اجتماعية – ميزةً على ما يعرفون من أديان.. بل ويشير لويس إلى أنه ولمدة أكثر من ألف عام؛ قدَّم الإسلام المجموعة الوحيدة من القواعد والمبادئ المقبولة عالمياً لتنظيم الحياة الاجتماعية. وحتى في الفترة التي بلغ فيها النفوذ الأوروبي الغاية في البلاد التي سيطرت عليها أو حكمتها القوات الأوروبية الإمــبريالية، أو تلك التي ظلت مستقلة؛ فإن الأفكار والاتجاهات الإسلامية السياسية بقيت ذات أثر عميق وشامل.
هذه النمطية والصورة الثقافية في التعاطي مع الإسلام، لها جذور قديمة كما قلنا؛ أي لها أسباب ودوافع، وبعضها كان مقصوداً لإبقاء حالة الخوف والتخويف (حتى عن طريق استخدام الكذب والتشويه والتزييف) من هذا الإسلام، ولم ينجُ من محاولات طمس الحقائق وترسيخ الأباطيل والبهتان حتى من كانوا هُم في عداد كبار الفلاسفة في الغرب القروسطي، ومنهم – على سبيل المثال لا الحصر – الفيلسوف “توماس الأكويني” الذي يعدُّ من الشخصيات المفكرة الدينية والفلسفية الكبرى المعتدلة والواعية في دنيا الغرب والحضارة الغربية، ولكنه في موضوع الإسلام كان مثل أي رجل آخر يدين بالولاء التقليدي الأعمى لدينه ونصوصه ولاهوته المسيحي وصنمياته الفكرية إذا صح التعبير.. حيث لم يتورع هذا “المفكر الفيلسوف!” عن محاولاته في التزييف والكذب والتحريف وإلصاق التهم الباطلة بالإسلام ونبيه وقرآنه مثل أي لاهوتي تقليدي قادم من أديرة العصور الوسطى.. وقد ذكر في بعض كتبه أنّ النبي فشل في دعوته، ولم ينجح سوى مع البدو وأهل الصحراء من بسطاء العقول، وأن هؤلاء الذين آمنوا به كانوا متوحشين وتائهين في الصحراء… وأن الإسلام انتشر ليس فقط بحد السيف بل لأنه شجع الشهوات البهيمية عند الإنسان ووفر الأجواء لإطلاق مشاعر اللذة والجنس بين المسلمين، وووإلخ.
إذاً هي حالة عداء تاريخي غربي للإسلام كدين “منافس” وحضارة قوية فاتحة.. خصوصاً بعد أن تمكّنتْ – خلالَ أقل من قرنين – من الحضور العالمي في الفكر والثقافة والإنتاج العلمي المادي، بحيث باتتْ مركزاً حضارياً عالمياً ومرجعية لكثير من حضارات العالم علماً وفكراً ومعرفة إنسانية.. بما يعني أنها حالة “عداوة ثقافية” – إذا صح التعبير – تتأصّل برؤية الغرب ذاته عن نفسه (كمركز وقطب وحضارة عليا وذات مفارِقة سيّدة على غيرها)، وليس بالضرورة بسبب ما إذا كان الإسلام نفسه يشكل تهديداً فعلياً للمسيحية أو لعموم الغرب.. وهو لم يشكّله بالمطلق، لا في سلوك الفاتحين المسلمين وآليات حكمهم، (وهو أمرٌ شهدت لهم به، في تسامحهم وانفتاحهم وإنسانيتهم، كبار عقول الغرب الثقافية والحضارية)، ولا في رؤيةِ هذا الدين الذّاتية القائم على الإيمان المعياري بالتعددية الحضارية والحوار والاعتراف بالآخر المختلف، كما يقولُ القرآن الكريم في كثير من نصوصه وآياته الكريمة.. يقولُ تعالى: ﴿وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَلَٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ وَلَتُسْـَٔلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (النحل/93).. وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ…﴾ (هود/118).. وهذا يعني أنَّ اللهَ قادرٌ على جَعْلِ البشر كلهم ينتمون لفكر واحد ودين واحد وأمة واحدة، ولكنه خلق الحياة والوجود على قاعدة التنوع والاختلاف والتعدية الثقافية والحضارية.. وهذا التنوع في الفكر والعمل والمادة يستدعي الاختلاف في الرؤى والتوجهات والقناعات والخيارات والسبل والممارسات، وهو أمر حيوي لاستمرارية الحياة كونه يكرس عقلية الاعتراف ببعضنا بعضاً انطلاقاً من مبدأ الحرية ذاتها.. أي الحرية التي جعَلها اللهُ للإنسان في إرادته، في ما تتحرك به في الخطوط المتوازية للفكر والعمل لما يراه الله من الحكمة في ذلك، بعيداً عن أيّ محذورٍ عقليّ.. والإسلام كدين ورسالة إنسانية ختم الله تعالى بها رسالاته للبشر، يعترف بكل الأنبياء والرسل والأديان السماوية وأهل الكتاب، ولا يعاديهم، بل ينفتح عليهم انطلاقاً من إيمانهم هم وقناعاتهم وطقوسهم التي يؤمنون بها ويعتقدون بقدسيتها.. هو فقط يطلب منهم أن ينفتحوا على المشترك الإنساني مع المسلمين، ليتحاوروا ويتفاعلوا، ويؤسّسَ معهم لشراكات ثقافية واجتماعية إنسانية عملية دائمة.. وهذا ما يتّضحُ من قوله تعالى: ﴿قُلْ يَٰٓا أَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِۦ شَيْـًٔا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ ٱشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾(آل عمران/64)، وهو يريدُ أن يؤسس للحوار والدعوة للتواصل والتفاعل مع المختلفين عنه، من أجل الوصول لقناعات مشتركة وقناعات ونقاط توافقية، يمكن اللقاء حولها والتعاون فيها، خدمة للمشتركات الحضارية والقيم الإنسانية القائمة على الفطرة الإنسانية السَّليمة التي هي واحدة بين كلّ بني البشر بصرف النظر عن أديانهم ومذاهبهم ومختلف انتماءاتهم الأيديولوجية الأخرى.
هذا الوعي المبدئي العميق والأصيل بالاختلاف والتنوع والتعدد، يتكامل مع الدعوة للأفكار والآراء بالحوار الهادف ومحاولة اللقاء على أسس مشتركة.. يقول تعالى: ﴿ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ ۖ وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۦ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ﴾(النحل/125).. وهنا نلاحظ أن الإسلام يحدد ثلاثة عناوين في موضوع الحوار، وهي: الحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن.. ولا يوجدُ فيها ثلاثتها أية دعوة إلى العنف، ولا أي تحريض على القوة، بل هي آلياتٌ وسبلٌ سلمية فكرية تُعلي من شأن النقاش والحوار العقلي والعلمي البعيد عن العصبيات والمهاترات وادعاء امتلاك الحقيقة المقدسة لهذا الطرف أو ذاك.. إنه يدعو إلى الحوار وتمثُّلِ قيمه العملية بالحكمة والموعظة، والقول السديد، ووضع الأمور في نصابها، والنصح الرشيد، والوعي بأسسِ الحياة الإنسانية، ووضوحِ رؤيتها الفطرية المشتركة بين كلّ بني البشر.. وهذه قضايا ومفاهيم إنسانية عملية كانت غائبة كلياً في تلك المرحلة (القرون الوسطى) عن الثقافة الغربية التي كانت تضجُّ بالتّخلف والهمجية وهيمنة السلوك اللا إنساني ومعاداة الآخر دونَ أنْ تفهمه وتنفتحُ عليه وتعي أفكاره مفاهيمه، فالانغلاقُ سمةُ الموقف والهوية، والعداء طابعهما العملي للأسف..
وقد بقيت تلك المعايير المغلقة في الثقافة الغربية إلى يومنا هذا، رغم شعارات الانفتاح الذي ترفعه، ولن نعود للماضي كثيراً لنثبت مآلات تلك الثقافة والحداثة الغربية التي لم تبدأ اليوم، بل منذ زمن… على الرغم من أنها دخلت أو أُدخِلت إلى مسارات الوعي البشري كفكرة تقدمية تطورية إنسانية، تستهدف العقل والتنوير وإزاحة التخلف واللاعقلانية من أمام المسيرة الإنسانية، فإذا بها تسقط في فخ ابتذالاتها المادية.. فهل نتذكر مثلاً الحربين العالميتين الأولى والثانية، وصعود الفاشيات والنازية، وتدمير الدول والمدن والعوالم المادية، ورمي القنابل الذرية، والإبادات الجماعية، وحروب الشرق الأوسط الصغرى والكبرى، ومنع الشعوب من تحقيق نهضتها وتنميتها، بما وسع الفارق كثيراً بين الشمال والجنوب..؟!!… هذا كله عبّر ويعبر عن خلفية فكرية وقافية لا تقيم وزناً للغاية والمعنى والقصد الإنساني، وتحضر فيها فقط المنفعة والمادة واللا معنى.. فالوجود مصمت ونفعي.. والأزمة الحضارية الغربية اليوم متفاقمة، أزمة كائنة ومركوزة في البنية والجوهر التي تعود لجذور التأسيس، هي أزمة رؤية الإنسان نفسه لذاته ولغيره.. الإنسان البعيد عن الروح والمنغمس كلياً كعقل بارد في استهلاكيات التسليع المبتذل والفارغ.
