هامش ثقافي

الإبداع بين الإلهام والجنون

بقلم غسان عبد الله

وما قيل عن لحظات الوعي، يقال عن تلك الأوقات التي يُنشئ فيها المبدع موضوعَهُ المتميزَ، فهو في كلِّ الأحوال ابنُ بيئةٍ يعيش فيها، وأرضٍ يمشي عليها، وأمةٍ أو جماعةٍ ينتمي إليهم ويعيش بينهم.. وله طفولةٌ قضاها، وتربيةٌ استوعب مراميها، وأخلاقٌ تشرّبها كما تتشرب الأرض ماء المطر، تداخلت وتشابكت في أعماق نفسه وتركيبة ضميرِه.

كان (فيكتور هيجو) من المؤيدين لفكرة أن للعملية الإبداعية فترة تمهيد وإعداد وتأمُّل، وأن للذكاء والذاكرة دوراً فاعلاً ومؤثراً لا يتسنى لمخيلة المبدع أن تعمل بدونهما، وأن الإلهام عنده كالطائر الذي يخرج من البيضة، لم ينطلق إلا بعد أن مرت عليه فترة رعاية واحتضان ورقاد.. وكأن هيجو يردّ بهذا على من يرى أن في الإبداع ضرباً من السحر والإلهام الهابط من فوق أو انفصالاً عن عالم الاهتمامات والانشغال بأمور حيواتنا اليومية.

وما ذهب إليه (هيجو) لم يكن بِدعاً، فهذا (إدجار آلان بو) يصرُّ على أن العملية الإبداعية موجّهة في كل مراحلها وأن الوعي والتوجيه في صياغة العمل إنما يجريان وفق أهداف وغايات محددة، كأن يلهب في نفوس قارئيه مشاعر الفرح أو الحزن وأن يضع لأشعاره قافية يحدِّدها بنفسه، ووقتاً يستغرقه العرض أو الإلقاء أو القراءة اللازمة للعمل.

وما يعنينا أن وعينا حينما يكون حاضراً في لحظات تفكيرنا المبدع فإنه يدفع بأحداث ماضينا وتجاربنا التي مرت، ومستقبلنا وأمانينا المرتجات لأن تتشابك وتتفاعل فيما بينها وفق مساراتِ ما نملِكُه من مرونةٍ في التفكير وحدّةٍ في الذكاء وقدرةٍ على الاستنباط، ليخرجَ العملُ بعدها في صورةٍ من الجِدة والتفرّدِ وكأنه إِلهام قد هبط علينا من السماء ونحن في غيبوبة وذهول. وأن الإلهام – ونعني به الإبداع، فالإلهام مرحلة من مراحله – لا يعني خلقاً من العدم، ولا هو شرارة تنقدح على حين فجأة في الرأس.

ويؤكّد أصحاب النزعة الاجتماعية على أن للعوامل الوراثية والاجتماعية والتربوية والنفسية أثراً بيّناً في تكوين شخصية الفنان – المبدع – وفي تشكُّل ما ينتجهُ من عمل. ويؤكدون على أن مفهوم الأصالة الخالصة وهمٌ وقع فيه أولئكَ الذين نظروا إلى الفنان باعتباره كائناً غير أرضي، هبط علينا من السماء ويتلقّى الوحي من لَدُنِ موجودٍ عُلْويّ!!.. وكلما وقعنا على تفصيلات حياة الفنان واهتدينا إلى المصادر التي أخذ منها، بدت نسبيته وصار عمله تأليفاً بين أفكار قديمة وتعديلات على ما تلقاه من طرز فنية.

وليس أدل على ما مر بنا من تلك المراحل التي حدّدها دارسو الإبداع، فجعلوا للعمل المبدع مرحلة تهيؤ وإعداد وتجميع للعناصر ذات العلاقة، تأتي بعدها فترة (اختمار) يعاني فيها الفنان أشد لحظات القلق والتوتر لما يقوم به من جهد فكري – في الوعي أو اللاوعي – في تحديد الأشكال وفحص العناصر وما تحمله من خصائص وإمكانات، ومن بعدُ، الخروج بإطار نهائي للفكرة.. ثم يأتي الإلهام هابطاً وكأنه ومضة برق خاطفة، أنارت صفحة السماء وأحالت الظلام إلى نور يبهج القلب ويبعث السرور في النفس.

وماذا إذن عن الالهام الآتي إلينا على هيئة حلم ونحن نائمون، ساهون عن الواقع وشاردون، وفي غفلة عما نعانيه من مخاوف أو قلق..؟ لقد حدثنا (كوليردج) عن قصيدته الشهيرة (كوبلاخان) وبيّن إنه قد كتبها تحت تأثير حلم رآه.. وقال (جوته) إنه قد كتب روايته (آلام فرتر) وهو منصت إلى هواجس آتيه إليه من أعماق نفسه.. بل قيل إن (لامرتين) كان يؤكد للآخرين، أنه لا يُعمل تفكيره بالمواضيع التي تستهويه وإنما أفكاره هي التي تفكر، وماذا عن الأعمال الموسيقية العظيمة التي قدّمها موزارت وهو في بدايات عمره ولم يتجاوز الرابعة عشر عاماً بعد.

أليس في الإبداع شيء آخر هو غير الذي تحدثنا عنه، غير الخبرة والتجارب، وغير الارتكاز على الماضي والانعطاف نحو المستقبل.

لعل أول من استفاض في دراسة موضوعنا هذا هو أفلاطون فقد خرج بنتيجة مفادها أن الإبداع (الفني) ضرب من الإلهام أو الجنون الإلهي، ((وعلى هذا جاء الذين بعده، من المتأثرين بمدرسته، ورأوا فيه الهاماً وسحراً وإعجازاً وقدرة غير عادية اختص بها أشخاص يتميزون بالإحساس المرهف والحدس اللماح والبصيرة الحادة والإدراك النفاذ))..

لقد نظر أصحاب هذا الرأي أن في الابداع شيئاً من الانفصال وقوة خارجة (عليا فائقة للطبيعة) ليست من مكونات العقل عند ذوي الإلهام والابداع، وأن المُلهم فيه لا يعدو أن يصير ((واسطة وأداة، فهو حينئذ لسان حال القوة الفائقة هذه)). وبلغ بهم الحال لأن يُعلوا من النزعة الذاهبة إلى الإعراض عن المنبهات الآتية من المحيط وما يستتبعها من الضغوط المؤثّرة على صفاء الذهن وانشراح النفس، والاستغراق في التركيز على الداخل، والإصغاء إلى خطرات النفس الآتية من الأعماق، بل الإصغاء إلى همسات الوحي الآتي من ربات الإلهام.. حتى ذهب الحال ببعضهم إلى تناول العقاقير المهلوسة والمخدرات، لعلّهم يحظون بلحظات من النشوة والوجد وجيشان الألفاظ والمعاني والخواطر المتواردة على عجل!.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *