إعرف عدوك

لا من إيران ولا من لبنان.. التهديد الوجودي الذي لا يتحدثون عنه

ترجمة وإعداد: حسن سليمان

من المؤكد أن هذه مناقشة مهمة لاستخلاص الاستنتاجات الضرورية، ولكنها ليست المناقشة التي ستضمن مستقبلنا.

إن النقاش المهم حقاً هو كيفية منع الكارثة القادمة، وهذا يتطلب طريقة تفكير مختلفة، طريقة تتجاوز الخطاب الغريزي اليومي وتركز على جذر المشكلة التي تهدد بسحق اقتصاد إسرائيل ومجتمعها وأمنها. هذا التهديد لا يبدأ بإيران.

قد يبدو الأمر محلياً، وقد يبدو مملاً بعض الشيء، ولهذا السبب لن تسمع عنه في الأخبار: “إن الهيكل الحكومي والاجتماعي في إسرائيل هو التهديد الاستراتيجي الأعظم لبقاء البلاد على المدى الطويل”.

انكسار اجتماعي

لم يعد الاستقطاب بين المجموعات في إسرائيل نزاعاً سياسياً عادياً. هو يعكس صداماً جوهرياً بين المعتقدات والقيم الأساسية لكل مجموعة، ما يؤدي إلى حرب قيم لا يرغب أي من الطرفين في خسارتها. وقد رأينا علاماتها المؤلمة بشكل أكثر شدة في السنوات الأخيرة. لسوء الحظ، قد يكون هذا مجرد المقطع الترويجي الدعائي.

انكسار اقتصادي

في إسرائيل، هناك مجموعات متنامية يعتمد نمط حياتها على التمويل من مجموعات أخرى، والتي أصبحت أصغر حجماً. وهذا مبلغ يصل إلى عشرات أو حتى مئات الآلاف من الشواكل سنوياً لكل عائلة، وفي ضوء الاتجاهات الديمغرافية فمن المتوقع أن يتضاعف خلال عقدين من الزمن. ليس هناك سيناريو معقول يسمح للاقتصاد الإسرائيلي بمواصلة تحمل هذا العبء الثقيل من دون أن يؤدي ذلك إلى موجات متزايدة بسرعة من الهجرة. إن أي تحرك للخارج بنسبة قليلة من أعلى شرائح الدخل كافٍ لإحداث أضرار جسيمة للاقتصاد. كلما تأخرنا في اتخاذ الإجراءات اللازمة، كلما أصبح من الصعب إيقاف هذه الكرة الثلجية.

انكسار أمني

انطلاقاً من النقطتين الأوليين، فإن الاقتصاد القوي شرط ضروري لتمويل الاحتياجات الأمنية، في حين أن التماسك الاجتماعي، على الأقل على مستوى ما، ضروري للمِنعة والأمن الوطنيين. الاتجاهات الديموغرافية والاجتماعية الحالية تهدد بسحق نموذج جيش الشعب. إن الجيش الإسرائيلي، كما هو معروف، يعاني حالياً من نقص في الآلاف من الجنود، وهو النقص الذي من المتوقع أن يتفاقم مع مرور السنين، إلى درجة الإضرار بقدراته العملياتية.

يتطلب النظام الموحد المتبع استرضاء جماعات الضغط للحفاظ على الأغلبية السياسية، ولا يخلق حوافز للسياسيين للتعامل مع المشاكل طويلة الأجل. أي حكم يتم انتخابه سوف يجد نفسه خاضعاً لنفس القيود تماماً. لكن على عكس البلدان الأخرى، لا تتمتع إسرائيل بامتياز عدم كونها قوة اقتصادية وأمنية تتمتع بالاستقرار السياسي. إن الاستمرار على المسار الحالي المتمثل في “العمل كالمعتاد” من شأنه أن يعرّض وجود إسرائيل ذاته للخطر خلال نحو عقدين من الآن.

نحن نصطدم بعدة ردود شائعة لهذه التهديدات

معسكر “كل شيء سيكون على ما يرام”: يشمل أولئك الذين يعتقدون أن كل شيء سيكون على ما يرام إذا قمنا فقط بتغيير رئيس الوزراء، وكذلك أولئك الذين يزعمون أنه إذا سمحوا لرئيس الوزراء بالحكم، فإن كل شيء سيكون على ما يرام. إن كلتا المجموعتين تتجاهلان المشاكل البنيوية الأساسية التي قد تتعرض لها أي قيادة.

معسكر “التسوية”: يعتقد أنه إذا اتفقنا فقط على ما هو ممكن، وتنازلنا قليلاً عن ما هو مستحيل، يمكننا أن نعيش هنا معاً. وهذا نهج رومانسي وحسن النية، ولكنه يصطدم بصخرة الواقع مراراً وتكراراً، وخصوصاً في ضوء التغير الديموغرافي.

معسكر “الحسم”: يرى أن استمرار وجود دولة إسرائيل يتطلب قراراً أخلاقياً واضحاً. على سبيل المثال، تدعو أصوات بارزة إلى إلغاء أنظمة التعليم القائمة وإقامة نظام دولة واحدة يسمح للدولة وحدها بتمويله؛ ويطالب آخرون باتخاذ قرار حاسم قيمي قاطع بخصوص الشكل الذي ينبغي أن تبدو عليه المساحة العامة؛ ويطالب البعض بتخصيص ميزانية للمجموعات التي لا تقدم خدماتها على حساب الآخرين، وأكثر من ذلك. إن ما يجمع بينهم جميعاً هو الاعتقاد بأن أحد الجانبين سوف ينحني في نهاية المطاف لإرادة الجانب الآخر انطلاقاً من شعوره بالتفوق الأخلاقي. لقد ثبت أن محاولة فرض قيم موحدة على مجتمع مستقطب يشهد تغيرات ديموغرافية سريعة هي محاولة غير عملية، وتضيع وقتاً ثميناً، وتزيد من حدة الخلاف، وتدمر فرصة استعادة المِنعة الوطنية.

هناك، بطبيعة الحال، من يتحدث أيضاً عن تقسيم دولة إسرائيل إلى كيانين أو عن الخروج منها. وكلا الخطوتين تقودنا إلى نهاية الحلم الصهيوني. إن أي حل معقول يجب أن يعترف بالاحتياجات الحرجة للدولة، ولكن أيضاً بشرعية قيم واحتياجات المجموعات المختلفة داخلها. الحل يكمن في كسر المفهوم الخاطئ المتمثل في “الكل أو لا شيء”، والذي يعني إما أن يعيش الجميع تحت نفس القواعد والقيم والهوية والرؤية، أو لا توجد دولة واحدة. والعكس صحيح: لن تنشأ دولة هنا بعد بضعة عقود إلا إذا توقفنا عن محاولة اتخاذ القرار وفرض مجموعة من القواعد التي تتطلب نموذجاً موحداً – في موديعين وبني باراك وهار براخا وعرعرة – كل ذلك مع الحفاظ على دولة واحدة. أي حل يجب أن يلبي أربعة شروط: حماية قيم الجميع التي ستنهي الصراع الدائم؛ مسؤولية كل مجموعة في تمويل اختياراتها وأساليب حياتها في المستقبل؛ تشكيل حكومة مهنية استراتيجية قادرة على التركيز على مصلحة البلاد على المدى البعيد وليس على بقائها السياسي على المدى القصير؛ وأخيراً، الاستقرار الحكومي الذي يضمن بقاء قواعد اللعبة ثابتة على مر الزمن، كما هو الحال في الدول السليمة.

بعد عملية معمقة من فحص مجموعة متنوعة من النماذج في جميع أنحاء العالم، والتكيف المحتمل مع البنية الاجتماعية الفريدة لإسرائيل، قمنا بصياغة مخطط يقترح الانتقال التدريجي إلى نموذج فيدرالي – أطلقنا عليه اسم “نموذج ألوموت”. وقد تم تصميمه للسماح لثلاث مجموعات رئيسية في المجتمع الإسرائيلي بالعيش دون إكراه أخلاقي أو اقتصادي ودون خوف من الآخر. إن النموذج يلغي الحاجة إلى التفوق على الآخرين في النضال، أو التنازل عن القيم الأساسية.

ستتمتع كل مجموعة بالاستقلالية في إدارة حياتها المدنية، مع تحمل المسؤولية المالية عن اختياراتها، دون فرض ماليتها على الآخرين. وسيكون لدى كل مجموعة المساحة اللازمة للبناء وإيجاد طريقها الخاص دون أن تشعر بالتهديد من قبل الحكومة المركزية. في الواقع، أنشأت مجموعات مختلفة في البلاد بالفعل مناطق حكم ذاتي لأنفسها، حيث لا يتم تطبيق القوانين الحكومية التي لا تناسب المجموعة. وفي النموذج الجديد، سوف يحمي الدستور الفيدرالي قيم الجميع بطريقة منظمة، ما يخلق إمكانيات التعاون الصحي بين المجموعات في إطار سيادة وطنية واحدة. وسيحدد الدستور أيضاً المبادئ والقواعد الأساسية للعبة التي تعتمد عليها الدولة، بهدف استقرار النظام لسنوات عديدة قادمة. وسيعمل القانون على سبيل المثال على إرساء الخدمة الإلزامية للدولة على الجميع بغض النظر عن الجنس أو الدين أو الجنسية، وسيتم تنفيذ ذلك في الجيش الإسرائيلي والمنظمات الحيوية الأخرى.

على سبيل المثال، سوف يكون لدى المجتمع الحريدي الحافز للتصرف مثل المجتمعات الحريدية في العديد من بلدان العالم، والتي تجمع بين حياة المجتمع المستقلة التي تركز على دراسة التوراة وبين سبل عيش المجتمع. وبالإضافة إلى المسؤولية المالية التي ستقع على عاتق الجميع، ستحصل الفئات الأضعف على إعانات لفترة انتقالية، ما سيسمح لها بالتكيف مع الواقع الجديد. هذا ليس حلاً بسيطاً أو مثالياً، لأنه لا توجد حلول كهذه للمشاكل المعقدة. ويظهر نموذج “ألوموت” أن هناك حلولاً تلبي الشروط الأربعة، ويوفر نقطة مرجعية يمكننا أن نبدأ منها ونجري مناقشة جادة حول القضية الأكثر أهمية لمستقبلنا. علينا أن نبدأ بالاتفاق على نقطة انطلاق مشتركة، والاعتراف بالمخاطر الوجودية، والحدود الزمنية لمعالجتها، والسعي إلى ضمان بنية حوكمة مستقرة وفعالة بقواعد معروفة للعبة، والتي لا يمكن تغييرها بناء على الأهواء السياسية المتغيرة.

لقد أوضحت لنا الفترة الماضية من العام والنصف مدى عدم فعالية النظام القائم في إسرائيل، وأن من واجبنا أن نتحدى التوافقات الأساسية التي نحن أسرى لها. إن الكارثة القادمة لن تأتي على الأرجح من ثغرة في السياج، بل من الشقوق في بنية الحوكمة القائمة في إسرائيل، وقد تكون قاتلة للبلاد إذا لم نستيقظ. إن التغييرات الشكلية لن تكون كافية لضمان مرور 100 عام على إنشاء إسرائيل كدولة آمنة ومزدهرة. يتعين علينا معاً إعادة بناء أسس حكم الدولة بما يتناسب مع بنية وقيم السكان. ندعو الجميع للحضور والتفكير معاً في الحلول المناسبة. إن نافذة الوقت لم تغلق بعد، ولكن لم يعد لدينا وقت لنضيعه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *