إقليميات

قمة عربية في القاهرة لوأد نَموذج المقاومة في غزَّة

بقلم توفيق المديني

فإنَّ حقيقة المقاومة – النموذج في التصدي لهذا العدو الأمريكي – الصهيوني، تجلى أمام كل العالم في نموذج المقاومة في قطاع غزة بقيادة حماس، وفي شمال فلسطين بقيادة حزب الله اللبناني.

هذا النموذج من المقاومة العربية للاحتلال الاستيطاني الصهيوني المدعوم من الإمبريالية الأمريكية، بات الآن مطلوبا دولياً وعربياً من أجل تصفيته، وإن كان مختبئاً داخل عبارات بديلة ملغّزة مثل “إعمار غزّة”. نعم، يا لسخرية المصطلحات حين تطلق كلمة إعمار، وهي تعني سحق المقاومة في غزّة وتدميرها وإبادتها.

لهذا السبب بالذات عقدت القمة العربية في القاهرة، والتي في ظاهرها قمة لبحث خطة إعمار مضادة للمشروع الذي أطلقه الرئيس الأميركي دونالد ترامب ” الخاصّ بتهجير سكّان قطاع غزّة، وبناء “ريفييرا” مكانه، لكنها في جوهرها تستهدف تصفية المقاومة الفلسطينية في غزَّة بقيادة حماس، وسحق “نموذج غزة” في المقاومة، الذي بات يشكل تهديداً استراتيجياً ليس للكيان الصهيوني فحسي، ولكن أيضاً للتحالف الغربي بزعامة الإمبريالية الأمريكية، وللأنظمة العربية التي تبنت عقيدة الصهيونية العربية المتحالفة مع الصهيونية اليهودية، عبر اتفاقيات التطبيع الإبراهيمية.

ومن هنا برزت معالم التحالف الدولي لسحق هذا النموذج “الشاذ” من المقاومة العربية، من وجه الحياة في غزَّة، شجراً وبشراً وحجراً، فوق الأرض وتحت الأرض، لتكون النتيجة تلك الأرقام الفلكية من الشهداء والجرحى، ومحو كلّ ما يدل على وجود شعب فلسطيني في قطاع غزّة، على غرار ما فعله المستوطنون البيض في القارة الأمريكية عندما أبادوا السكان الأصليين من الهنود الحمر.

قمة القاهرة وإعادة إنتاج العجز العربي

اعتمدت القمة العربية الطارئة التي انعقدت في القاهرة يوم الثلاثاء 4 مارس/ آذار 2025، الخطة المصرية لإعادة إعمار قطاع غزة دون تهجير سكانه، وفق مراحل محددة. وغاب عن هذه القمة العديد من الرؤساء والملوك العربية، أبرزهم قادة دول المغرب العربي الثلاث: تونس والجزائر والمغرب، والمملكة السعودية، حيث اكتفت هذه الدول بالمشاركة في القمة من خلال وزراء خارجيتها.

فالرئيس التونسي قيس سعيَّدْ كلف وزير الشؤون الخارجية والهجرة والتونسيين بالخارج محمد علي النفطي أن يترأس الوفد التونسي المشارك بأعمال القمة العربية الطارئة في القاهرة، والسبب في ذلك موقفه المبدئي من التطبيع مع الكيان الصهيوني باعتباره “خيانة قومية”. فكيف له أن يحضر قمة، يستهدف الحاضرون فيها من رؤساء وملوك عرب، تصفية المقاومة الفلسطينية.

أما الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، فقد “قرر عدم المشاركة شخصياً في أشغال القمة العربية الطارئة التي تستضيفها مصر، على خلفية الاختلالات والنقائص التي شابت المسار التحضيري لهذه القمة حيث احتُكر هذا المسار من قبل مجموعة محدودة وضيقة من الدول العربية التي استأثرت وحدها بإعداد مخرجات القمة المرتقبة بالقاهرة دون أدنى تنسيق مع بقية الدول العربية المعنية كلها بالقضية الفلسطينية”.

وأكد المصدر الجزائري ذاته أن تبون “حزَّتْ في نفسه طريقة العمل هذه التي تقوم على إشراك دول وإقصاء أخرى، وكأن نصرة القضية الفلسطينية أصبحت اليوم حكراً على البعض دون سواهم”. وتعد هذه القمة الرابعة التي يتغيب عنها الرئيس عبد المجيد تبون، والذي لم يشارك في قمة الرياض عام 2023 وفي قمة البحرين عام 2024، كما لم يشارك في القمتين الطارئتين العربية والإسلامية اللتين عقدتا على التوالي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 ثم نوفمبر 2024 في الرياض، لبحث تطورات العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. وغاب ملك المغرب محمد السادس بسبب المرض.

وفي هذا السياق، غاب عن القمة الرجل القوي في المملكة السعودية ولي العهد محمد بن سلمان، والرئيس الإماراتي محمد بن زايد، وهما من أكثر الأطراف العربية عداءً لحركة حماس، وقادا جهوداً مكثّفة للضغط على مصر وقطر لإقناع المقاومة الفلسطينية بتقديم تنازلات إضافية. فقد  تمسّكتْ السعودية بضرورة نزع سلاح المقاومة الفلسطينية، وإخراج قادة الأجنحة المسلحة من القطاع، ضمانة لعدم تكرار الحروب على القطاع وتدمير ما سيجري بناؤه، وذلك في مقابل تمويل عمليات الإعمار، وهو الموقف نفسه الذي تبنّته دولة الإمارات، في حين لم يلق هذا التصور قبولاً قطرياً كاملاً، بينما اكتفت مصر بتقديم ملاحظات عليه.

الدول الخليجية تريد ترتيب المشهد الفلسطيني، بما يتناسب رغباتها الإيديولوجية والسياسية المناهضة لحركات الإسلام السياسي، التي تتقاسم وإياها نفس المرجعية الإسلامية في الحكم، وأصبحت تخاف من وصولها إلى السلطة عن طريق الانتخابات، مما يهدد عرش الممالك الخليجية المحمية من قبل الإمبريالية الأمريكية.

أما الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي يعمل حارساً أميناً للاحتلال الصهيوني في الضفة الغربية، (وكما كان يقوم بهذه الوظيفة العميل اللبناني أنطون لحد في جنوب لبنان)، وباتت وظيفته ومعه الـ 45000 من رجال الشرطة الفلسطينية الذين يتقاضون رواتبهم من العدو الصهيوني، تكمن في ملاحقة المقاومين الفلسطينيين من فصائل حماس والجهاد الإسلامي الذين يتصدون لجيش الاحتلال الصهيوني في جنين وباقي مدن الضفة. ويطمح عباس المتهم من قبل المقاومة العربية في فلسطين وباقي دول المنطقة بالخيانة الموصوفة للقضية الفلسطينية، إذ يريد تصفية حماس في غزَّة، لكي تتولى دولته الفلسطينية الكارتونية مهامها في قطاع غزة من خلال مؤسساتها الحكومية، وتتسلّم “الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية مسؤولياتها بعد هيكلة وتوحيد الكوادر الموجودة في غزَّة، وتدريبها في مصر والأردن”.

وألقى الوافد الجديد من سوريا الذي يحضر لأول مرَّة مؤتمر القمة العربية رئيسها الانتقالي أحمد الشرع، خطاباً أكّد فيه أنَّ “الدعوة لتهجير الشعب الفلسطيني من أرضه بشكل قسري وصمة عار ضد الإنسانية”، مشيراً إلى “المحاولات الجديدة التي نراها اليوم لفرض حلول تسعى لرسم خرائط جغرافية جديدة على حساب دماء الشعب الفلسطيني”.

واعتبر الشرع أنَّ “دعوات تهجير الفلسطينيين ليست تهديداً للشعب الفلسطيني فقط بل للأمة العربية بأسرها”، داعياً الدول العربية إلى “الاتحاد في مواقفها وأن تتحمل مسؤولياتها تجاه الشعب الفلسطيني”.

وحول العدوان الصهيوني المستمر على سوريا، أكّد الشرع أنَّ “إسرائيل منذ احتلالها للجولان السوري عام 1967 لم تتوقف عن انتهاك حقوق شعبنا”. وإذ جدّد تمسكه “باتفاق فض الاشتباك لعام 1974″، أكّد الشرع أنَّه “لا يمكن القبول بأن يستمر الجانب الإسرائيلي في تجاهل هذا الاتفاق”.

ما هي الخطة المصرية لإعادة إعمار غزَّة؟

الشعوب العربية لم تعد متفائلة كثيراً بنتائج القمة، ولا تتوقع أن تخرج بقرارات تتجاوز السقف التقليدي للدعم العربي المعلن للقضية الفلسطينية، نظراً إلى “الخلافات الحادة” التي سبقتها حول مستقبل القضية الفلسطينية عموماً، ومستقبل قطاع غزة بشكل خاص، ما يعزز الشعور بأنها ستكون مجرد محاولة أخرى لصياغة موقف عربي مشترك، من دون أدوات حقيقية تضمن تنفيذه على الأرض.

الخطة المصرية تضمنت مقترحاً لإنشاء لجنة عربية ودولية تتولى ترتيب الهيئات الأمنية والإدارية في غزَّة، “بهدف تبديد المخاوف الإسرائيلية” من استمرار وجود حركة “حماس” في إدارة القطاع. ووفقاً لمصادر دبلوماسية مطّلعة، فإنَّ اللجنة ستضم ممثلين عن دول عربية بارزة إلى جانب أطراف دولية أمريكية وفرنسية وبريطانية، في إطار دور أوسع يشمل إشرافاً مباشراً على إعادة الإعمار، مع تسريع وتيرة التنفيذ في ظل ضغوط الوقت والمخاوف من انفجار الأوضاع مجدداً.

ومع ذلك، فإن نجاح هذه الصيغة سيظل مرهوناً بمواقف الدول الفاعلة، خاصة مع تزايد الانقسامات الإقليمية، وتباين المواقف حول مسار إعادة الإعمار ومصادر التمويل وآليات التنفيذ، فضلاً عن الشروط السياسية التي تحيط بهذه العملية، والتي تعكس فجوة متعمّقة في المواقف بين الدول الخليجية نفسها، وكذلك بين الأخيرة ومصر.

وفي السياق نفسه، أوردت قناة “كان” الصهيونية، أنَّ رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، عرض خطة لتشكيل لجنة تتولى إدارة قطاع غزة من دون مشاركة “حماس”. وقال المحلل الصهيوني في “كان”، أليؤور ليفي، إنَّ “أبا مازن يرفض تقاسم الحكم مع حماس، ويرفض مقترح حماس لإدارة القطاع بواسطة شخصيات مدنية مستقلة، ويُصِرُّ على أنْ تكون اللجنة التي ستقوم بإدارة القطاع تحت سيطرة السلطة، وسوف يعين نائباً لرئيس الوزراء الفلسطيني، يكون هو مسؤول هذه اللجنة”.

من جهته، قال الناطق باسم “حماس”، حازم قاسم، “(إنَّنا) وافقنا على تشكيل لجنة إسناد مجتمعي في غزة لا تشمل الحركة”، لافتاً إلى أنَّ “حماس” لا تريد أن تكون “جزءاً من الترتيبات الإدارية في غزَّة طالما تَتِمُّ بتوافقٍ وطنيٍّ”. وأكّد أنَّ الحركة لن تكون “عائقاً أمام أي ترتيبات في غزَّة طالما تحظى بالتوافق الوطني”، مضيفاً “قادرون على التوصل إلى مقاربة توافق فلسطيني بدعم عربي”..

وأكّد السيسي أنَّ هذه الخطة “يجب أن تشهد على التوازي، مسار خطة للسلام من الناحيتين السياسية والأمنية، تشارك فيها دول المنطقة، وبدعم من المجتمع الدولي، وتهدف إلى تسوية عادلة وشاملة ومستدامة للقضية الفلسطينية”، داعياً “كل الدول الحرة والصديقة للإسهام في هذا المسار والمشاركة بفاعلية في مؤتمر إعادة الإعمار الذي سوف تستضيفه مصر الشهر المقبل”، وتوجيه الدعم للصندوق المزمع إنشاؤه لهذا الغرض. وتُقدِّرُ تكلفة إعادة الإعمار بحوالي 53 مليار دولار، تتضمّن مشاريع تطويرية تشمل بناء مساكن ومرافق عامة ومراكز اقتصادية، تبقى هذه الخطة “مرهونة” بالتطورات السياسية والموقف الإسرائيلي من أي ترتيبات جديدة في القطاع.

وبشكل عام، ركّز البيان الختامي على أربعة محاور رئيسية، شملت: رفض تهجير الفلسطينيين، ودعم خطة إعادة إعمار غزة، وتعزيز دور السلطة الفلسطينية، والتأكيد على مسار “حل الدولتين كمسار وحيد لتحقيق السلام”. غير أن هذه العناوين العريضة، والتي لم تتطرّق القمة إلى آليات واضحة لتنفيذها، تبدو أقرب إلى “ثرثرة بروتوكولية” منها إلى مخرجات قادرة على إحداث تغييرات حقيقية إزاء المخاطر التي تتهدد القضية الفلسطينية، ومساعي تصفيتها.

لقد خرجت القمة العربية الطارئة التي انعقدت في القاهرة تحت عنوان “قمة فلسطين”، بنتائج هزيلة تعكس حقيقة العجز العربي، على الرغم من أنَّ القاهرة عقدت على القمة “آمالاً” بإمكانية الخروج بموقف عربي موحّد وقوي قادر على التأثير الفعلي في مسار القضية الفلسطينية، ردّاً على التهديد بالعودة إلى الحرب في قطاع غزة، والتهجير القسري للفلسطينيين منه، والحديث عن الضمّ الصهيوني للضفة الغربية.

الكيان الصهيوني والتوسع في احتلال الأراضي العربية

لم تتطرق القمة العربية في القاهرة، إلى التوسع الاستيطاني الصهيوني، ورفض الكيان الصهيوني البدء في المحادثات التي التزم بها في اتفاقية كانون الثاني/ يناير. وبدلاً من ذلك يطالب العدو الصهيوني بتمديد المرحلة الأولى من الهدنة، التي يريد فيها من حماس أن تطلق سراح ما تبقى لديها من أسرى وعددهم 59 أسيراً. ولكي يزيد من الضغط على حماس والقبول بتعديل الاتفاق، قام جيش الاحتلال الصهيوني بمنع المساعدات الإنسانية دخول القطاع الذي مزقته الحرب، وتعطيله للاتفاق باعتباره جزءاً من تحول استراتيجي أوسع، يحاول فيها جيش الاحتلال الصهيوني الحفاظ على وجود جغرافي واسع، بما في ذلك المناطق غير الخاضعة للكيان الصهيوني، وقد بدأ في إنشاء ما يعتزم أن تكون “مناطق عازلة” غير محددة على أربع جبهات: في غزة وعلى الحدود مع لبنان وسوريا، وفي الضفة الغربية.

فالكيان الصهيوني لم يلتزم بما نص عليه اتفاق وقف إطلاق النار مع حزب الله الذي رعته الولايات المتحدة في العام الماضي، وكان من المفترض أن تغادر قوات الاحتلال الصهيوني الأراضي اللبنانية نهاية كانون الثاني/ يناير2025. ويبرر الكيان الصهيوني هذا التأخير بزعم الحاجة إلى حماية التجمعات الصهيونية القريبة من الحدود مع لبنان. وتقول حكومة نتنياهو إنَّ الجيش سيخلي هذه المواقع بمجرد تأكده من قدرة الجيش اللبناني على تأمين الحدود ومنع حزب الله من دخولها، ولم يتضح بعد ما إذا كانت هذه القوات قادرة على القيام بهذه المهمة. وبعيداً إلى الشرق في مرتفعات الجولان السوري المحتل انهار اتفاق وقف إطلاق النار مع سوريا أيضاً. وقد وقع الاتفاق مع نظام حافظ الأسد في عام 1974. وعندما قامت قوات المعارضة بإخراج ابنه بشار الأسد من السلطة في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، اجتازت قوات الاحتلال الصهيوني الحدود إلى الجولان واحتلت أراض سورية. وكان المبرر الأصلي لهذا التصرف، عدم وجود قوات معترف بها على الحدود.

وفي 23 شباط/ فبراير، قال نتنياهو إنَّ “إسرائيل” “لن تسمح لقوات هيئة تحرير الشام أو الجيش السوري الجديد بدخول المنطقة في جنوب دمشق”. وطالب بـ “نزع السلاح الكامل في جنوب سوريا بمحافظات القنيطرة ودرعا والسويداء من قوات النظام الجديد”.

ويستعد نتنياهو لشنِّ الحرب من جديد في غزَّة، إذا استمرتْ حماس في رفض تغيير شروط الاتفاق، فقد لا تكون حماس قلقة من استئناف الحرب، وهي تستعيد السيطرة المدنية على القطاع وتقوم بإعادة بناء قواتها التي أضعفتها الحرب. وما دامت حماس متمسكة بخيار المقاومة، وترفض إلقاء سلاحها، فإنَّ جيش الاحتلال الصهيوني يمهد الطريق للخطة، التي أعلن عنها دونالد ترامب أولاً، لإزالة سكان غزة بالقوة عبر التهجير القسري، وبناء “ريفييرا” الشرق الأوسط العزيزة على قلب ترامب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *