فضاءات فكرية

كيفَ يمكنُ لهذه “الأمّة” أنْ تَخرجَ من مَهاوي التّشتتِ والضّياع؟!

بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

والتخريب الممنهج لعقول أبنائها في الإصرار على العيش خارج العصر، والتموضع بعيداً عن الراهن الحياتي المعاش، والبقاء خلف أسوار حديدية لهوية تاريخية مغلقة تحتكر الحقيقة وتحارب الوعي والاعتدال والأخلاق الإنسانية..!!. وما زال ضباع العالم يرهنون إرادتها، ويتحكمون بقرارات أبنائها، ويستبيحون ثرواتها، ويتحكمون بكل مفاصل حياتها حتى الداخلية منها.

وقد يسأل البعض هنا: أصلاً، هل تدرك هذه الأمة فعلياً – خصوصاً نخبها وأصحاب القرار فيها – أنها تعيش في القاع التاريخي للحياة منذ زمن طويلاً؟! وهل من سبل للحل وإمكانية خروجها من المستنقعات التاريخية والمعاصرة التي تتواجد فيها؟!..

نعم، هذا صحيح.. لا يمكن البدء بالنهوض وانطلاق مسيرة الخلاص ورحلة العلاج والتعافي للأمة في تحررها من قيمها السالبة لوجودها الفاعل، من دون الإقرار بعدة أمور:

أولها: الاعتراف بأن الأمة هي فعلياً واقعة في قاع الحياة والتاريخ البشري المعاصر، ولا يوجد بعد قاعها قاع.. رغم كل مظاهر الحداثة القشرية الشكلية التي تتواجد في بعض بلدانها.. إذ هي مجرد زخارف وتنويعات مظهرية على مواقع تخلفها المقيم..

ثانيها: أن تتوقف الأمة عن التنقيب والحفر في تاريخها (وقاعها التاريخي الممتلئ عن آخره بأفكار العنف وثقافات القتل وفتاوي القمع والإقصاء الممنهج) منعاً لمزيد من السقوط والهبوط نحو قاع آخر أسفل من قاعها الأول.

ثالثها: اتخاذ قرار كامل وشامل للبدء بالصعود نحو سلم العلاج والتعافي الحقيقي بإرادة صلبة وحديدة، مع تناول برنامج من الدواء للعلاج والخلاص من الأمراض التاريخية والمعاصرة المزمنة..

ولا شك بأن رحلة العلاج صعبة وطويلة، ومكلفة، ولكن لا بد من البدء بها داخلياً قبل اتهام الآخرين في الخارج بأنهم يقفون عثرة في طريقها، وفي اعتقادي أن رحلة الصعود من القاع والحفرة التاريخية التي ما زالت الأمة غاطسة فيها ومستغرقة في مستنقعاتها منذ قرون طويلة، يمكن أن تنطلق وتبدأ من خلال ما يلي:

أولاً- النظرة النقدية للقيم المهيمنة في العائلة والأسرة العربية المسلمة، وضرورة العمل على إصلاح واقع الأسرة في قيمها وأساليب تربيتها وسلوكيات أبنائها وإصلاح عملية تعليمهم المدرسية.. فالأسرة العربية – عموماً – ما زالت تهيمن عليها علاقات وقيمٌ تربوية تاريخية لا علاقة لها بقيم الدين الأصيل بالمطلق، بل هي قيم مشحونة بعادات وتقاليد تاريخية ناجمة وقادمة من عهود التخلف، لا تحترم الآخر، ولا تقدر العقل ولا العلم، ولا تقيم وزناً للمرأة ولحقوقها، بل تستند على ثقافة تاريخية متخلّفة تقدس العقلية الذكورية، وتعتبر المرأة كائناً وظيفياً ناقصاً ليس من مهمته سوى زيادة السكان وإمتاع الرجال للأسف..!!. يعني أنها ثقافة غير إسلامية، لأن الثقافة التربوية الإسلامية تعطي المرأة حقوقها، وتعتبرها إنساناً قائماً بذاته، وهذا ليس له أي وزن في عالم التربية التقليدية العربية التي ما زال صنّاعها يقيمون في الحفرة التاريخية إياها، يرتاحون، ويستثقلون أي فعل للصعود ورحلة التشافي العقلية والحضارية.. بل هم مصرّون في الغالب على تقديم الدين نفسه بصورة التوحش والعنف والإقصاء وقتل المخالفين..!!.

إنّ بناء المجتمع السليم والمعافى في قيمه وعلاقات أبنائه ببعضهم البعض، وفي نهضته وازدهاره لتحقيق السعادة والهناء، يستلزم إصلاح قيم الأسرة التي تتقوم بها راهناً، ومسؤولية الإصلاح والتربية السليمة ومكافحة الأفكار التاريخية المتحجرة ترتكز على وعي الأهل في ضرورة تعليهم وتوعيتهم أولاً.. فــــــ” كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته. والرجل راع ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية ومسؤولة عن رعيتها“، كما يقول الرسول الكريم(ص)..

ولا شك بأن القيم التي يتلقاها الفرد في أسرته، لا تأتي فقط من الأب والأم، بل هناك المدرسة والجامعة والشارع والأصدقاء والهيئات الاجتماعية، والعلاقات القائمة في المجتمع، فكلها لها تأثير كبير على تربيته وتنشئته وبنائه من الداخل، ولكن الأساس في الموضوع هنا هو الأسرة والعائلة.. مضافاً إليه طبيعة النظام السياسي – الاجتماعي القائم الذي يتقوم بأفكار وقيم وانتظامات قيمية اجتماعية..

ولكن الأثر الأكبر لبناء وتشكيل الشخصية العربية يأتي من المبادئ الدينية، والثقافة والتاريخ (عادات وتقاليد) بما فيه من قصص وحكايا وأساطير نقلت من جيل إلى آخر..

وهذه كلها باتت بحاجة ماسة للإصلاح والتطوير، خصوصاً تلك القيم التربوية التي أثبتت قرون طويلة من هيمنتها، أنها لا تبني الشخصية العربية المنفتحة والقوية، بل تبني الشخصية العربية المنغلقة والمنعزلة والمنكفئة على ذاتها وقيمها وهويتها التاريخية بعيداً عن قيم العصر.. والدليل على ذلك هو واقعنا العربي والإسلامي القائم الذي يعاني من شيوع التخلف الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ليس فقط نتيجة مؤامرات الخارج، بل قبل ذلك نتيجة هيمنة قيم اجتماعية وثقافة تاريخية حوّلت الفرد العربي لمجرد كائن وظيفي منغلق غير متوازن، لا يرى وجوده في حاضره ومستقبله بل في ماضيه المزدهر بالأمجاد التليدة.. حيث أننا فيما يخصنا كعرب لم نفهم التاريخ كعبرة ومواقع للدرس والاعتبار والتجربة، بل فهمناه كغاية وهدف ومنتهى. لهذا بقينا مكاننا نتعيش على إنجازات الآخرين، بينما شعوب أخرى اعتبرت التاريخ ذاكرة وتراث مضى لا يستعاد، وانطلقت بالعقل والعلم لتبني وتنتج في حاضرها وتؤمن مستقبل اجيالها، ووصلت وحققت وأثمرت. هنا يكمن الفارق بين رؤيتين غير متماثلتين لروح التاريخ ولمعناه وحقيقته..

وكنتيجة طبيعية لعدم قيامنا بإصلاح عاداتنا وتقاليدنا، وتغيير كثير من معالم قيمنا التي اعتقدنا أنها ستقودنا للنجاح والازدهار، فقد بات واقعنا العربي، لا ينتج لنا سوى مزيد من أفكار وعلاقات وثقافة القطيع والأوهام، ولا يقدم لنا سوى كائنات (إمّعات) مشوّهة وظيفية جهازية مستلبة، خاضعة خانعة مستكينة..

نعم، الحياة تقوم بالإنسان في تربيته وتقويم عاداته وانفتاحه على عصره في مواقع قوته وازدهاره ورفعة مكانة الإنسان فيه، ولكن ليس كل إنسان قادر على إنتاج وبناء وصناعة حياة صحية سليمة مزدهرة.. وليس باستطاعة أي إنسان إنتاج واقع سياسي وإنساني يعيش فيه الناس بازدهار ووعي ومسؤولية.. من يفعلها فقط هو الإنسان الفرد الذي يتربى في ظل قيم وهوية منفتحة غير منغلقة، الفرد الحاصل على حقوقه دون منّيّة من أحد، والقادر على المشاركة في صنع قراره ومصيره، والوصول إلى حاجاته وموارده بسهولة ويسر دونما إعاقة أو امتناع.. وهذا ما يوصلنا إلى البند الثاني من معالم إصلاح الواقع العربي، وضرورة نهضته خروجه من الحفرة التاريخية الذي ما زال قابعاً فيها، وهو بند الحقوق.

ثانياً- تأصيل ثقافة الحقوق والعقد الاجتماعي المضمون دستورياً: حيث أن بناء الإنسان وتربيته وتطويره عقلياً وعلمياً وقيمياً على نحو صحيح وفاعل وإيجابي، يتم فقط – ليس عبر العقائد والأيديولوجيات – بل عبر الحقوق والعدالة وسيادة القانون وتربيته على قيم العصر الفاعلة.. أي يتم غبر الثقافة المنفتحة على الحياة والعصر والإنسان الآخر.. وهذه قاعدة أساس لتحسن أخلاقه وسلوكه وعلاقاته.. فعندما يحصل الفرد على حقوقه، يندرج في بناء ذاته وحياته، ولا يعاني من عقدة المظلومية، بل ينفتح على غيره، وتتغير معالم شخصيته.

إن الحقوق أساس وقاعدة بناء الفرد والأسرة والمجتمع، ولا يمكن لكل دعوات البناء الأخلاقي القيمي أن تنجح – كما يؤكد التاريخ – من دون أن يحصل الفرد والناس على حقوقهم، فالحقوق هي التي تأتي بالأخلاق بالضرورة..!!. وليس العكس صحيحاً بالمطلق.

الناس خاضعون لمصالحهم ومرتهنون لحاجاتهم ومكاسبهم (لقمة عيشهم)، أكثر من خضوعهم وارتهانهم لأخلاقهم وقيمهم، وإلزامات مبادئهم القارّة..!!..

وبقناعتي: لا حل لإشكالية عدم توازن معادلة الأخلاق والمصالح، إلا بإحقاق الحقوق..!!.. ومن المعروف واقعياً أنَّ القسر لا يبني أفراداً أخلاقيين، ولا يثمر مناخات أخلاقية، كما أنه لا ينتج مجتمعات الصلاح والتقوى والعفاف.. والمعيشة الصعبة الضاغطة هي أكبر منتج ومولّد للأزمات الاجتماعية، ولقلة الأخلاق وشيوع الفساد والتفكك الاجتماعي..!!.

وقد أثبتت التجارب التاريخية للدول والحضارات التي استثمرت في التربية الحقوقية وتنمية العقول وصناعة الإنسان، وتربيته على العلم والعقل والانفتاح الحياتي، وتفجير مواهبه وقابلياته، أن الأخلاق وقيم العدل والكرامة ليست شيئاً معنوياً بل هي قبل ذلك، وفوقه، مسألة ترتبط بالوجود الاجتماعي المادي للفرد.. يعني هي ليست قيمة نظرية مثالية مفارقة في عوالم التجريد الرومانسي..

على هذا الطريق يمكن التأكيد على نقطتين:

1- أنّ المعيار الجوهري لأخلاق الفرد البشري وقيمه هي رفاهيته وقدرته على التمتع بمختلف مفردات عيشه وحياته.. أي تأمين حقوقه وحاجاته.

2- مقياس ومعيار شرعية النظم والحكومات يتمثل ويتجلى في مدى تأمينها للفرص والظروف والأرضية الملائمة لوصول الفرد إلى تحقيق رفاهيته وتمكينه من ازدهاره ورفاهيته..

وقد كان العرب يضعون آمالهم العريضة على قيامة الدول الوطنية العربية، وبدء مسيرة النهوض والتحرر والتنمية، ولكن للأسف كانت تلك الدول – القائمة على القبلية وشوكة العصبية التاريخية – منيعة على التغيير الحقيقي وعصية على مبادئ الحقوق والدولة الوطنية القائمة على الحريات والمواطنة والانفتاح الاقتصادي.

..هذا الفشل في بناء الدول الوطنية المدنية، والقصور في مشاريع النهضة التي عرفها الوطن العربي في كل مواقعه وامتداداته، يعود لأسباب كثيرة تاريخية وثقافية وسياسية..  فكانت النتيجة أن تعمقت وتكرست أمراض مجتمعاتنا العربية وعلى رأسها ثلاثية: الاستبداد والفقر والفساد.. وهذا ما زاد في حجم التدخلات الخارجية، السياسية منها والعسكرية.. حيث العربدة والصلافة الأمريكية والإسرائيلية السافرة.. نعم، عندما نبني الإنسان على الحقوق، ونؤسس للعقلانية، ونهتم بالعلم والمعرفة، ونبتعد عن الهويات المغلقة، ونعلي من قدر الانسان وكرامته، سيقل كثيراً حجم تدخلات الآخرين، وقد نتمكن من إيجاد موقع ومكانة لنا في معادلات القوة والدور إقليمياً ودولياً..

وهناك من يحذر أن الآخر خصوصاً الغرب وإسرائيل، سيقف بقوة ضدنا، ليمنعنا من إصلاح حالنا وأحوالنا، وسيسعون (الغرب وأمريكا وإسرائيل) دوماً لخلق فوضى في المنطقة..

هذا الكلام صحيح، فالمؤامرات موجودة، ولن يهدأ الغرب وغيره، لإعاقة مسيرة تعافينا، ولكن يجب أن نعلم أن المؤامرات والفوضى لا تنجح في المجتمعات المستقرة الراكزة الحاصلة على حقوقها، تنجح فقط في المجتمعات المريضة المليئة بالتناقضات التاريخية والقائمة على العنف والصراعات والتوترات وتغذية الفتن… فمثلاً بلد كسويسرا لا يمكن أن تفعل فيها فوضى أو فتنة، لأن تربة ومسببات الصراع والتناقضات هناك غير موجودة، موجودة عندنا، لأننا مريضون بالتاريخ وقيم التاريخ وعادات التاريخ، مرضون باللا حقوق واللا أخلاق، مريضون بهيمنة عادات التخلف التي باتت ديناً بحد ذاته..

نعم، الأمة (أو ما بقي منها) لن تخرج من أزماتها وترتاح من أمراضها إلا بالحقوق وعلى رأسها الحرية والانفتاح.. فالحقوق أساس الإيمان وقاعدة الفضيلة والقيمة.. ولا إيمان بلا حرية ولا فضيلة بلا وعي ومسؤولية.. ومثلما أنّ الإكراه على الفضيلة، لا يصنعُ الإنسان الفاضل والمجتمع الفاضل الأخلاقي الذي نطالب به وبصناعته، كذلك الإكراه على الإيمان لا يصنع الإنسان المؤمن والمجتمع المؤمن.. والدليل على ما تقدم، ما نراه عملياً في مجتمعاتنا، حيث توسّع وتفشّى الإيمان الظاهري التقليدي الإكراهي الخالي من الوعي والاختيار والتأمل والجوهر الإنساني، وحيث شاعت السلوكيات الوظيفية المبتذلة الناجمة عن الإكراه على الفضيلة والقيمة الأخلاقية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *