أول الكلام

وللرمالِ عتابُها.. “حينَ أطرِقُ خجلاً من دم الشهيدِ”

بقلم غسان عبد الله

هي غابةٌ‏ أرّختُ وجهي في جذور مياهها‏.. وزرعتُ صوتي‏ في رنيمِ السرب غيماً..‏ أو قطا‏ حمّلتُها طلعي فماجت في اخضرارٍ..‏ لمْلَمَتْ خجلَ الرمالِ‏ وروّجتْ للصبحِ‏ أن يلجَ الصعودَ مُسالماً‏ ومُعاركاً‏.. رفّت طيورٌ..‏ لوَّنَتْها رهجةُ الصحراءِ أخلاقاً‏ وعزماً..‏ لو تدبُّ الضادُ قفراً‏ يشربُ التاريخُ أنهاراً‏ من الألقِ المسيّجِ بالعبيرْ.‏.

هي غابةٌ‏ ضلتْ طريقَ أريجها‏ فتشامخَ الشجرُ الكئيبُ بلا براعم مُسْنِداً كِفْلَ الدهورِ‏ إلى كثيبٍ..‏ لا يشمُّ روائحَ الكلماتِ حينَ تساقطتْ‏ مِنْ فِيهِ حيرى رثّةَ النغماتِ ترسمُ مجدَها في معقلِ الريحِ القصيّةِ‏ وهي تبكي حاضراً‏ مَيْتاً‏ وتنعي..‏ أين زندٌ؟‏ حان قطفُ الشرِّ‏ والدّجلِ الضريرْ‏..

هيَ غابةٌ‏ ولجتْ على أغوارها قصصي فأحْيَتْ‏ مشتلاً عبقاً..‏ تطرَّزَ بالسخيّ من الدماءِ الغادياتِ‏ على مساكبهِ انهماراً‏ كي تعاجِلَني جروحُ الغيم ثلجاً أبيض الخطراتِ محمولاً على‏ نُبلِ الشهيدِ‏ ولا نمدُّ إليه عوداً من رؤىً‏ وكأننا‏ نلجُ الفناءَ بأرجلِ الغسقِ الكسيرْ‏..

هي غابةٌ‏ ما عدتُ أحتملُ التعلّقَ‏ في مفاتنها.. فما‏ أبقيتُ ركناً‏ بين عطر الياسمينِ‏ وقصفةِ الغصن الذي‏ أحنى علينا‏.. مدَّ أجنحةَ انعتاقِ الصبرِ‏ من شَرَكِ القيودِ‏ إلى توهج مبتغانا‏ أن يفضّ سكونها‏ بالوشاشات الزُّهْرِ حيناً‏ أو بذيلٍ من زفيرْ‏..

هي غابةٌ‏ أو جذوةٌ‏ حتّ الرمادُ بصيصَها‏ ما عدتُ أذكرُ في مرابعها‏ نوافذي حينَ كان الليلُ مشدوداً‏ لنهرِ ضراعةٍ‏ بل‏ لارتشافِ القادم الآتي غزالاً‏ من صباحات الندى‏.. والوردُ تلٌّ‏ من كلامٍ نافذٍ للقلبِ‏ يختصرُ الطريقَ‏ لهودجٍ يشتاقُها من بعدِ ما اغتسلَ النضيرُ‏ بسقسقاتٍ‏ من نميرْ..‏

هي غابةٌ‏.. لِمَ أوصدتْ أبوابها‏؟!.. كم كنتُ أعتمرُ الفلاةَ‏ واستبيحُ جهاتها‏ فتمرُّ قاماتُ النخيلِ‏ على دروبي كلِّها‏.. أمضي لأزرعَ كمشةً‏ من حنطة الشمس التي‏ خبَّأََتْها‏ بعباءةٍ‏ ما زلتُ أحملُ‏ بلْ‏ وأحلمُ‏ أن تظلَّ كغيمةٍ‏ خضراءَ تسخو‏ كلما عانيتُ ما أبغي..‏ وطالَ الدربُ‏ واحتدمَ المسيرْ‏.

هي غابةٌ‏.. لملمتُ بعضي‏ فوق مرتعِ تربِها‏ وجثوتُ أحدو..‏ بالنشيج وبالنشيدِ‏ وبالبكاء.. وبالدماءِ‏ على مسامع عمرها..‏ فتملْمَلَتْ‏.. حَمَلَتْ شروخي‏ ثم مالتْ‏ تستظلُّ بما تبقى‏ من رحيقي‏ بعدما‏ كانت تصبُّ عليَّ عطرَ زهورها‏ قمراً تدحرجَ‏ فوق غادية الغديرْ‏..

هي غابةٌ‏ أشواكها..‏ أدمتْ مسيري‏ قصرتْ خطوي‏ أثارتْ دعوتي‏ للجالسينَ على بساطٍ‏ من حرير الشعرِ‏ يغترفون من حبرِ الكتابةِ‏ ما يطفُّ البحرَ‏.. لو حملوا حروفهم سيولاً‏ أو خيولاً‏ تعبرُ الحزنَ الغليظَ‏ كرامحٍ‏.. والغمرُ يهزجُ‏ من إرادتهِ اعتداداً‏ وهو يُنبئ‏ كيف يرتحلُ الصمودُ‏ إلى جهات المعجماتِ‏ من الكلام‏ ليهطلَ‏ الفرحُ الختاميُّ احتفاءً‏ اِحتفالاً‏ بانبثاق الغارِ‏ من شرف‏ الزئيرْ‏..

هي غابةٌ ترعرعتُ وسطَ أشواكها وورودها فما نالني سوى الشوكِ.. وما حصدَتْ يدايَ من ترابها سوى سعُف الندامةِ من نخيلِ الهدهداتْ.. هي غابةٌ هذي التي يسمُّونها الحياةَ أحيا بها وفيها أموتُ ولا يعلقُ على هامتي حينَ أطرِقُ خجلاً من دم الشهيدِ سوى ندىَ الدمعِ من الوجد ومن الذكريات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *