أول الكلام

والتينِ والزيتونِ..

بقلم غسان عبد الله

تهدّمت ما بين أنيابِ الضواري‏ وارتمى وقعُ الهوانِ‏ على مواعيدِ الغمامْ،‏ مَزَقاً هي الأحلامُ صارَ وجيبُها‏ ومدائنُ الأحبابِ لوّثَها جنونُ القتلِ،‏ أعلنَ موتَها زحفُ الرقابِ‏ إلى منادمةِ السلامْ.‏

يا نفسُ هلّي في المدى‏ وتكلمي يا نفسُ.. فيضي في شرايين السهوبِ نداوةً،‏ إني، كما احترقَ الصدى،‏ ألفَيْتُ ذاكرتي‏ وإني في جنوح العاصفاتِ أمدّ أرديةَ العناء مع السؤالْ:‏

من أين تبتدئُ الدموع رحيلَها؟‏ من أين يبتدئُ الكلامْ؟‏ من أين مدينةَ الصلاةِ،‏ أجتازُ نحوكِ غربةً‏ تمتدّ كالموتِ البطيءِ؟‏ وكيف أُلقي في حنانِ الصدرِ‏ أسرارَ الفؤادِ،‏ وأغمض العينينِ من ولهٍ‏ وأرحل قارئاً كفَّ الأسى‏ في ذروةِ الشجرِ الغمامْ؟‏ ففي النفسِ وجدانٌ يضجُّ نداوةً.. أرى الشرحَ فيه.. والحديثَ يطولُ.. فكيف إذا رُدْتِ الفؤادَ صبابةً‏ وأصبحتِ نبضاً بالحنينِ يجولُ.. سَرَيْتُ طويلاً في رُباكِ مولّهاً‏ سرابُ الضحى للخائبينَ دليلُ‏.. سلامٌ على الأحباب دمعاً ومقلةً‏ له في سكونِ العادياتِ حلول.

شجنٌ على شجنٍ تراكمَ‏ واستوى سِفْراً،‏ به الكلماتُ ناسِلةٌ على الأطلالِ‏ أتعبها الهيامْ‏ وحروفُها مخضرّةٌ في لوحِها الأزليِّ‏.. هزّي يا حزانى الحيّ أغصانَ الشجرْ‏.. حانتْ مواعيدُ الصلاةِ على الجراحْ‏.. واستحضري الحلمَ الذي قد كان يحيا‏ في شرايين الأَنامْ‏.. واستنبطي أَلَقَ الخطى‏ وأمشي بنورِ اللهِ‏ واغْتَسِلي بذاكرةِ المَطرْ‏.. هذا هو الشجنُ المباركُ‏ يرتدي ما بين نازلة الدهورِ‏ طقوسَه حمماً‏ مزّينةً بأعشابِ السماءِ‏.. ويستوي سِفْراً‏ ويبتدئُ الكلامْ‏.‏

والتّينِ‏.. والزيتونِ‏.. وطورِ سينينَ.. وهذا البلدِ الأمينْ‏ وقبورِ أجدادي‏.. سأرحلُ في وجيبِ القلبِ عشقاً‏ نحو وجهكِ والندى‏ وأجوبُ آفاقَ المهالك عنوةً‏.. وأَرُودُ من قلبِ المفازةِ هولَها‏.. وأظلُّ أعشقُ من رؤاكِ‏ ثمارَها‏ وعذابَها‏.. وأمدُّ جسراً بين فاتحةِ المواجعِ‏ وانكسارِ الضوءِ في ألقِ العيونْ‏.

أقسمتُ أن أبكي على قدميكِ‏ مبتهلاً‏ ولن أخشى على عنقي الهزيلِ‏ من الإبادةْ.‏. هل يملكُ الأحبابُ غيرَ دموعِهم والقلبِ‏ والأملِ المسوّرِ بالشهادةْ؟!‏.. أقسمتُ أن أطوي الفيافي‏ باحثاً عن ظلّكِ المشطورِ‏ في سرِّ الخرائطِ‏ باحثاً عن أبجديّات الركوع‏.. من المحيط إلى الخليج‏ إلى مشارف ميسلونْ‏.. وأنا أجولُ،‏ وأحتمي بالصمتِ والترحالِ،‏ أحملُ في عشيّاتي قواميسَ العبادةْ‏ وأقول:‏ يا حبَّةَ الأسى،‏ من أيِّ ناحية أراكِ؟!.

أراكِ في جوعِ العصورِ طريدةً،‏ تمتدُّ نحو عناقها كلُّ المخالب..‏ كلُّ مَن سالتْ رغائبُهُ‏.. وشطّ لعابهُ طرباً على إِطلالةِ الشرفاتِ‏ واحتلّتْ دياجيه العيونْ.‏. هذا هو الوجدُ الذي‏ ما عاشَ من ألفٍ من الأعوامِ‏ إلا في صديدِ جراحهِ‏.. وجراحُهُ تنسالُ في ليلِ البرايا‏ وردةً‏ تلهو بها الفراشاتُ صاخبةً‏ وتحفرُ قبرَها المجهولَ وشماً‏ في قلوبِ الخائفينْ.‏ أم تـُرى،‏ هل تستعيدُ الأرضُ وهجَ شبابها.. والصدرُ يلقى حلمَه المفقودَ..!!؟‏.

‏هم جعلوكِ مسلوبَةَ الأماني‏ يستميل القبرُ هيكَلَكِ المهدَّمَ‏.. والدبيبُ رجاؤكِ المنخورُ‏ في زمن الأنينْ‏ ها هم سوادُ الناسِ‏ ينتسبون في شغفٍ إليكِ أوان يبتدئُ الكسوفُ سبيلَهُ‏ بين الفجيعةِ والجنونْ،‏ وأوان – يا صيفَ العذابِ -‏ يمدّ تنّينُ الجحيمِ لسانَهُ‏ وتـُزلزَلُ الصحراءُ زلزلةً،‏ تدكُّ رمالَها ونخيلَها‏ فتفرُّ من هولِ الحكايا،‏ في براري الموتِ،‏ عن أولادِها الأمُّ الحنونْ.‏

ها هم سوادُ الناسِ‏ ينتسبون في شغفٍ إليكِ أوان ترتادُ الرماحُ جماجمَ الموتى‏ وتشرعُ بالصليلِ‏ وترتوي أشداقُها.. من غيرِ أن تروي الرؤوسُ غليلَها‏ في ساحةِ الوطنِ الملوّثةِ الجبينْ.‏. ها هم سوادُ الناسِ‏ ينتسبون في شغفٍ إليكِ‏ أوان تبتهجُ القصورُ‏ وتحرقُ الكافورَ في صخبٍ‏ وتجتمعُ العوالمُ كلُّها،‏ أمراؤها‏.. وكلابُها‏ والقاتلونْ‏..

والتينِ.. والزيتونِ.. وطورِ سينينَ.. وهذا البلدِ الأمينْ.. إني أقْسَمْتُ بفجرِ العشَّاقِ.. كلُّ ما في الروحِ من وجدٍ.. هو شيءٌ من الوجدانِ.. تفيضُ بهِ الجراحُ نداوةً على أعتاب فلسطينْ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *