
أطيار الحسين
بقلم غسان عبد الله
على طريقٍ يابسٍ يمتدّ من وراء سور المقبرةْ كان يسير واثقَ الخطى يحلم أن يكونَ للبلاد نكهةُ الرغيفِ واستدارةُ القمرْ.. كان يغني والطريق يستعيد خطوَه الأليفَ في نبرةِ صوتهِ كمانٌ شاردُ اللحنِ يكاشف المدى بحبهِ العميقِ.. حالماً وسادراً يردد الطريقُ خطوَهُ ونحوَهُ تحجّ أطيارُ الحسين..
استيقظ ذاتَ نبوءةْ.. ومضى يخبز للناسِ.. يوزِّع أكياسَ القمحِ، ويزوِّدهم بالملحِ يغرسُ في دمِهم ورداً.. يرسم في أعينهم وطناً أنّى ساروا عرفوه كان يهجّي الطقسَ، ويقرأ أيَّ غيومٍ ستسجَّى في لوحِ الوطنِ الأبيض.
كان إذا مرَّ بدربٍ كانت خطواتٌ تترا خلف عبورِهْ.. كان إذا مرّ.. ترامتْ أشباحٌ خلفَ معارجِ نورِهْ كان.. يغنّي وطناً يخرجُ من حقلِ يديهْ وطناً.. تأتيه البلدانُ تطير إليهْ وتهشُّ على تربتهِ أن تخصبَ وعلى صخرتهِ أن تهميَ مطراً.. وعلى قبتهِ أن تبقى سكناً لطيورِ سلامْ..
كان يُهجّي الكونَ.. ويشتَمُّ رياحاً ونشورا.. خلف سياج الحقلِ وخلف جدارِ المقبرةِ المثقوبِ وخلف الغيم الغازي يتقلّب في فسحاتِ الأفق يخاتل شمساً ويطارد في الجوِّ.. طيورا
كان على طريقهِ يرصد نبرةَ البروقْ ويستدير قلبُهُ مثلَ رغيفْ.. يمنحه الطيورَ كي ـ عن ظهرِ أفْقٍ أبيضٍ ـ تعاودَ النشيدْ يمنحهُ.. إذا الحصارُ دارْ لكي تقومَ.. حسبُها الأشجارُ والأحجارْ.
اغتالَهُ الظلامُ حينما تنفّسَتْ بغرفةِ الصباحِ وردةٌ باكِرَةٌ تنشرُ نورَهُ تباهي بهداهُ أفُقاً وجوقةً يحفُّها الهديلُ والخزامْ.. اغتالهُ الظلامْ.. وكان يمشي في الطريق أعزلاً إلاّ من الغناءْ.. في قبضتهِ كان القمحُ يحثّ الطيرَ على ترتيل الحُبِّ فإن لم يُسْعِفْهُ الدربُ إلى غايتهِ وقضى خرجتْ من كفَّيهِ حقولٌ من بين أضالِعهِ سربُ حمامٍ صفَّقْ وتفتّحَ من دمهِ. زنبَقْ وأطلَّتْ قافلةُ الأحرارْ.. من صوب طريقٍ كان مشاهُ وهو يغني.. قافلةٌ.. تتهجّى لغةَ النورِ، ولغوَ النارْ.. قافلةٌ.. تحفظ قافية الوردِ تغني لشهيدٍ يمضي وشهيدٍ يقضي وشهيدٍ مقتبِلٍ ما زال لميلاد الفجر.. يغنّي.