أول الكلام

هذي أمّةٌ نامتْ على أكفانِها

بقلم غسان عبد الله

طريداً كنتُ أجري في دمي صبحاً،‏ لأستجدي نبوءاتٍ تُوحّدُ قامتي درباً،‏ طفولاتٍ تُؤرّقُ حاضراً فينا،‏ كلاماً ينتمي للحبِّ،‏ نافذةً يغرّدُ فوقَها صوتٌ‏ فلا أجدُ المساءَ سوى مرايا‏ أدمنتْ في جوفِها قتلي،‏ وراحتْ تحتمي فوقَ اللغاتْ‏ لنعبرَ حاضراً يقتاتُ من أجسادِنا زمناً،‏ فنبني خيمةً في دمعِنا،‏ أو في مرافئَ شُرِّبتْ بدمِ الصحابِ‏ ثم نسحبُ روحَنا فوقَ الصفاتْ.‏.

على شبّاكِ هذا الليلِ‏ عشاقٌ تنامى الحزنُ في أسمائِهم دهراً،‏ لأشهدَ فوقَ نافذتي‏ خراباً يرتمي في روحِنا‏ مثلَ الخُرافةِ،‏ مثلَ أوهامِ الحكايا‏ ألفِ ليلة،‏ فَتستقري النوافذُ‏ ما تبقّى من دماءٍ في أصابعنا،‏ فيلبسني على خوفٍ طريقي.‏. فهذي أمّةٌ نامتْ على أكفانِها،‏ حتّى تسلّمَ فوقَها مَنْ يرتدي قتلَ الوصايا،‏ مَنْ يتاجرُ في دمي دَوماً،‏ فيشعلني حريقي.‏. لأرسلَ للقصائدِ دمعةً تحنو على جرحِ الغيومِ،‏ وما تصاعدَ في الهواءِ نبوءةً‏ خدشت ليالينا‏ فيسألني بريقي:‏ لماذا ترتدي هذي المدائنُ قبرَها‏ والروحُ تُخفي وقتَها نوماً،‏ ليبكي الشعرُ فوقَ لهاثِنا أَلقاً،‏ وتنزلقُ المدافنُ فوقَ أرضٍ‏ أيقظتْ كلَّ الفجائعِ،‏ وارتدتْ من جَمرِها لغةَ النوائحِ‏ واستدارتْ في دمي‏ كي أَرتدي حُزني.. رفيقي.‏. أَما قَرُبتْ نهايةُ يأسِنا؟‏ أمْ أنَّ أُمَّ اليأسِ‏ ما زالتْ توزّعُ فوقَنا جُثَثاً،‏ فكيفَ يكونُ شكلُ الرأسِ‏ بعدَ الآنَ‏.. كيف يكونُ موّالُ التمني،‏ كيف يرمي جمرةً هذا اللسانْ؟.‏

أنا المفجوعُ أذكرُ دارَنا دمعاً،‏ فأذكرُ والداً يرتاحُ في صدرِ المكانِ،‏ يُنقِّلُ الأخبارَ من أفقٍ لآخرَ،‏ ثم يرمي جمرة‏ قَدْ توقظُ المسفوحَ من أرواحِنا‏ فوقَ الهوانْ.‏. لينظرَ في مرايا وقتِه المقطوعِ‏ من أفقِ الزمانْ..‏ يُحاكمُ أمّةً‏ تخشى على أولادِها أن يدخلوا‏ تاريخَها، أن يحفظوا قرآنَها روحاً‏.. تنقّيه،‏ لترفعَ نجمةً أُخرى‏ ويرفعَ صمتُنا حزنَ البراري،‏ ما تعمّقَ من جراحٍ أو عبورٍ فوقنا،‏ فتغيبُ عن فرحِ المدينةِ نخلتانِ‏ وروحُ أمي في العراءْ‏.. فلا أدري بأيِّ الحُزنِ‏ أنفخُ ناينا وَجداً‏ وأيُّ الظلِّ يمشي في جراحي،‏ دونَ أن تحمي ظلالَ الروحِ‏ أشجارُ الشتاءْ.‏ لترفعَ نجمةً أخرى على أطفالنا‏ فوقَ المدائنِ،‏ تصبحُ الخبرَ المعمَّدَ،‏ ثم تأخذُ ما تشهّى من فتاوى‏ جَرّحتْ أسماءَنا زمناً‏ لتسقطَ من وصايا الأنبياءْ‏..

أنا المفجوع، أذكرُ دارَنا دمعاً،‏ وأذكرُ والداً‏ يمشي إلى أُفقِ المسافةِ‏ عبْرَ ذكرى أو منامْ‏ يقولُ وصيّةً:‏ “حاربتُ ما حاربتُ‏.. لكنَّ المسافةَ بيننا حلمٌ.‏. فلمْ نُطلق عليها الحزنَ ذاكرةً،‏ وحينَ يجيءُ ذاكَ الليلُ أوجاعاً،‏ تداهمنا شكوكٌ كالمرايا‏ حينَ يكشفها السلامْ“.. يقول وصيّةً:‏ “حاربتُ ما حاربتْ‏.. لي الأرضُ الحبيبةُ‏.. ما تجمَّع فوقَها من أغنياتٍ‏ أو مدائنَ أشعلتْ جرحي،‏ هي الكونُ المضيءُ بِقاعِ روحي‏ وليسَ لَها بغيرِ الروحِ أمكنةٌ‏ وليسَ لِشَعْرِها غيرُ الأصابعِ‏ في دموعي‏ هي الأرضُ الشواهدُ في ركوعي،‏ فكيفَ اليومَ أنسى وردةً حمراءَ‏ تسندُ قامتي أُفقاً،‏ تُوزِّعُ عطرَها فوقَ البنفسجِ،‏ فوقَ آنيةِ الرخامِ‏ وفوقَ أطفالٍ‏ يُظلّهم على حبِّ رجوعي؟!“.‏

أنا المفجوعُ من خوفٍ..‏ أنا المفجوعُ، أذكرُ دارَنا دمعاً‏ وأذكرُ والداً يسألْ‏ لماذا كُلَّما ضجّتْ عواصمُ‏ في مرورِ خديعةٍ كبرى،‏ نُخفِّي قهرَنا فوقَ الأصابعِ،‏ ثم نَقْطِفُ للأحبةِ وردةَ الفرحِ الوحيدةِ‏ والدماءُ هي الدماءْ؟‏! وكيفَ نُعمِّدُ الإسمنتَ فوقَ الروحِ،‏ كيفَ نهادنُ الأعداءَ‏ حتّى يدخلوا وجهَ المآذنِ والسماءْ؟‏ وكيفَ نُجمِّل اليأسَ المعتّقَ،‏ كيفَ ننسى أرضَنا دفئاً،‏ وكيفَ تهادنُ الأشعارُ رؤياها،‏ لتنسى ورقةً مملوءةً بالروحِ،‏ بالشعرِ المسوَّرِ بالأحبة والهواءْ؟‏ وكيفَ يَجفُّ دمعُ الروحِ أسفاراً‏ وهذا الوقتُ موعده الهباءْ‏.

على هذي المدائنِ‏ ترمي لُغةَ السُهادِ،‏ لتخلعَ الذكرى ملابسَها القديمةَ،‏ تحتمي في ماءِ أغنيتي‏ جراراً‏ ثم تجفلُ من خطايَ ومِنْ‏ مسافاتٍ على هذي السماءْ،‏ لتنكسرَ المدائنُ كلُّها فينا‏ وينكسرَ الهواءْ.‏

على هذي المدائنِ‏ تسقطُ الأشياءُ، في ميناء لوعتها،‏ ويصبحُ لونُنا ثوبَ الحدادْ‏.. وما تشكّلَ في الخديعةِ من هياكلَ‏ أطلقتْ لغةَ الجنودِ،‏ وسوَّرتْ أسماءَنا فوقَ التماثيلِ الكبيرةِ‏ حينَ يَفضحُ سرُّها ذاكَ الغناءَ فأَصرخُ أَيُّها السَفَرُ المؤجّلُ في المرايا،‏ أَعنِّي دورةً كي أرتمي في حضنِ روحي،‏ أحفرُ الأسماءَ في مدنِ الملوحةِ،‏ ثم أرسمُ كهفَنا في موتنا،‏ فلعلَ آنيةً تجيءُ‏ توسِّعُ الأكوانَ في صوتي‏ تُعبّي ما تخفّى في المُدَامْ.‏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *