أيها الشهيدُ.. أراكَ تغفو قليلاً على وجع القدسِ
بقلم غسان عبد الله
يُعيدُ رَسْمَ الصَّباحِ، وَرَسْمَ الرِّياحِ، وَرَسْمَ القصيدةْ دماً بعثرتهُ المنايا على مدى انتصارينْ.. وصهيلاً يَشُقُّ الدُّروبَ إلى الصُّبْحِ، زيتونةً في الهضابِ.. عنيدةْ.. يُعيدُ رَسْمَ الدُّروبِ التي خَلَّفها.. وما بين جُرْحٍ وجُرْحٍ دَمٌ لا يَمُرُّ سِواهُ إلى أَوَّلِ الحُلْمِ صوب البطاحِ.. وأَوَّلُ هذا المدى كفٌّ تُعيدُ كتابةَ هذا الصَّباحِ على شُرفةٍ في جُنونِ الرِّياحِ.. وآخِرُ هذا المدى تمتماتٌ تُثيرُ بُكاءَ النَّدىَ في الأقاحي.
أيها العابرُ سماءَنا.. تعبرُ حتى مسامَّاتِ القرى.. وتَمرُّ عُشْباً على الرُّوحِ.. أسألُ: كيف التصقتَ بذاكَ التُّرابِ.. وقاومتَ.. كيف اشتعلتَ دماً في الحرابِ؟!.. وكيف مَدَدْتَ الجُذورَ عميقاً من السَّفْحِ حتّى انكسارِ الهضابِ على راحتيكَ؟! وإنَّا.. وقد وزَّعَتْنا دروبُ المنافي غياباً مشى عاثراً في غيابِ.. لَنَحْلُمُ أن يرتقي العُشْبُ فينا من القاعِ حتَّى تُخوم السَّحابِ.
مُدَّ نخيلَ العُمْرِ يا بطلَ الصعابِ نحوي.. من يُلَمْلِمُ من دمي عَطَشَ المنافي كي تَبُلَّ الحَلْقَ بالماءِ الشّهِيِّ، وينثرُ الياقوتَ من عشق المُتَيَّمِ في أصابعِ نهرهِ!!؟.. أو تدري يا صاحِ.. حَمَلتَ رفيفَ العُشْبِ في أهدابِكَ حُلُماً يميلُ على السُّفوحِ كما يميلُ التَّبغُ أَخْضَرَ كي يُهلِّلَ رائعاً في تُربِهِ: “أأنا أَمِ العُشَّاقُ مثلي.. كُلَّما ألقت قبَّراتُ الجنوبِ دبيبَ غنائِها عند المساءِ تكحَّلَ الشَّفَقُ البعيدُ بصوتِ الشهيدِ، وسرى أنينُ الآهِ في عُشْبِ النَّدى من سحرهِ!!؟.
يا ذا البطلُ الغرائبيُّ.. مدَّ نخيلَ العمرِ.. ولا تتركِ البوَّابةَ نهباً لعيون الغزاةِ، إني أخافُ عليكَ من غدرِهِم وعيونِهم، مُدَّ نخيلَ العُمْرِ نحوي عَلَّني أصحو فأغدو في صهيلِ الليطانيِّ فتىً سيظلُّ يكبرُ في الصَّدى فإذا بهِ.. صوتُكَ الحاني يسعى إليهِ، أو زندُكَ الذي يعيدُ طعم الماءِ ولون الحياةْ.
أيها الشهيدُ.. أراكَ تغفو قليلاً على وجع القدسِ تهدهدُ براحتيكَ مهد البطولاتِ هناك.. وحينما تُغمضُ عينْيكَ.. أَتدري.. ما الذي يحدُثُ في المنامْ.. تُهرِّبُ السَّماءُ في سلالِها النجومَ.. وتَنزِلُ الدَّقائقُ المعلَّقةُ عن سُلَّمِ الظَّلامْ.. تُحاولُ الأشياءُ أنْ تحتلَّ بعضها.. والليلُ أنْ يسرقَ ليلَهُ.. وتبدأُ المآذنُ المزخرفةُ تُتقنُ الزَّخْرَفةْ.. أو تدري يا صديق الوجع المرِّ الذي يألفني.. ذاتَ مساءٍ أكْحلِ العينينِ أسمرْ.. رأيتُ عصفوراً حنّى جناحَهُ من وريدِكَ المضوَّعِ بعطرِ النبواتِ ومالَ نحوي دونَ أنْ يظهرَ كعادةِ حضورِكَ بغير ظهور.. وقال لي يا كاتبَ أنسِكَ على شغف الشهادةِ قصيدةً: أعرِفُ ناساً يُغمضونَ دائماً عيونَهم ليبصروا أكثرْ.. صفِّقْ لهم.. فلنْ تكونَ مثلَهم أَنْتَ الذي تُغمضُ عينيكَ كي تنامْ.. خُذْ كلَّ شيءٍ وارتحلْ صوب الذُّرا.. لكن.. عينْاكَ.. لا تُغْمضْهِما لكي تنامْ.. أَغمِضْهُما.. أَغْمِضْهُما لكي ترى.
يقولون ارتحلت يا صديقَ الغيابِ المرِّ.. ويا صاحبَ الغربةِ المشتهاةِ.. هكذا يقولون.. لكنني أراكَ في كل غيابٍ حضوراً.. أراكَ قادماً عبر سُحبِ الطفِّ تصنعُ مجداً لانتصارٍ جديد.. هكذا أنت.. صانع النهارات في ليلنا العقيم..
قادمٌ أنتَ.. كأني أسمع وقعَ خطاكَ مثلما المطرُ يَتَكوكَبُ فوق روابي الفجرْ، قادمٌ أنتَ.. كأني أُبصرُ وجهَكَ فوقَ سواري الغيمِ، وفوق بحيراتِ الحلكِ الليليِّ نهاراً يُعْشِبُ بالأضواءِ ويَشهقُ فوق سهولِ البحرْ.. تتقدَّمُهُ الأطيارُ، وتمشي خلفَ رؤاهُ الأشجارُ.. وتخفقُ – لحظةَ تتألقُ الدماءُ- حواليهِ راياتُ النصرْ.. أيا برزخاً من العشقِ لا تدركُ رؤاهُ النارُ.. ولا يبلغُ فتنَتَه النهرْ!.. ها نحنُ ندخلُ باسمِكَ.. في ملكوتِ العشقِ، وباسمِكَ بطلَ الجهادِ، باسمِ الجبينِ الناصعِ كشمس الحياةِ، نُعلِنُ بأن فواتحَ سرِّ العشقِ يداكَ، ووجهَك إعجازُ الكلماتْ، إنك مملكةُ السِّحرْ.
