أول الكلام

الزمنُ المبرمج.. زمنٌ فقَدَ ذاتَهُ وهُوّيته!

بقلم: غسان عبد الله

قلت مهلاً أيها الحرف الناهضُ من واحاتِ الشرق.. دعني أسكبُ فيكَ دمي قبل أن تمتطي نثيرَ الشمسِ.. دعني أجدلُ ضفائرَها مع ما تحملُ من معانٍ تُشذّي أرجاءَ الرسائلِ التي تُترجِم السعادةَ، والغبطةَ يومَ أقرأُ كُتبَ المبدعين في وطنٍ دخل التاريخَ لكي لا يخرج منه.

أجل: إن أمتنا تشكِّلُ ذاكرةً كاملةً متكاملةً للتاريخ الإنساني بأبعاده.. كيف لا وألقُ الماضي تقبُسُ منه النجومُ والشموسُ وترتديه الأقمارُ ثيابَ عزٍّ وفخار، أدخلُ دونَ استئذانٍ إلى معسكراتِ الحروفِ مدجّجاً لأفجِّرَ معانيها بشحناتِ الروحِ الناضجةِ على فوّهاتِ براكينها التي تقذفُ في فضاءِ الجسدِ والروحِ والعقلِ سُحُبَ الحَيرةِ والذهولِ لأنني أدركُ سلفاً عمقَ الصلة ما بين العقلِ والجسدِ والروحِ، أو ما يصل بينهم على الأقل.

دخلتُ الساحةَ متهيباً خائفاً ومذعوراً خشيةَ ألا أستطيع العومَ في هذا الضجيجِ المزمنِ في داخلنا.. كان سلاحي اليتيم قلمي ولا سواه، وبعضُ الأوراقِ الصفراء القديمة، وشمعةٌ تلفظُ أنفاسها الأخيرة على خجل وحياء، فمن أين سيكون أولُ الكلام والبداية؟.. واللسانُ تتزاحمُ عليه الكلمةُ، وتتسابقُ لتندلقَ باتجاه العُرفِ والدلالةِ؟.. بحثتُ طويلاً عن أولِ حرفٍ يرتبط بغيرهِ ليجرَّ سرباً من الكلماِت اللواتي يمتلكنَ الروحَ والمعنى.‏

وانطلقتِ العربةُ الأولى بلا حصانٍ، وبلا طريقٍ، وبلا أشجارٍ تستظلُّ بها التعابيرُ الساخنةُ التي نعلِّقها على جدارِ النفس بلا مشاجب ضوئية شفافة. نرى معاني الكلمات من خلفِ اللوحةِ التي أعياني رسمُها فتكوَّرَتْ فوقها قطعةٌ من جليدٍ تبحثُ عن الذّاتِ الضائعة، والمبعثرةِ على أشلاءِ الزمنِ الهارب من وجه الحق.

هذا زمنٌ فقَدَ ذاتَهُ وهويته، وها هو دميةٌ بِيدِ الرعبِ، والإرهابِ، والغطرسةِ والعولمةِ، والضياع. هذا الزمنُ المبرمجُ لمن استطاعَ أن يمتطيه برقاً وراحلةً سبوقاً.. إنني أسوق كلماتي ولا أدري كيف أرتّبها، ولا أنظّم سياقَها أمام ما نرى، ونسمعُ، ونُدْهَشُ حتى يسأل الإنسانُ والفردُ نفسَهُ أين نحنُ من هذا كلِّه؟ وبزَخَمٍ مائجٍ يأتي الجديدُ بلا مدى مقيّد، أو فواصلَ مرسومةٍ، وفي القاطرةِ الأخيرةِ يزدحِمُ العالمُ الآخرُ ومعهُ الفقرُ والجوعُ كالشتيمة، والهزائمُ، والفراغُ الداخلي القاتلُ والمشِّوه، وسلاحُهُ خطابُ التنظير، والإيديولوجيا والبحث عن إبرةٍ في كومة قش.

تتسعُ المسافاتُ، ويصعُبُ اللحاقُ في هذه الزحمةِ المجنونة.. لقد اهتزّ وكاد أن يتلاشى ما بَنَتْه الأمةُ منذ مئاتِ السنين.. ونحنُ السبب، لأننا نعلّقُ أخطاءنا وهفواتِنا على مشاجبِ الآخرين والمؤامرة. إنني أقفُ أمامَ هذه اللوحةِ التي لم أعدْ قادراً على تمييزِ ألوانها وأشكالِها، وأطيافِها، فتبدو هلاميةً رجراجةً وضبابيةً يخترقها السرابُ، والعتمةُ، والمجهول، وعلينا أن نبحثَ عن مساربِ النجاة. ربما نستطيعُ تقليصَ المسافةِ والزمنِ بيننا وبينهم.. وربما نخترعُ دروعاً تقينا من أنيابِ المستقبلِ ونواجذ الشرِّ الدائم، والقادمِ إلينا لابتلاعنا تماماً، ولجعلِ شخصيتنا كسلعةٍ تُعرَضُ على أرصفةِ المارّة للعرضِ عند الطلب.‏

وربما على الشواطئ المهجورة تنهشُنا نوارسُ العصرِ المتوحش، أو سنكونُ حقلَ تجاربٍ لكلِّ ما يخطرُ على ذهنِ أصحابِ العولمةِ التي ارتجفتْ منها الدولُ الرأسمالية ذاتُها. لعلَّ الأحداثَ الجسامَ التي تتالتْ علينا، وتوالتْ تباعاً قد أحدَثَتْ شروخاً أفقيةً وعموديةً، وأغْرَقَتْنا بالتفكيرِ المرتبكِ دون ضوابط، أو نظامٍ، فننفعلُ في الحدثِ انفعالاً غوغائياً، ويبتعدُ الحلُّ، ونضيعُ من جديدٍ في المتاهةِ نبحثُ هنا وهناك دونَ فائدةٍ تُذْكر، وهنا نسأل: أين دورُ مفكّرينا؟ وأين دور علمائنا ومثقفينا وأدبائنا؟ وكلّ مَنْ له صلة بحركة التاريخ، والتطور.‏

قد نكون على تخومِ الزمنِ إن لم نكن خارجَهُ تماماً لأنه يتجاوزُ الذين ينامونَ في محطاتِ انطلاقِه، فتكونُ العربةُ الأخيرةُ للمتباكينَ على الأطلالِ، أو للباحثينَ عن أوهامٍ لم تكن موجودةً أصلاً.. فيعبثُ بها هاجسُ الأوهامِ، والظنونِ، والرّيبة، والشكِّ بالنفسِ والذّاتِ والآخرِ وبكلِّ شيء.. أما آن لنا أن نستيقظَ من هذا السباتِ المُزمنِ الذي يعشْعِشُ في داخلنا ويتسلّق على هاماتِنا كنباتاتٍ متطفلةٍ أو يسيطرُ على تفكيرنا؟ أما آن لنا أن ننطلق إلى الفضاءاتِ الأوسعِ والأرحب لنعيدَ بناءَنا من جديدٍ ونواصلَ البناءَ وتبادلَ الرأي والتنسيقَ بين أجزاء الأمة المتناصرة وما يتناسبُ مع مرحليةِ الزمن، ومتطلباته، ومقتضياتِ المصالح التي تهم كل بلد، أو قطر من خلال تبادلِ واحترامِ الرأي والرأي الآخر، والحوارِ الأخوي الهادفِ إلى تحقيقِ الحدِّ الأدنى لوجودنا؟!.

إني أكتبُ من وجعٍ دفين. يوقِظُني الحرفُ الناهضُ من ركامِ السكون في زمنِ الصمتِ المرعب والساكنِ على ضفةِ الدموع.‏

من تحت هذا الركام يجب أن ننهض وتنتصب قاماتُنا انتصابَ سيوفِ الحق التي لا تنبو ولا خيلٌ تكبو.. ويجبُ أن نخرجَ من هذا الصَّخَبِ، لنعودَ إلى ما كنا عليه في خندقٍ واحدٍ وفي صفٍّ واحدٍ نرفِدُ البشريةَ بما نحمله من البشائر، أو التي يحملُها الصباحُ على أجنحتهِ المشمسةِ ورياشِ أنواره التي لا تُطفِئها العاصفةُ، وتظلُّ ترفرفُ في الفضاءِ لتبشّر بالخير للإنسان.. الإنسانِ الذي يبني الإنسانَ الحقيقيَّ.. لأن بناءَه يعني، وبكلِّ تأكيدٍ بناءَ الوطنِ الذي يفيء تحتَ سقفِه الجميعُ، إنه الصّدرُ الذي يتّسعُ للجميعِ مهما كانت مشاربُ مواطنيه وانتماءاتُهم وأطيافُهم حين يعلو صوتُ القانون.‏

يجب أن نستيقظَ من سباتنا المستديمِ لنعرفَ أين نحنُ وكيف سنطرقُ أبوابَ الغد القادمِ لإدخالِ أجيالِنا إلى واحاتِ العلمِ والاستقرارِ والعطاءِ المتجدِّد، وأكتبُ هذا وأنا على علمٍ ويقينٍ بأنني أطلُّ معكم من نافذةِ العصرِ على هذا المشهد المرعب المزلزل، وربما أستطيعَ أن أقول معكم كلمةً تُسْمَع.. ربما تريحني بعضَ الشيءِ على هذا المنبر أو ذاك.

إننا ندرك تماماً جديةَ الأخطار، وتوابعها على مصير الأمة، وهم يغتالون شبابه الرافضَ للذُّلِ والإذعانِ في فلسطين المحتلة، وفي اليمن، وفي سوريا.. كما نُدرِكُ خطورة صفقةَ القرنِ. وحملةَ الغربِ الجديدةِ القديمةِ على الأمة، هذه الحملة التي يقودها ملوك الجريمة وسلاطين الإرهابِ العالميِّ تحت وهم الحرياتِ وأشباحِ الديمقراطية..

إن النوائبَ جسامٌ لا تُبقي ولا تذر، وها هم على صدورِنا وفوق رقابِنا، وكم مرةٍ دقّوا عظامَ أطفالِنا وسحنوها بلؤمٍ وحقد، ولم تسلمْ منهم شجرةٌ، ولا نهرٌ، ولم تسلمْ حبةُ رملٍ من مداحِلِهم ومجنزراتهم، وطائراتهم باسم الديمقراطية والحريات المجلوبة من أسواقِ الفضائحِ العالمية المشفرة والمعولمة بدقة متناهية.

نحن نتبارى في برمجة الفضائيات على السُّبة والشتيمةِ دون جدوى، ويظلُّ كلامُنا رغاءً وهذراً وفضائحياً يذهبُ أدراجَ الرياح، فإلى متى نبقى على هذا المَسْرَبِ المدمِّرِ الذي يُدخِلُنا المتاهةَ والتيهَ والضياعَ الأبدي. إننا نملك الكثيرَ الكثير.. ونعملُ القليلَ القليل.. سبَقَنا هذا الزمنُ، وترَكَنا خلفَهُ منهكين نجرُّ أوجاعَنا، وآلامنا، وآمالنا، ونزحفُ على عتباتِ الغير نستجدي ما أعطيناه من زمن بعيد.

الهيبةُ لله.. كيف أوصدوا علينا الأبوابَ؟.. وأقفلوا النوافذَ لكي نُسجَنَ ونتوارى وراء قضبان وتؤسر ذواتُنا وهويتُنا، وشخصيتُنا.. وإلى متى هذا الضياع؟ وإلى متى هذا التقهقر المتتالي دون توقف والذي لا ينتهي؟؟ فمن هزيمةٍ إلى أخرى ومن نكسةٍ إلى هاويةٍ وانحدارٍ.. ومن تمزُّقٍ مستمرٍّ إلى شتاتٍ يدمي.. إننا أصبحنا على الخارطة والجغرافية نتفاً على وضيمةٍ أتلفَها الزمن، ولاكتنا الكارثة. هلا أفقنا من كبوتنا؟؟.