التغيرات في المنظومات العسكرية للولايات المتحدة وانعكاساتها على حروب إسرائيل في المنطقة
ترجمة وإعداد: حسن سليمان
تبث الولايات المتحدة رسائل مزدوجة ومتناقضة إلى المنطقة. من جانب، تعيد حاملة الطائرات “فورد” إلى قاعدتها وتكبح نفسها أمام الهجمات على قواعدها في سوريا والعراق؛ ومن جانب آخر، تهاجم سفينة للحوثيين. إعادة “فورد” إلى قاعدتها لا يلحق ضرراً بشكل مهم بالانتشار العسكري للولايات المتحدة في المنطقة.
قد يكون الأمر ناتجاً عن تقدير في واشنطن بأن الاستعداد للعمل ضد الحوثيين يثبت بما فيه الكفاية الردع الأمريكي ضد إيران، لكن هذا فكر غربي عقلاني، فشل في منطقتنا أكثر من مرة.
أهداف وقوات
بداية الحرب على حماس في غزة، وعلى حزب الله في جنوب لبنان وعلى الميلشيات الموالية لإيران في سوريا والعراق، نشرت الولايات المتحدة عدداً كبيراً من القوات وأدوات القوى في الشرق الأوسط من أجل تحقيق أهداف استراتيجية مهمة. الهدف الأساسي هو منع حرب إقليمية واسعة النطاق؛ وفي حال اندلعت، مساعدة عسكرية مباشرة للجيش الإسرائيلي، على الأقل في اعتراض صواريخ، وإجلاء مدنيين أمريكيين من مناطق القتال. هجمات الحوثيين بالصواريخ والطائرات بدون طيار على إسرائيل وسفن التجارة في البحر الأحمر استوجبت انتشاراً عسكرياً أيضاً في منطقة باب المندب.
ومن أجل ردع إيران وحلفائها من شن هجوم شامل على إسرائيل حذرتهم إدارة الرئيس جو بايدن، ومن أجل الإظهار أن نواياها جدية أرسلت حاملة الطائرات “فورد” إلى شرق البحر المتوسط وحاملة الطائرات “آيزنهاور” إلى خليج عدن، والاثنتان برفقة مجموعاتهم الحربية. بداية شهر تشرين الثاني أرسلت إلى الخليج غواصات نووية “فلوريدا” و”باتان”، سفينة قتالية على متنها حوالي 2000 جندي من مشاة البحرية. أيضاً أرسلت إلى قبرص طائرات، مروحيات وقوات خاصة تابعة للولايات المتحدة، بريطانيا ودول أخرى في الناتو.
حاملات الطائرات على قواعد جوية كبيرة. “فورد” هي حاملة الطائرات الأكبر والأكثر تطوراً في الأسطول الأمريكي. وهي تتحرك بمحركين اثنين نوويين، ويوجد عليها 80 طائرة حربية، ومنصات الحرب الإلكترونية والاستخبارات التي يديرها فريق مكون من حوالي 4500 شخص. وهي مجهزة بمنظومات صواريخ دفاعية وهجومية ويرافقها بين 3 إلى 5 سفن صواريخ. ويتواجد على “آيزنهاور” حوالي 60 طائرة حربية، 5000 جندي ويرافقها 3 سفن صواريخ. الغواصة “فلوريدا” تتحرك بمحرك نووي ومجهزة بحوالي 150 صاروخ توماهوك لمدى 2500 كيلومتر.
إعادة “فورد” إلى الميناء الرئيسي في فرجينيا
بداية العام 2024 أعلن الأمريكيون أنهم يعيدون “فورد” إلى مينائها الأساسي في فرجينيا. وأوضحوا أن العودة تتم وفق جدول زمني محدد مسبقاً لأغراض التنظيم والصيانة. بل إنه كان من المفترض أن تصل إلى الميناء الأساسي قبل اندلاع الحرب في غزة، وتم تحويلها إلى البحر الأبيض المتوسط، وقيل إنه يجب إعادتها لأسباب عملياتية. وأضافوا أن لديهم قوات عسكرية كافية في البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر لمواجهة أي تحد، وأن عودة “فورد” لا تبشر بالتخلي عن إسرائيل. صحيح أن الأمريكيين ما زال لديهم قوى قوية كثيرة في المنطقة، لكن مع ذلك فإن هذه التفسيرات تثير بعض التساؤلات.
في الأيام الأخيرة صعّد حزب الله من هجماته على مواقع عسكرية ومستوطنات مدنية والجيش الإسرائيلي رد وفقاً لذلك. من الواضح أن إسرائيل لن تكون مستعدة للعودة إلى الوضع الذي كان سائداً على الحدود الشمالية لحين اندلاع الحرب في غزة، وتطالب بسحب قوات الرضوان التابعة لحزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني، كما نص على ذلك قرار مجلس الأمن 1701 الصادر في 12 آب 2006. هذا القرار أنهى حرب لبنان الثانية.
أبلغت إسرائيل الولايات المتحدة بأنها ستسمح لها بحل المشكلة مع حزب الله عبر الدبلوماسية، وإذا فشلت حذّرت من أنه لن يكون هناك مفر من استخدام القوة العسكرية، ونظراً للهجمات المتزايدة على المستوطنات الإسرائيلية، فالوقت اللازم للتوصل إلى اتفاق ينفد بسرعة. يحاول المبعوث الخاص لإدارة بايدن عاموس هوكشتين، الذي توسط في اتفاق الغاز بين إسرائيل ولبنان في تشرين الأول 2022، التوصل إلى اتفاق آخر يسوي الخلاف. في الوقت نفسه، يستعد الجيش الإسرائيلي للانتقال إلى حرب منخفضة الشدة في غزة وتسريح قوات. حتى الآن كانت الحجة في إسرائيل هي أنه من الأفضل التركيز على غزة وشن حرب منخفضة الشدة ضد حزب الله – “الدفاع النشط”. ومع تقليص حجم الحرب في غزة، أصبح هذا المنطق باطلاً.
إن وضع “فورد” في البحر الأبيض المتوسط يرمز إلى التصميم الأمريكي على التحرك ضد حزب الله وإيران. لقد تزايد خطر اندلاع حرب شاملة في لبنان نتيجة التخطيط أو سوء التقدير من قبل إيران وحزب الله. وقد أدى اغتيال صالح العاروري، أحد أبرز قادة حماس في الخارج، في منطقة الضاحية الجنوبية لبيروت في 2 كانون الثاني 2024، إلى زيادة احتمالات اتساع نطاق الحرب في لبنان. وقد يفسر سحب “فورد” كعلامة ضعف أمريكية ويلحق ضرراً في الردع مقابل إيران وأيضاً بوساطة هوكشتين. ومن ناحية أخرى، فإن وجود “فورد” حال دون قيام إسرائيل بهجوم مضاد كبير ضد حزب الله، والآن بعد أن رحل، ستتمكن إسرائيل من مهاجمته بقوة أكبر.
الهجمات في البحر الأحمر
بتوجيه من إيران أو بتشجيع منها، هاجم الحوثيون في اليمن إسرائيل بالصواريخ والطائرات بدون طيار، والتي اعترضت القوات البحرية الأمريكية معظمها. كما زادوا من هجماتهم على السفن التجارية بدعوى أنها مملوكة لإسرائيليين أو متجهة إلى ميناء إيلات، لكن النتيجة كانت شل حركة العبور في مضيق باب المندب، وهو ما دفع أكبر شركات الشحن في العالم إلى تغيير طرق شحنها من قناة السويس لتجاوز أفريقيا. وتسبب هذا التغيير في زيادة كبيرة في أسعار الشحن البحري.
ردت الولايات المتحدة بتشكيل تحالف من الدول البحرية لضمان حرية الملاحة في البحر الأحمر، والذي يضم بريطانيا والبحرين وكندا وفرنسا وإيطاليا وهولندا والنرويج وسيشيل وإسبانيا. لكن هنا فشل الردع في الوقت الراهن. وأدانت إيران القوة وحذرتها وأعلنت أنه “ستكون هناك مشاكل” دون تقديم تفاصيل عنها. وقد صرح الحوثيون وأعلنوا أنهم لا يخشون المواجهة مع الولايات المتحدة والتحالف وزادوا من هجماتهم. وفي 23 كانون الأول 2023، اتهم البنتاغون للمرة الأولى إيران بتوجيه الهجمات على الممرات الملاحية في البحر الأحمر. وبعد ذلك بيوم، اعترضت البحرية الأمريكية صواريخ كانت معدة لضرب السفن التجارية، كما هاجمت المروحيات الحربية التي أقلعت من حاملة الطائرات “أيزنهاور” زوارق الحوثي السريعة التي حاول رجالها الاستيلاء على سفينة “ميرسك” وأغرق ثلاثة منهم على بمن عليهم من أشخاص. واعترف الحوثيون بأنهم فقدوا 10 مقاتلين.
كانت هذه هي المرة الأولى التي تتحرك فيها الولايات المتحدة بشكل مباشر ضد الحوثيين في خليج عدن. كما أعلنت الولايات المتحدة وبريطانيا أنهما تدرسان الانتقال من حماية السفن إلى مهاجمة قواعد الحوثيين. أوصى البنتاغون بذلك، لكن بايدن قرر في هذه المرحلة الامتناع عن التصعيد، لأنه يخشى أن تؤدي مثل هذه الخطوة إلى تغيير المعادلة بالفعل ويمكن أن تؤدي إلى هجمات إيرانية أقوى على القوات الأمريكية في المنطقة.
الانتشار في سوريا والعراق
يوجد للولايات المتحدة عدد كبير من القوات والقواعد في الشرق الأوسط. تقع أكبر قاعدتين لها في المنطقة في قطر والبحرين. يوجد مركز متقدم للقيادة الوسطى الأمريكية في قطر، ومقر القيادة البحري والأسطول الخامس موجودان في البحرين. في دبي، في دولة الإمارات العربية المتحدة، يتواجد أكبر ميناء للبحرية الأمريكية خارج الولايات المتحدة، وقاعدة الظفرة الجوية في أبو ظبي هي مكان تواجد طائرات بدون طيار وطائرات متملصة من نوع F-35. وتمتلك القوات الجوية الأمريكية في قاعدة العديد الجوية في قطر نحو 100 طائرة من مختلف الأنواع. وفي المجمل، يخدم في المنطقة أكثر من 40 ألف جندي أمريكي. ويخدم في الكويت 13 ألفاً، وفي قطر 11 ألفاً، وفي البحرين 9 آلاف، وفي الإمارات 5 آلاف. ويتمركز نحو 2500 جندي أمريكي في العراق ونحو 900 في سوريا.
منذ اندلاع الحرب في غزة هاجمت الميلشيات الموالية لإيران القواعد الأمريكية في العراق وفي سوريا 78 مرة وتسبب بإصابة 66 شخصاً. حتى الآن، جيش الولايات المتحدة امتنع عن القيام برد مهم ضد الميلشيات من نفس الخشية من اندلاع حرب إقليمية. هذه القواعد هي نقطة ضعف في الانتشار العسكري الأمريكي في المنطقة، وإيران وحلفاؤها يستغلون ذلك من أجل المس بالقوات الأمريكية، كما يحصل في أنحاء الشرق الاوسط.