الجبهات المشتعلة تفجر الحرب الإقليمية في الشرق الأوسط
بقلم: توفيق المديني
هل يستطيع إقليم الشرق الأوسط النجاة من حرب إقليمية وشيكة، في ضوء اشتعال جبهات الصراع العسكري في كل من شمال فلسطين، ومنطقة البحر الأحمر، والعراق، على خلفية حرب الإبادة التي تشنها أمريكا والكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة؟.
هناك سلسلة من الأعمال العسكرية الكبيرة تؤكد بداية اندلاع لحرب إقليمية في منطقة الشرق الأوسط، منها: تكثيف الغارات الجوية الإسرائيلية على لبنان، مما يمثل تصعيداً في المواجهة المستمرة بين “إسرائيل” وحزب الله المدعوم من إيران الذي يقوم بتوجيه ضربات عسكرية ضد المواقع العسكرية الإسرائيلية في شمال فلسطين المحتلة، والعدوان الأمريكي- البريطاني على اليمن بعد استهداف السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر من قبل حركة الحوثي، والهجمات الصاروخية الإيرانية على موقع جهاز الموساد في أربيل، وتصاعد العمليات العسكرية للمقاومة العراقية ضد الاحتلال الأمريكي في كل من العراق وسوريا.
ويعتقد الخبراء والمحللون في الإقليم أنَّ تصاعد وتيرة هذه الأعمال العسكرية في هذه الجبهات المشتعلة وبتوقيتٍ متزامنٍ، يشيرُ إلى اشتعال الحرب الإقليمية واحتمالية توسعها، بين محور المقاومة الذي تقوده إيران من جهة، وبين الإمبريالية الأمريكية وقاعدتها الإستراتيجية في المنطقة “إسرائيل” من جهة أخرى، بصرف النظر عن حديث المسؤولين السياسيين الذي نسمعه في كل من طهران وواشنطن، إنَّ الجانبين لا يسعيان أن تؤدي الحرب في قطاع غزة إلى توسيع رقعة الصراع وتحوله إلى حربٍ إقليميةٍ واسعةٍ.
تدمير إيران لمركز للموساد في أربيل
أعلن الحرس الثوري الإيراني أنه قصف بنحو 24 صاروخاً باليستياً، ليل الإثنين الثلاثاء16يناير/كانون الثاني 2024، أهدافاً “إرهابية” في مدينة أربيل، مؤكداً أنَّه “دمر مقر تجسس” و”تجمعاً لمجموعات إرهابية معادية لإيران”، حتى هزّت أصوات قوية أرجاء المحافظة العراقية التي تقع في إقليم كردستان العراق، وبدا أنَّه هجوم غير مسبوقٍ.
وقال الحرس الثوري إنَّ الضربات في العراق استهدفت مركزاً للموساد الإسرائيلي، مشيراً إلى أنَّها ردٌّ على استهداف قادة “محور المقاومة”، في إشارة الى مقتل قيادي في الحرس الثوري قبل أسابيع في غارة إسرائيلية في سوريا، ومقتل قيادي في حماس وآخر في حزب الله في لبنان في غارات نسبت أيضاً إلى “إسرائيل”.
المبنى المستهدف، يعود لأحد أثرياء أربيل، وهو رجل الأعمال الكردي العراقي، بيشرو دزيي، صاحب أضخم مشروع سكني في أربيل “إمباير”، ومدير شركة فالكون. وقتل إلى جانب دزيي، زميله كريم ميخائيل من مواليد 1981، هو تاجر مسيحي عراقي من الموصل، وحاصل على الجنسية البريطانية، وهو صاحب شركة “الريان” في العراق، ويملك أسهما في شركة سامسونغ للإلكترونيات، ويقيم في الإمارات، وإبنة بيشرو البالغة 11 شهراً، وإحدى العاملات في المنزل من الجنسية الفلبينية. وقالتْ المعلومات المحلية إنَّ دزيي أقام حفلاً عائلياً بمناسبة عودة أبنائه من الولايات المتحدة، وهو ما يفسر حجم الإصابات التي وصلت إلى 16 شخصاً، في حين لم يكشف عن هوياتهم عدا أفراد عائلة دزيي، وهم زوجته وابناه.
يُعَدُّ بيشرو دزيي (61 عاماً)، أحد رجال الأعمال المعروفين في إقليم كردستان، لما له من دور في المشاريع الإعمارية والتجارة بتلك المنطقة، فهو صاحب المشروع السكني التجاري الأضخم في أربيل “إمباير وورلد”، وهو مقرب من العائلة الحاكمة في الإقليم. ويمتلك دزيي “مجموعة فالكون”، التي تنشط في مجال قطاع الأمن بالإضافة إلى البناء والنفط والغاز الطبيعي والتكنولوجيا والزراعة ومستحضرات التجميل، فيما تقدر ثروته بـ 2.6 مليار دولار.
لكن لدى إيران رأي آخر، فقد اتهم الحرس الثوري الإيراني أن منزله هو أحد مقار “التجسس” لصالح الموساد الصهيوني.
تقول وكالة “نور نيوز”، المقربة من المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، إنَّ دزيي يعتبر مسؤول تصدير النفط من كردستان العراق إلى “إسرائيل”، فيما تتهمه جهات إيرانية أخرى بأنه “غطاء للموساد الصهيوني ومسؤول حمايتهم ودعمهم”.
وتُعَدُّ شركة فالكون للأمن والحراسة الحالية، امتداداً للشركة الأمنية التي بدأ بها في بغداد عام 2003، حيث كان يشرف عليها دزيي، وتقول مواقع إيرانية إنَّ مقرها الرسمي في مصر وهي تعمل مع شركات لتحديد المواقع والأهداف من خلال أرقام السيارات والإمكانيات التكنولوجية الكاملة. وذكرت وكالة أنباء “فارس”، أنَّ منزل دزيي هو “مقر الموساد في أربيل الذي يقع على بعد 15 كلم خارج المدينة”.
وأشارتْ وكالة “فارس” إلى أنه “تم بناؤه وكأنه منزل سياحي (فيلا) للتمويه في حين لم يتم بناء منازل قريبة منه”، لافتة إلى أنه “يعتبر ثالث مقر محصن للموساد في المنطقة وهو مبني على شكل طبقتين من الخرسانة ويضم جهاز رادار وأجهزة التنصت”. وزعمت الوكالة مقتل 4 من كبار المسؤولين في هذا الموساد، “الذين كانوا تحت السيطرة الاستخبارية الكاملة من قبل الأمن الإيراني”، وفق حديثها.
وجاءت الضربة الإيرانية على أربيل، بعد أقل من يوم على انتشار أنباء وصول 1500 جندي أمريكي إلى العراق، وفقاً للإعلام الأمريكي، في حين نفت خلية الإعلام الأمني العراقية صحة تلك الأنباء. وفي عام 2022، استهدف الحرس الثوري الإيراني مبنى عائداً لمدير شركة كار كروب، باز رؤوف كريم، قالت إنه قاعدة للموساد الإسرائيلي في أربيل، التي لا تنفك عنها هذه التهمة منذ سقوط النظام السابق في العراق عام 2003.
الهجمات الإيرانية غير المسبوقة على مواقع جهاز الموساد الصهيوني في إقليم كردستان العراق تدخل في سياق الحرب المكشوفة بين طهران وحلفائها في فصائل محور المقاومة في إقليم الشرق الأوسط، وبين إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة، اللتان ترفضان لغاية الآن وقف حرب الإبادة الجماعية على غزة.
ضمن هذا السياق، قال وزير الخارجية الأمريكي، أنتوتي بلينكن، على هامش مشاركته في دافوس يوم الأربعاء 17 يناير/كانون الثاني 2024، إنَّ “هناك فرصة كبيرة لامتداد الحرب في أنحاء الشرق الأوسط”، لكنَّ جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي، جو بايدن، سعى، الثلاثاء الماضي، إلى طمأنة كبار القادة العالميين ورجال الأعمال إلى أنَّ الحرب في الشرق الأوسط لن تتصاعد إلى “صراع عالمي”.
وفي حديثه في المنتدى الاقتصادي العالمي السنوي في دافوس بسويسرا، قال سوليفان إنَّه يتعين على الولايات المتحدة وحلفائها والقوى الإقليمية الأخرى إنتاج “استجابة مشتركة ومتماسكة” لمنع انتشار الحرب، حسب صحيفة “نيويورك تايمز”.
مستقبل التواجد العسكري الأمريكي في العراق
يتساءل المراقبون في الإقليم، كيف ستتأثر علاقة أمريكا والعراق، بعد عزم هذا الأخير إجلاء القوات الأمريكية المتواجدة فوق الأراضي العراقية، والتي يقدر عددها بنحو 4500 جندي في العراق، وأكثر من 2000 جندي في سوريا، علماً أن هناك تضارباً في الأرقام بين مصدر وآخر، لا سيما أنَّ واشنطن لا تفصح عن الأعداد الحقيقية لقواتها بالعراق وسوريا. كما أنَّ الحكومة العراقية ذاتها لا تعلم حجم القوات الأمريكية المنتشرة على أراضيها،
وكانت شبكة “سي بي إس نيوز” الأمريكية، تحدثت عن انضمام 1500 جندي أمريكي إلى أحد ألوية المشاة التابعة للحرس الوطني التابع لجيش نيوجيرزي، إلى “عملية العزم الصلب” لمحاربة تنظيم “داعش” في سوريا والعراق.
ولم تعلق واشنطن رسمياً على ما ذكرته الشبكة، لكنَّ وكالة الأنباء العراقية نفت الاثنين، دخول قوات أجنبية إضافية إلى العراق، في إطار قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، إذ تؤكد مصادر من وزارة الدفاع الأمريكية أنَّ واشنطن لا تعتزم إرسال دفعة جنود إضافية إلى سوريا والعراق، مشيرة إلى أن “مهمة الدفعة الجديدة التي تحدثت عنها شبكة “سي بي إس نيوز” هي تبديل القوات الأمريكية المنتشرة في سوريا والعراق”.
وفيما يعتقد المحللون الغربيون أنَّه من الصعب على إدارة بايدن إرسال قوات إضافية إلى سوريا والعراق في الوقت الحالي والإعلان عن ذلك، لا سيما أن هذه الخطوة قد ترسل إشارات خاطئة مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية المقررة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، فإرسال الجنود الأمريكيين إلى بؤر التوتر لا يخدم إدارة الرئيس بايدن في الحسابات الانتخابية.
يرى قسم آخر من المحللين عدم استبعاد الولايات المتحدة إرسال دفعات جنود إضافية إلى سوريا والعراق، على خلفية تصاعد وتيرة الهجمات التي تتعرض لها القواعد الأمريكية في سوريا والعراق من قبل فصائل المقاومة العراقية المرتبطة غالباً بإيران، وذلك منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة منذ تشرين الأول/ أكتوبر2023.
وتشهد المنطقة تصاعداً متزايداً في وتيرة الصراع بين إيران وحلفائها في محور المقاومة ومنها الحوثيون والولايات المتحدة، أمريكا، وهذا يعني أن هناك حاجة أمريكية لزيادة عدد قواتها وجاهزيتها، تحسباً لتطورات غير محسوبة في الحرب الإقليمية الدائرة. ويركز التفكير الأمريكي الاستراتيجي على الاستعداد للتعامل مع أي خطر قادم، بدلاً من أن يأتي الخطر دون أن تكون القوات الأمريكية في سوريا والعراق جاهزة. وتهدف الولايات المتحدة من زيادة قواتها لضبط الأمور مباشرة في المنطقة، بمعنى أنَّها توازن بدقة ضبطها للوضع في العراق وسوريا لمواجهة فصائل المقاومة العراقية المرتبطة بإيران وفرض دورها في شرق الفرات بسوريا.
وليس وارداً في الوقت الحاضر أنْ تنسحب الولايات المتحدة من قواعدها في العراق، لا سيما من قاعدة عين الأسد التي تُعَدُّ قاعدة عملاقة من حيث البنى التحتية، وتتفوق تقنياً على قاعدة أنجرليك في تركيا بـ 3 أضعاف، وكذلك قاعدتها العسكرية في أربيل بإقليم كردستان العراق، وبالتالي لن تنسحب الولايات المتحدة منها.
خاتمة
إنَّ استراتيجية الولايات المتحدة في إقليم الشرق الأوسط هي البقاء طويل الأمد في العراق وسوريا، لا سيما في ظل تفجر الحرب الإقليمية حالياً، سواء في غزة أو البحر الأحمر، وفي شمال فلسطين على حدود لبنان، وهناك تداعيات كثيرة تبعد احتمالية خروج الأمريكيين من العراق وسوريا وترك قواعدهم العسكرية.
على الرغم من إعلان رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، منذ أكثر من عشرة أيام تشكيل لجنة ثنائية بين واشنطن وبغداد لإنهاء تواجد التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة وإخلاء القواعد العسكرية في العراق، فإِنَّ تواجد قوات التحالف الدولي في العراق جاء منذ اجتياح “داعش” لثلث مساحة العراق، عام 2014، وبطلب من العراق، وجرى توثيق ذلك في الأمم المتحدة وبموافقة دولية، لهذا فإنَّ إلغاء وجودهم ليس بالأمر السهل والسريع كما يتصور البعض، وينفّذ التحالف بين الحين والآخر ضربات جوية تستهدف معاقل التنظيم، ويقدّم المعلومات والمشورة والتدريب إلى القوات العراقية.
يُعَدُّ النظام السياسي الحالي في العراق، صنيعة أمريكا نفسها، فإذا طالب بانسحاب القوات الأمريكية وغلق سفارة واشنطن من العراق، فإن الموقف سيتحول إلى موقف عدائي، ويحسب العراق على إيران، وهذا الأمر سيحقق عزلة لإقليم كردستان، وعلى الأقل فإن أربيل ودهوك ستنفصلان عن البلاد تماماً، وربما يكون برعاية أمريكية إسرائيلية، وهذا الأمر نفسه ينطبق على محافظة الأنبار أيضا، لأن الأمريكيين لن ينسحبوا من قاعدة عين الأسد.
ومن الجانب الاقتصادي، فإِنَّ العراق مرتبطٌ ارتباطاً عضوياً شديداً بالولايات المتحدة، لأنه حينما يبيع النفط فإنَّ وارداته تدخل في حسابه بالبنك الفيدرالي الأمريكي، وأن الأخير هو من يحوّل الأموال إلى بغداد لتغطية الموازنة المالية، وإذا تخلت أمريكا عن بغداد، فإنَّ الكثير من الأطراف الدولية ستطالب العراق باستحقاقات مالية تاريخية متراكمة منذ زمن النظام السابق (برئاسة صدام حسين) وبالتالي فستذهب الأموال التي في البنك الفيدرالي الأمريكي إلى تلك الدول.
والحال هذه، فإِنَّ طلب الحكومة العراقية جدولة انسحاب قوات التحالف الدولي في ظل الحرب الإقليمية الدائرة بين إيران وأمريكا، يدخل في سياق ممارسة الضغوط على أمريكا لتقليص الاستهدافات المباشرة لفصائل المقاومة العراقية، خصوصاً بعد قتل أحد قيادات حركة النجباء، الفصيل العراقي الأكثر شراسة في المقاومة العراقية المناهض للوجود العسكري الأمريكي في العراق وسوريا. فما تريده الحكومة العراقية هو إعادة صياغة العلاقة مع الولايات المتحدة، والتي تبنتها الحكومات السابقة من خلال الاتفاقية الأمنية الاستراتيجية مع أمريكا، والتركيز على مبدأ الشراكة الاستراتيجية طويلة الأمد.