الإدراك.. والإحساس بالزمن
بقلم غسان عبد الله
في حين أن الفيزياء تدرس ماهيّة الزمن، فإن علم النفس يدرس الشعور بهذا الزمن. وما بين الزمن والشعور به تناقضات عجيبة. فلنأخذ على سبيل المثال، الفرق بين عدد ساعات اليوم وعدد ساعات جسم الإنسان: (الساعة البيولوجية).
جميعنا يعلم أن اليوم مكون من ٢٤ ساعة، ولكن أغلبيتنا لا يعلم أن الساعة البيولوجية أطول بــ ١١ دقيقة في اليوم. أما إذا أضفنا عامل الشعور بالزمن، فإن المدة الزمنية تصبح اعتباطيّة. انظر الفرق بين الساعة التي يقضيها الإنسان المفعم بالفرح مع من يحب وبين الساعة التي يقضيها الإنسان في زنزانته. هنا، يكون الشعور بالزمن أهم من الزمن ذاته. في حين أن الفيزياء قد تُعرِّف (الزمن) بحركة المكان، فإن علم النفس يُعرِّف (الشعور بالزمن) على أنه الحركة في المكان. المتخصص في علم النفس، يُريد أن يفهم طبيعة حركتك، لكي يستنبط إحساسك من هذه الحركة. بينما الفيزيائي لا يدرس أحاسيسك حينما يكتب لنا عن الزمن. هذا لا يعني أن الفيزيائيين غير واعين بشعور الإنسان بالزمن وإنما المقصود أن الفيزياء لم تبحث علاقة الشعور بالزمن عند البشر.
ولأن الفهم والإدراك مبحث نفسي (سيكولوجي) لا علاقة – مباشرة – للفيزيائي بذلك. نود أن نلفت الانتباه للعلاقة بين الإدراك والزمن في علم النفس؛ البُطء الزمني عقبة في طريق الفهم لدى الإنسان. بمعنى أن الحركة البطيئة تُعيق وتُضعف عملية الإدراك والفهم بما هو حولنا. مثال ذلك أن ملاحظتنا تكون أكثر دقة للأشياء السريعة. أو للتغيّر السريع. لذا نلاحظ ببساطة ونفهم وندرك حجم التغيّر بناءً على سرعة حركته. مثال ذلك، أنه حينما يلتقي بنا صديق بعد انقطاع طويل فهو يرى حجم التغير الذي طرأ على وزن هذا الإنسان، بينما من يعيش معه في المنزل لا يلاحظ هذا التغير في الوزن (إلا إذا كانت الزيادة هائلة وبذلك يكون معدل السرعة في التغير مرتفع). أضف لذلك، أن فهمنا للتّغيرات المفاجئة يختلف عن فهمنا للتّغيرات البطيئة. قد نتسامح مع المتغيرات البطيئة في حياتنا على الرغم من أنها خطيرة، بينما نخاف من التغير المفاجئ والسريع الذي لا يشكل خطراً علينا. حيث أن هذا يُشير إلى أن الشعور بالزمن يؤثر على الفهم والإحساس. نحن لا نشعر بالخوف والقلق أثناء التغيرات البطيئة، وبناءً على ذلك تكون قرارات الإنسان مرهونة بإدراكه للزمن. التجربة الشهيرة التي قام بها باحث إيطالي، حيث قام بوضع ضفدع في قدر به ماء ثم قام برفع درجة حرارة الماء ببطء إلى أن وصل لدرجة الغليان، فكانت النتيجة هي موت الضفدع!!! لأنه عجز عن أن يلاحظ التغيّر الذي طرأ على درجة حرارة الماء. لكن لو تم وضع الضفدع مباشرةً في قدر يغلي من الماء، فإنه سُرعان ما يدرك هذا التغير المفاجئ ليفر من هذا الماء المغلي. ولكن حينما كان التغير في درجة الحرارة بطيء، لم يشعر الضفدع بحركة الزمن فتلاشى إدراكه للخطر وبدأ يحاول التكيف حتى فارق الحياة. ذلك الزمن والإدراك.
ومن آثار الوقت علينا، قدرته على تشكيل وصياغة سلوكياتنا اليومية. كمثال على ذلك هناك دراسة أشارَت إلى أن الناس الذين يعيشون في المدن التي تتميز بسرعة إيقاع الحياة فيها، يكونوا أقل إيثاراً من أولئك الذين يعيشون في البلدان ذات الإيقاع الحياتي البطيء. أنظر لنفسك حينما تكون في عجلة من أمرك وقارن ذاتك بذاتك حينما تكون في هدوء وكأنك قد ملكت الزمان. في الحالة الأولى نراك عاجزاً عن قراءة ملامح الناس من حولك. وقتك المختنق يقف بينك وبين إدراكك لمن حولك. ووقتك المتناهي في البُطء أيضاً يُعرقل ويعيق عملية الإدراك بما هو مُحيط بك. فأنت لا تدرك حركة الزهور من انقباضها إلى انبثاق أزهارها. إنما تراها إمّا منقبضة أو منبثقة. وكأنك عاجز عن الملاحظة فيما بين البداية والنهاية. إحساسك بالزمن يحتاج إلى دُربَةٍ يومية. نحن في حاجة إلى تحقيق [التوازن في الشعور بالزمن]. ألاّ تقع في البُطء الزمني العميق فلا تُدرك أي شيء وبذلك لا تستطيع أن تشعر بمن حولك من الناس ولا تُؤْثِر لهم من وقتك شيئاً.
وفي الزمن أيضاً تُخلق انتماءاتُنا وأفراحنا وآلامُنا. وتُصاغ هُوياتُنا. عليك أن تدرك أن الزمن لم يبدأ بيوم ميلادك ولن ينتهي بموتك. وأنه أيضاً لم يبدأ بتاريخ احتلال فلسطين أو سقوط بغداد أو حتى ببداية التاريخ الهجري. الزمن أيضاً كان موجوداً قبل ميلاد المسيح عليه السلام. بدايتك أنت وحدك في الزمن، تجعلك تنتمي إليه بطريقة تختلف فيها عن كل الآخرين. قد لا تنسى زمن تلك الفرحة في حياتك. وتذكر دائماً زمن ذلك الألم الذي اليوم هو جُزء من حياتك. نحن ننتمي لهذا الزمن وتَتَحدّدُ هُويتُنا من خلال انتمائنا للوقت. ونصنع من ذلك التاريخ. ونحتفل بالذكريات كل عام حينما نَمُرُّ بخط الزمن مرة أخرى. ولكن علينا أن نحذر من أن تتفتت هويتنا ونخسر ما تتميز به أزماننا عن أزمان الآخرين.
وختاماً، الزمن بحرُ الحياة، والإنسان في الزمن كالسمكة في الماء. في حين أن السمكة لا تدرك وجودها في الماء، كذلك الزمن في حياة الإنسان. يعيشه ولا يدرك حقيقته أو ماهيّته. ولا يصبح الإنسان واعياً ومدركاً بهذا الزمن إلا في لحظات قصيرة ومحددة. كموت صديق أو قريب. أو أن نشهد مأساةً ماحقةً كتاريخ حرب. هناك، دائماً ما نكون أكثر وعياً بالزمن. تلك هي لحظات وعي السمكة بالماء حين تغادره. تعلم حينها السمكة أن الماء هو الحياة. وكذلك زمن الإنسان هو حياته التي يقضيها على هذا الكوكب.