الدينُ والحداثةُ وسؤالُ المعنى والمصير
بقلم نبيل علي صالح كاتب وباحث سوري
.. ويبقى الدين أهم إشكالية في الوجود البشري كله، ونقول “إشكالية” ليس لدى الإنسان المؤمن الناظر لعالم الآخرة بطمأنينة روحية وسلام داخلي متين، انطلاقاً من قناعته العقائدية الإيمانية وأعماله الطيبة وفعله الصالح على الأرض، في التزامه بأحكام الله وشريعته وقيمه؛ بل هو (أي الدين) إشكالية لمن ما زال يشك ويسأل ويستفسر باحثاً عن معنى الوجود والحياة، والغاية من الخلق، وما قد يترتب على الإجابة الصحيحة من أفعال والتزامات قد يجدها البعض صعبة التحقق والمنال والتنفيذ..!!.
وكما هو معروف، فقد كان للدين – لدى كل الجماعات البشرية التي وجدت على وجه الأرض منذ بدايات الخلق – الحضور الأبرز والدور الأعمق في وعي تلك الجماعات للحياة والطبيعة والنظرة للوجود، على مستوى الذات في المفاهيم والقيم والمبادئ الكلية، وعلى مستوى الموضوع في السلوك والممارسة والوظيفة اليومية.
فكلنا شاهدنا وعاينّا كتابات ورسوم البشر البدائية الأولى على الصخور وجدران الكهوف والمغاور التي كانت أماكن سكناهم الأولى.. ولاحقاً جاءت كتاباتهم و”تدويناتهم” وتنظيمهم لثلاثية “المعبد والملك والشعب” التي ظهرت مع أولى التقسيمات الطبقية الاجتماعية في أقدم المدن البشرية المأهولة المكتشفة التي بناها الإنسان واستوطن فيها ليبدأ حياة حضرية جديدة كان الدين فيها العنصر الحيوي الأكثر فعالية ووظيفة ودوراً.
وهذا كله يعني أنّ الدينَ متواجد بقوة وعمق في النفس البشرية كفطرة تولد معه بالقوة الذاتية، ثم تتطور وتتكامل وتتصاعد بالفعل الوجودي الحياتي.. ليستمر في بحثه عن المعنى والغاية والهدف.
وإذا كانت الحداثة الغربية قد قطعت مع عالم الدين نفسه، وأوجدت لنفسها ملاذات آمنة في التعابير المادية الدنيوية فكراً وسلوكاً مادياً، تاركةً قضية الإيمان مركوزة في الوعي الذاتي والتعبدي الخاص للإنسان في طبيعة العلاقة بين الفرد وخالقه فقط، فإن الإسلام كدين حياتي عملي لا روحي فقط، لا يفصل بين ذاتٍ وموضوع، أو بين مادةٍ وروح على نحو الانفصال الكلي، وبالضرورة والمآل هو لا يفصل بين دنيا للفعل والإنتاج والكسب الحياتي، وبين آخرة هي دار جزاء وعدالة مطلقة، بل ربط بينهما ربطاً روحياً وعملياً، فالدنيا دار عمل وابتلاء واختبار، والآخرة دار بقاء وجزاء، يلقى فيها بنو الإنسان جزاءهم عن أعمالهم وأفعالهم (وكسبهم) في دنياهم، وهذا هو مؤدى قوله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ (سورة القصص/77). وقوله تعالى الواضح في الربط بين الدنيا والآخرة لناحية أن الدنيا مزرعة الآخرة: ﴿أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ۖ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ﴾ (البقرة/86).
لقد نظرَ الإسلامُ إلى حياة الإنسان انطلاقاً من أن الإنسان مخلوق (معلول) تابع لخالق وليس مخلوقاً تابعاً لذاته، وحياته ليس مرهونة له بل لخالقه تعالى الذي نظم حياته وفقاً لمسارات فكرية وعقائدية تقومُ على التوحيد والإيمان بجميع أركانه وتستند إلى قيم سماوية عالية مطلوب من الإنسان السّعي إليها في حياته الدنيا من أجل أن يحقّق هدفَ الخلق، انطلاقاً من فكرة الاستخلاف الهادفة لتنظيم مهمة الحياة الإنسانية التي حدّدها القرآنُ في قوله عز وجل: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ﴾ (آل عمران/110).
وبهذه النظرة الشاملة العامة لا الجزئية الخاصة، يختلف الإسلام عن الحداثة الغربية التي ارتضاها الدين المسيحي، على الرغم من المناوشات الفكرية والصراعات العملية – إذا صح التعبير – التي جرت بينهما.. فالإسلام دين عمل وكسب وسعي بين مصالح الدنيا والآخرة.. أي هو دين عملي حياتي شامل لا يفصل حركة الحياة الدنيوية عن الإيمان بالآخرة وما يترتب عليها من فعل التعبد لله تعالى، حتى وإن كانت هذه الحركة من حركات تحصيل مكاسب دنيوية فقط.. ولكنه حثّ على الموازنة بين العبادات في صورتها المألوفة، وبين العمل الذي يراد به كسب الرزق، فلا إفراط ولا تفريط، وإنما هو توازن دقيق بين جسد وروح، مادة ومعنى.
نعم، ما يزال للدين (بصرف النظر عن نوعيته وماهيته) هذا الحضور الكلي والشامل المهيب والآسر في كل المجتمعات والأمم المعاصرة، ومجتمعاتنا العربية لا تخرج عن هذا النسق، حيث يظهر الدين فيها، كأحد أهم المعايير الحاكمة على وعي الناس، وتصرفاتهم، من خلال هيمنة ثقافته ومحدداته وقيمه الخاصة والعامة على الفرد والمجتمع ككل.. فمن جهةِ المعنى والمظهر الروحي الداخلي، لهذه الثقافة التراثية التاريخية، هناك تحكّم كلي لها بمسار هذا الفرد، يؤثّر على آلية وكيفية إنتاجه وعطائه العملي، ومن جهة المظهر المادي الخارجي، هناك أشكال ومظاهر الحضارة الحديثة التي أخذت بها تلك المجتمعات دونما تعمّق أو إدراك حقيقي للفلسفة والوعي الثقافي العقلي الحداثي الذي أنتجها.
هذا التناقض الصارخ بين الذات والخارج، المتمثل في عدم وجود حالة تصالح واقعي بينهما على مستوى الفكر والعمل، يبقي الناس عندنا في دائرة القلق والتوتر، بما يؤثر على فاعليتها وحضورها في زمانها الراهن.
وبما أن طبيعة الحلول المقدمة في هذا السياق – لتلك الأزمة الوجودية – لا تندرج ضمن الحلول الواقعية المتناسبة إيجاباً مع ثقافة الناس التاريخية، وفكر وطبيعة النسيج الاجتماعي والروابط التقليدية والانتماءات العتيقة لمجتمعاتنا (بقطع النظر عن تقييمنا لها وانطباعنا عنها)، بل هي في أغلبها مفروضة بقوة القهر، وقانون الغَلبة، وأساليب العنف المعروفة، ما يجعل من استجابة الفرد العربي والمسلم لها، وتفاعله معها، بطيئة وحذرة، وغير إيجابية عموماً، ولا تتناسب مع تطورات الحياة والعالم من حوله، فإن ذلك كله سيؤدي – على الدوام – إلى توليد مزيد من الانتكاسات باستمرار، بما يعني البقاء في قلب المشكلة واجترارها دونما تغيير حقيقي، والتقلّب من أزمة إلى أخرى، تخنق المواطن العربي في عيشه وحياته، وتضع مصيره المستقبل رهن المجهول.
وبالنظر إلى هذه المشاكل والتّحديات الصّعبة التي يواجهها الفرد والمجتمع العربي المسلم، تبرز أمامنا اليوم أهمية قصوى لتجديد البحث والتأمل الجاد والحيوي في تحديد المعنى الحقيقي لفلسفة الدين، والغاية منه، على صعيد الفرد أولاً.. وإدراك وتحديد معايير وضوابط رئيسية حول كيفية دخول وانخراط هذا الفرد، ومن ثم المجتمع ككل – والثقافة الدينية المتأصلة عربياً وإسلامياً – في شتى ميادين الحياة وحقولها المعاصرة على ما فيها من صور وتنوعات وتعابير ومعاني واقعية واسعة وشاملة.
ولكن هناك سؤال أساسي يطرح نفسه حول وجود إمكانية فكرية وعملية في داخل ثقافتنا الدينية “المهيمنة” على القلوب والعقول، يمكن أن تهيئ المجال لحدوث توافق ما أو انسجام معين ومحدد ومضبوط بين الدين (كرؤية فلسفية كينونية، وكهوية حضارية بشرية تقوم على المعنى والتأويل، وتستنجد بالتاريخ لمقاربة الحاضر والمستقبل)، والحداثة (كواقع اجتماعي واقتصادي متحرك ومتغير، يقوم على العقل والتجربة والحس، وينتج خطاباً ثقافياً تنويرياً متجدداً يقترح على الوعي العربي والإسلامي عموماً رؤية للعالم والمجتمع والثقافة مغايرة للرؤية الدينية التقليدية).. ألا يمكن الجمع بين الرؤيتين في بوتقة واحدة؟!.
لا شك بأن المجتمعات العربية والإسلامية تعيش الآن حالة قسر بالمعنى العملي للكلمة، وتنوء تحت عجز تاريخي كبير وفاضح في وعيها للذات وللآخر، وفي ممارستها لدورها الطبيعي في الحياة والعصر.
ويظهر لنا أن هناك دوراً تعطيلياً تقوم به كثير من المفاهيم والتأويلات والتحليلات الدينية السائدة والمسيطرة على تلك المجتمعات الغارقة في تخلف فكري واجتماعي يعاد اجتراره وإنتاجه على الدوام كما نقول دوماً.. حيث أنه من المعروف – في هذا المجال – أن الفكر والمعرفة المختزنة في داخل كل فرد هي القاعدة والمحرك الأساسي لتصرفاته وسلوكياته وبالتالي لقيامه بدوره ومشاركته في صنع أحداث ووقائع حياته اليومية الخاصة والعامة.. أي أن رؤية هذا الفرد وفلسفته في تسيير الوجود الخاص والعام هي المنطلق الجوهري لأي طموح أو رغبة لديه في بناء عالمه وتحقيق كماله الممكن له.
ويمكننا أن نطلق على تلك الرؤية أو المعرفة بكل بساطة “فلسفةُ الإنسان“.. وهي متكونة من خلاصة تجاربه وتراكم خبراته، وتجسد رؤيته المنطلقة من ذاتيته المعرفية المختلطة بما يحيط به من أحداث وتحولات شاركت في تكوين وانبثاق تلك الفلسفة التي اكتسبها من وجوده في هذه الحياة، لتسمو وتتطور في سلم الوجود عبر حواراته وتفاعلاته واحتكاكاته واتصالاته وتواصله مع باقي المكونات الإنسانية في مجتمعه، ما قد يجعل هذا الفرد مدركاً للأحداث ومتفاعلاً معها سلباً أو إيجاباً. وهذا الكلام لا يعني عدم وجود بديهيات فكرية عقلية وتصورات أولية أعطت المسيرة البشرية الدفع الأكبر في تطورها وترقيها في الوجود.
من هنا كان الإسلام – كحالة في الفكر والإحساس والممارسة، وكرؤية للكون والوجود والحياة، وكفلسفة كونية، وكنزعة خلاصية – هو مصدر الديناميكية التاريخية المؤسسة لمجمل القيم والمبادئ المحركة للإنسان المسلم عموماً في كل المراحل التاريخية التي قطعها هذا الدين منذ البواكير الأولى وحتى الآن. هذه حقيقة واضحة وصريحة لا يمكن غض النظر عنها، أو محاولة القفز فوقها، واعتبارها شأناً ثانوياً لا أثر أو لا معنى لها.
وإذا كانت الغاية المقصودة في كل حراكنا المعرفي والعملي تهدف إلى محاولة التأثير على سلوك الفرد المسلم من خلال دفعه إلى الحضور في عصره، أي في المشاركة الفاعلة – الطوعية الإرادية – في بناء واقعه وحاضره وتأمين مستقبل أجياله الطالعة واللاحقة، أي استثمار وجوده الحي على نحو فاعل ومنتج ومفيد، فإن المدخل الطبيعي إلى ذلك لا بد وأن يمر عبر دراسة وتحليل القوى المحركة لهذا الفرد شبه الضائع أو شبه المغيب حالياً – خصوصاً في ظل تطورات الحياة والوجود – بين واقعه النظري المفاهيمي (الإسلام كعقيدة وانتماء وهوية ثابتة مقولبة وجامدة على معايير نصوصية ومقدسات صلبة) وبين واقعه العملي الخارجي المتغير والمتحول باستمرار.. والقضية هنا هي أن طاقات الفرد غير مستثمرة مطلقاً، وهي مبددة وضائعة مثل ثروات الأمة الطبيعية الهائلة.
وهذه القوى النظرية غير المنظورة المؤثرة، هي مجموعة القيم والمبادئ الأساسية المحررة للإرادة، والمحفزة للذات، والدافعة لهذا الفرد للعمل والإنتاج والإبداع في كل حركة واقعه الخارجي.
وليس هناك من وسيلة لتحقيق ذلك إلا من خلال ممارسة النقد والتحاور الفكري مع النص والنظرية المعرفية المؤسِسة.. فبهذا الثمن يمكن أن يستعيد المسلمون هوية سابقة كانت في لحظة تشكُّلها الأولى فكرة إيجابية وقيمة معطاءة ومحفزة للعمل والنشاط الحضاري، أو يجددوا هوية هرمت وفقدت بوصلتها ووعيها الذاتي والموضوعي لعلهم يستطيعون التعرف من خلالها على آليات الحداثة، وأولويات الاندماج في العصر، وبالتالي الارتقاء بممارستها وتطبيقها والسيطرة عليها بالعمل والإنتاج. أي أن يكون لهم دور وأثر محقق فاعل وحاضر، وعياً ومسؤولية، من خلال إثبات فاعلية الحضور في المتن والموضوع، وليس في الهامش المتجسّد من خلال اجترار التقليد والتبعية للآخر، في استجلاب ونقل حداثته إلى داخل حدودنا الجغرافية من دون وعي معاييرها وبناها الفلسفية التحتية. ما يجعلنا نكيل لها التهم والشتائم من دون أن نعيها وندرس طرائق وسبل تطورها لدى الآخر، ليس لأنها سلبية بحد ذاتها مع وجود سليبات فيها، وإنما لأن ظروف تشكلها ومناخات نشوئها وعملها مختلفة عن ظروفنا وسياقاتنا الحضارية بصورة وبأخرى.
من هنا يمكن التأكيد على أن تقدم مجتمعاتنا العربية الإسلامية مرهون أساساً بتطور وتقدم الفكر المؤسس والثقافة المسيطرة التي ما زلنا نجترّ كثيراً من مفاهيمها تقليداً فحسب دونما مراجعة ومساءلة، بحيث ابتعدنا عن الإنتاج الحضاري والإضافة النوعية والحضور الفاعل زماناً ومكاناً (عقلاً ووعياً) في عصرنا الراهن.. وهذه القناعة الذاتية لن تتولد أو تنبثق عنده إلا بنقد الفكر المؤسس، وتجديد المعرفة والهوية ليكون إنساننا قادراً على ممارسة معيشته إنتاجاً وعملاً في زمانه من خلال تجديد الفكر الزمني التاريخي نفسه.
نقول هذا مع معرفتنا أن الإسلام هو دين العمل، يشد الناس إليه ويدعوهم للسعي والكسب الحياتي (إنتاجاً وحضوراً)، حتى عقب الصلاة مباشرة: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (سورة الجمعة/10).. وقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ (سورة الملك/15).