أول الكلام

دورانٌ بلا جهات

بقلم: غسان عبد الله

 يا صاحبي جنحتْ بك النجوى، إلى مرِّ البكاءِ.. توزّعتكَ شواطئُ، واستوطنتكَ زخارفُ الكلماتِ، يا وجهاً تضيعُ صفاتُهُ عبثاً على دربٍ بلا هدفٍ.. وقد كانت فصولُ الأمسِ في رؤياكَ مورقةً.. تحمِّلُ قادمَ الأيامِ إيقاعاً جديداً…

ها أنتَ مبتدأُ النهايةِ في جحيمِ الموتِ مصلوبٌ على حطبٍ تجمَّعَّ.. فارتمتْ في النارِ قامتُكَ الظليلةُ واستحالتْ في مجامِرها قديدا.. ها أنت غرَّبكَ الحبيبُ عن الديار وكنتَ قبل اليوم في آفاقِها قمراً وليداً… ها أنت غرّبَكَ الصِّحابُ، وطاردتكَ ذئابُهُم الوديعةُ.. فوجدتَ نفسكَ في مراجيح الصدى متصدّعاً، متهدّماً، متجرّداً من صحبةِ الأحبابِ، تغرز ناعباتُ الطيرِ في دمك الشرودَ.

ياما.. رستْ عيناكَ في صدفِ العيونِ، ورحتَ تبحثُ في مرايا السائلينَ عن الأنينِ، وعن لهاثِ البحرِ، والصحراءِ، والعظمِ الرميمِ.. فماذا تقولُ إذا رماكَ العشقُ في محرابِهِ وعداً شهيداً..!؟

الصمتُ قاموسٌ، له لغةٌ مكبّلةٌ على شفتيكَ، والعجلاتُ دارتْ ثم مرّتْ فوق وجهِكَ، والمدى غسقٌ.. فقلْ لي من خلالِ الصمتِ، هل من بقعةٍ بيضاءَ أو خضراءَ، أو حمراءَ، تستهويكَ عبرَ دبيبِها الضوئيِّ…؟.

قل لي: كيف ينحسرُ الزمانُ عن المكان…!؟ وكيف ينسجُ ذلك التنين من جلدِ الخراف له بُردةً؟؟ الصمتُ قاموسٌ على شفتيكَ، ثمةَ دمعةٌ تحبو وتحرقُ عند مجراها الخدودَ.. ها أنتَ في أنواءِ رحلتكَ الثريّةِ بالأسى شهيدٌ آخرُ دارتْ بك الأقدارُ.. وانقلبتْ بكَ الأحوالُ.. ضاعَ رفيقُ دربِكَ، تهتَ في مسراكَ، أو بلواكَ، والأفاعي وراءكَ، تستبيح أ لسنتُها عشبَ الحياةِ، وأنتَ في يتمٍ، وفي سفرٍ، وفي ليلٍ من الأهوالِ تفقدُ كلَّ شيءٍ.. تفقد الإبصارَ، والطرقاتِ، والأملَ المجنّحَ، والسعادةَ المرجأةَ إلى آخر العمر أو أرذَلِهِ.. دمُكَ السبيلُ إلى الركوعِ.. وشمسكَ انطفأتْ بأيديهم، وصدرُكَ في سُباتِ الروحِ مقبرٌة تَوسَّع قاعُها وامتدَّ فارتفعتْ على دمِنا البيارقُ، واستكانتْ في فضاءِ الروحِ سواداً حالكاً.. هذي معاولهم، تُهيلُ على الأماني التربَ قرباناً ” لشياطين الأنا” وتجيءُ ثم تروح أرتالُ المصائبِ، والعوائقِ، عند ناصيةِ النهارِ…تروح تشحنُ ما تبقّى من خلاياكَ الأسيرة، والعيونُ بصيرةٌ، وقصائدُ الشعراءِ تعلنُ صمتَها.. أو تطرقُ الأبوابَ شاديةً، وسائلةً… سلاماً أيها العاشقُ الذي احترقتْ مدامعُهُ دهوراً، والذي عانى، وكم عانى، أتدري أيها العاشقُ المعلّق بالمشانقِ، كيف أصبحتِ الشرايينُ النضيرةُ والغصونُ المورقاتُ، وزهرُها المنثورُ للأيدي قيوداً من صدودٍ وارتحالْ؟؟.

أسْرَتْ بكَ الأحزانُ عبر دجى القرونِ الماضياتِ الآتياتِ إلى مضاربِ أحبةٍ أَلِفَتْ خريفَ حياتها، دهراً مديداً واستعذَبَتْ سحرَ الوصولِ إلى ربيعِ الذلِّ خائبةً، ولاهيةً على وجعِ الثرى، فمشتْ على جراحاتِها أممٌ من الجلاَّدين، وعاثتْ في جوانبها، وعاثتْ، ثم عاثتْ، لا تُردُّ لها سهامٌ، أو يباتُ لها قرارٌ… والغيارى.. أطبقوا أفواههم، عندما نالت مفاتيح الأمان سلالةٌ جعلتْ تضاريسَ العشقِ والحياةِ بأمانٍ.. سهولَها وجبالَها.. عرشاً وأوسمةً، وحطّتْ بين كفَيْها معادلةً من أرقامٍ للزمان المتبَّقي للحياةِ أو الوصولِ للحياةْ، وهناك طاولةٌ ومائدةٌ، وبعضٌ قد طوى شفةً على شفةً يدوم لكي تكون حياةُ العاشقين تحت السيوفِ مباحةً، بعضٌ يحيا، كما يحيا صدى الموالِ.

هذي الأمنياتُ التي كتبتْ على رملِ الصحاري أو على زبدِ البحارِ نداءَها.. والليلُ مسكونٌ بصورتهِ، ومرهونٌ لأفئدةٍ مهملةٍ، وسكينٍ مثلّمةٍ، وأوراقٍ ممزّقةٍ، وريحُ الخوفِ تعبثُ في البقايا ثم ترسمُ عند كلِّ هُنيهةٍ.. في كلِّ منعطفٍ عماءً سرمدياً، أو وعيداً.

هذي القلوبُ التي انطفأ اللهيبُ أمامَ غربَتِها وأصبحَتْ في مشاعر الآخرين جليداً، وتحوّلتْ في موطنِ الأسرارِ، أو في روضةِ السمّارِ حانوتاً، نبيعُ ونشتري فيه الدمَ المسفوحَ على أعتابِ الرَّجاء، أسماءَ الأماكنِ.. والملامحِ… والحدودَ والوقتَ والشروط المعجزة..

يا صاحبي للحلمِ زنبقةٌ بلا حوضٍ ولا ماءٍ، فكيف تعيشُ زنبقةٌ، وهذا الحلمُ من دَرَكٍ إلى دَرَكٍ يسير محطّماً، ويهيم في غده طريدا، ونظلُّ نحن، كما يشاء الآخرونَ نسير… نتبعُ ظلّ ذاك الحلمِ في أعماقِ دائرةٍ تدور بلا جهاتٍ.. والجنونُ جحيمنا التالي، وفي الأرجاءِ متّسعٌ لأغنيةٍ يرافقُ نَوْحَها كفنٌ، ووجدانٌ، وذاكرةٌ، ونكتب نارَها وشماً، وملحمةً على ورقِ السقوطِ… لقد تخلّى سيفُنا عنّا تجرّدَ حلمُنا منا.. انطوى، لم يبق في يدنا سلاحٌ غيرَ أن نمشي على رأسٍ موجَّهٍ بأوامر الآخرين، ونمحي من هويتنا الهويةَ، راكعين أمام “جماعة الرضى”، أهلاً، وخلاَّناً.