هامش ثقافي

الكتابة وأثرها في ثقافة وفكر المرء

بقلم غسان عبد الله

هل الكتابةُ مفيدةٌ لثقافةِ وفكرِ الكاتب نفسِهِ أم أنها مفيدةٌ للقارئِ فقط؟ وإذا كان الجوابُ: بلْ هي مفيدةٌ لثقافةِ وفكرِ الكاتبِ نفسِهِ، فما هذهِ الفائدة؟.. بالنسبة لثقافة الشخص فإن ممارسةِ الشخص القارئ للكتابة تغير من نمط قراءته.

إن ممارسة الشخص القارئ للكتابةِ تغيّر في قراءته من جهتين، من جهةِ ماهية المقروءِ ومن جهةِ طريقةِ أو آليةِ القراءة. أما عن جهةِ ماهيةِ المقروء، فأقول ابتداءً إن الشخصَ القارئَ غالباً ما تتدرج اهتماماتُه وأولوياتُهُ الثقافية، فهناك موضوعاتٌ تهمّهُ ويُحِبُّها كثيراً فيقرأ فيها كثيراً، وهناك موضوعاتٌ أخرى تهمّهُ بدرجةٍ أقلّ فيقرأُ فيها بدرجةٍ أقلّ، وهناكَ موضوعاتٌ أخرى خارجَ دائرةِ اهتماماتِه فلا يقرأُ فيها شيئاً. فإذا ما قرّر عند مرحلةٍ معينةٍ في حياتهِ أن يمارسَ الكتابةَ فما الذي سيتغيّر في ماهية ما يقرأُهُ؟.

أَظُنُّ أَنَّ هُنَاكَ شَيْئَيْنِ فِي مَاهِيَّةِ مَا يَقْرَأْهُ مُعَرَّضِينَ لِلتَّغَيُّرِ، اَلشَّيْءُ اَلْأَوَّلُ هُوَ كَمِّيَّةٌ وَمِقْدَارُ مَا يَقْرَأْهُ بِشَكْلٍ عَامٍّ وَهَذَا غَالِباً سَيَقِلُّ نَتِيجَةَ مُمَارَسَتِهِ لِلْكِتَابَةِ، فَالْكِتَابَةُ تَأْخُذُ مِنْ اَلْمَرْءِ وَقْتاً بِلَا شَكٍّ، وَإِذَا كَانَ اَلْمَرْءُ كَثِيرَ اَلْكِتَابَةِ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ وَقْتِهِ اَلْكَثِيرَ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ اَلْمَرْءُ قَلِيلٌ اَلْكِتَابَةِ وَلَكِنَّهُ يَكْتُبُ بِتَفَكُّرِ كَثِيرٍ فَإِنَّ ذَلِكَ سَيَأْخُذُ مِنْ وَقْتِهِ اَلْكَثِيرِ، وَهَذَا طَبْعاً سَيَجْعَلُ اَلْوَقْتُ اَلْمُتَاحُ لَهُ لِلْقِرَاءَةِ أَقَلَّ كَثِيراً مِنْ اَلْوَقْتِ اَلَّذِي كَانَ مُتَاحاً لَهُ أَيَّامٌ كَانَ لَا يُمَارِسُ اَلْكِتَابَةَ. اَلشَّيْءُ اَلثَّانِي اَلْمَعْرِضَ لِلتَّغَيُّرِ فِي مَاهِيَّةِ مَا يَقْرَأْهُ هُوَ أَوْلَوِيَّاتُهُ فِي اَلْقِرَاءَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ مُمَارَسَةَ اَلشَّخْصِ لِلْكِتَابَةِ غَالِباً مَا تَجْعَلُهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَقْرَأَ فِي اَلْمَوْضُوعَاتِ اَلَّتِي يَكْتُبُ فِيهَا.

فَإِذَا كَانَتْ اَلْمَوْضُوعَاتُ اَلَّتِي يَكْتُبُ فِيهَا كَثِيراً هِيَ نَفْسُ اَلْمَوْضُوعَاتِ اَلَّتِي كَانَ يَقْرَأُ فِيهَا كَثِيراً قَبْلَ مُمَارَسَتِهِ لِلْكِتَابَةِ فَإِنَّ مُمَارَسَتَهُ لِلْكِتَابَةِ سَتَجْعَلُهُ يَسْتَمِرُّ فِي إِعْطَاءِ هَذِهِ اَلْمَوْضُوعَاتِ فِي قِرَاءَتِهِ نَفْسِ اَلْأَوْلَوِيَّةِ اَلَّتِي كَانَتْ لَهَا قَبْلَ مُمَارَسَتِهِ لِلْكِتَابَةِ، وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ مُمَارَسَتَهُ لِلْكِتَابَةِ لَنْ تُغَيِّرَ كَثِيراً مِنْ أَوْلَوِيَّاتِهِ فِي اَلْمَوْضُوعَاتِ اَلَّتِي يَقْرَأْهَا. وَلَكِنَّ هُنَاكَ حَالَاتٌ كَثِيرَةٌ لَا تَكُونُ فِيهَا اَلْمَوْضُوعَاتُ اَلَّتِي يَكْتُبُ فِيهَا اَلشَّخْصُ مُتَطَابِقَةً مِنْ حَيْثُ اَلْأَوْلَوِيَّةُ مَعَ اَلْمَوْضُوعَاتِ اَلَّتِي كَانَ يَقْرَأُ فِيهَا قَبْلَ مُمَارَسَتِهِ لِلْكِتَابَةِ، فَتُؤَدِّي بِهِ مُمَارَسَتُهُ لِلْكِتَابَةِ إِلَى أَنْ يُعْطِيَ مَوْضُوعَاتٍ مُعَيَّنَةً أَوْلَوِيَّةً فِي اَلْقِرَاءَةِ أَكْبَرَ مِنْ اَلْأَوْلَوِيَّةِ اَلَّتِي كَانَ يُعْطِيهَا هَذِهِ اَلْمَوْضُوعَاتِ قَبْل مُمَارَسَةِ اَلْكِتَابَةِ، وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ مُمَارَسَتَهُ لِلْكِتَابَةِ قَدْ غَيَّرَتْ مِنْ أَوْلَوِيَّاتِهِ فِي مَاهِيَّةِ مَا يَقْرَأُ.

إِذْنُ مُمَارَسَةِ اَلشَّخْصِ اَلْقَارِئِ لِلْكِتَابَةِ تُؤَدِّي إِلَى أَنْ يَقِلَّ بِشَكْلٍ عَامٍّ مِقْدَارُ وَكَمِّيَّةُ مَا يَقْرَأْهُ، وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ مِقْدَارَ وَكَمِّيَّةَ اَلثَّقَافَةِ اَلَّتِي سَيَسْتَقِيهَا مِنْ قِرَاءَتِهِ سَتُقِلُّ تَبَعاً، وَهَذَا يُعَدُّ ضَرَراً حَصَلَ لِثَقَافَتِهِ نَتِيجَةَ مُمَارَسَتِهِ لِلْكِتَابَةِ!.

وَأَيْضاً فَإِنَّ مُمَارَسَةَ اَلشَّخْصِ اَلْقَارِئِ لِلْكِتَابَةِ قَدْ وَقَدْ لَا تُؤَدِّي إِلَى تَغَيُّرٍ فِي أَوْلَوِيَّاتِهِ فِي مَاهِيَّةِ اَلْمَوْضُوعَاتِ اَلَّتِي يَقْرَأْهَا (اِعْتِمَاداً عَلَى مَاهِيَّةِ اَلْمَوْضُوعَاتِ اَلَّتِي يَكْتُبُ فِيهَا كَمَا ذَكَرْنَا سَابِقاً)، وَفِي اَلْحَالَاتِ اَلَّتِي تُؤَدِّي فِيهَا مُمَارَسَتُهُ لِلْكِتَابَةِ إِلَى تَغَيُّرٍ فِي أَوْلَوِيَّاتِهِ فِي مَاهِيَّةِ اَلْمَوْضُوعَاتِ اَلَّتِي يَقْرَأْهَا فَإِنَّهُ لَا يَبْدُو جَلِيّاً أَنَّ هَذَا اَلتَّغَيُّرَ فِي اَلْأَوْلَوِيَّاتِ مُفِيدٌ لِثَقَافَتِهِ. وَلَكِنَّ كَلَامَنَا هَذَا كُلُّهُ هُوَ فَقَطْ فِي اَلْأَثَرِ اَلَّذِي سَتُحْدِثُهُ مُمَارَسَةُ اَلْقَارِئِ لِلْكِتَابَةِ فِي قِرَاءَتِهِ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ جِهَةُ مَاهِيَّةِ اَلْمَقْرُوءِ.

أَمَّا عَنْ اَلْأَثَرِ اَلَّذِي سَتُحْدِثُهُ مُمَارَسَتُهُ لِلْكِتَابَةِ فِي قِرَاءَتِهِ مِنْ اَلْجِهَةِ اَلثَّانِيَةِ اَلَّتِي ذَكَرْنَاهَا سَابِقاً، وَهِيَ جِهَةُ طَرِيقَةِ أَوْ آلِيَّةِ اَلْقِرَاءَةِ فَأَقُولُ إِنَّ مُمَارَسَتَهُ لِلْكِتَابَةِ سَتَجْعَلُهُ أَكْثَرَ حُضُوراً ذِهْنِيّاً وَهُوَ يَقْرَأُ، عَلَى اَلْأَقَلِّ وَهُوَ يَقْرَأُ فِي اَلْمَوْضُوعَاتِ اَلَّتِي يَكْتُبُ فِيهَا، لِأَنَّهُ سَيَتَطَرَّقُ فِي كِتَابَتِهِ لِمَا قَرَأَهُ وَسَيُنَاقِشُهُ، فَيَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ مُتَأَكِّداً مِنْ أَنَّ اَلْمَعْلُومَةَ اَلَّتِي سَيَتَطَرَّقُ لَهَا هِيَ كَمَا هِيَ فِي اَلْمَصْدَرِ بِلَا خَطَأٍ فِي دِقَّةِ اَلْمَعْلُومَةِ، وَيَحْتَاجُ أَيْضاً أَنْ يَكُونَ مُتَأَكِّداً مِنْ أَنَّ اَلْكَلَامَ اَلَّذِي قَرَأَهُ لِكَاتِبِ مَا وَاَلَّذِي سَيَتَطَرَّقُ لَهُ وَسَيُنَاقِشُهُ فِي كِتَابَتِهِ قَدْ فَهِمَهُ جَيِّداً وَأَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْهُ فَهْماً خَاطِئاً أَوْ نَاقِصاً. وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ ثَقَافَتَهُ اَلَّتِي سَيَسْتَقِيهَا مِنْ قِرَاءَتِهِ سَتَكُونُ تَبَعاً أَشَدَّ رُسُوخاً وَدِقَّةً وَصِحَّةً، وَهَذَا يُعَدُّ فَائِدَةً حَصَلَتْ لِثَقَافَتِهِ نَتِيجَةَ مُمَارَسَتِهِ لِلْكِتَابَةِ.

إِذَنْ مُمَارَسَةُ اَلشَّخْصِ اَلْقَارِئِ لِلْكِتَابَةِ تُؤَدِّي إِلَى تَغَيُّرٍ فِي قِرَاءَتِهِ مِنْ جِهَتَيْنِ، مِنْ جِهَةِ مَاهِيَّةِ مَا يَقْرَأْهُ، وَلَكِنْ اَلتَّغَيُّرَ مِنْ هَذِهِ اَلْجِهَةِ لَا يَبْدُو جَلِيّاً أَنَّهُ مُفِيدٌ لِثَقَافَتِهِ بَلْ قَدْ يَكُونُ أَحْيَاناً مُضِرّاً لِثَقَافَتِهِ، وَمِنْ جِهَةِ طَرِيقَةِ اَلْقِرَاءَةِ أَوْ آلِيَّتِهَا، وَالتَّغَيُّرُ مِنْ هَذِهِ اَلْجِهَةِ يَبْدُو جَلِيّاً أَنَّهُ مُفِيدٌ لِثَقَافَتِهِ. إِذن لَا يَبْدُو وَاضِحاً إنْ كَانَتْ مُمَارَسَةُ اَلشَّخْصِ اَلْقَارِئِ لِلْكِتَابَةِ سَيَكُونُ لَهَا فِي اَلْمُحَصِّلَةِ اَلنِّهَائِيَّةِ أَثَرٌ إِيجَابِيٌّ عَلَى ثَقَافَتِهِ، وَإِنْ كُنْتُ أَمِيلُ إِلَى ذَلِكَ.