سوريا والعراق في دائرة “العثمانية الجديدة” لأردوغان
بقلم: توفيق المديني
بصرف النظر عن مدى دقة استخدام هذا المفهوم “العثمانية الجديدة” من عدمه، فإنَّ رئيس الوزراء التركي الراحل تورغوت أوزال، هو أول من أدرج المفهوم هذا في التداول في أوائل تسعينيات القرن الماضي.
ومنذ أن تسلم “حزب العدالة والتنمية السلطة في تركيا عام 2002، أصبح أردوغان الرجل الذي يقود الخط المعروف باسم ” العثمانية الجديدة” المؤيد لعودة تركيا إلى مرحلة السلطنة العثمانية. ومنذ عقدين من الزمن كان الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان يعمل على تولي دور القائد للعالم الإسلامي، واتباع سياسات توسعية مستوحاة من الإمبراطورية العثمانية.
ومع انطلاقة “انتفاضات الربيع العربي” في عام 2011، تغيرت السياسة الخارجية التركية التي كانت تقوم على “تصفير المشكلات “مع دول الجوار، إذ أودى هذا “الربيع العربي” إلى تنامي العنف تحت ستار الدين في العديد من البلدان العربية (الإرهاب التكفيري الذي يعكس الهجمة غير المسبوقة للعنف، برأسماله الرمزي والمادي، وبممثليه من “حماة المقدس” من السلفية والإخوانية والتيارات التكفيرية و(جهاديي) الموت وقطع الرؤوس وبعض الإسلام التقليدي والرسمي).
فتحولت تركيا في عهد أردوغان إلى قاعدة استراتيجية وجبهة عدوان متقدمة على سوريا، حتى إنَّ الجميع بات يتحدث عن انبعاث “الإمبراطورية العثمانية الجديدة “المستندة هذه المرّة إلى تنظيمات “الإخوان المسلمين”، التي وصلت إلى السلطة في ثلاث بلدان عربية مع بداية عام 2012، وشرعت في ممارسة العنف ضد سوريا مستقوية بالدعم الإقليمي التركي والخليجي.
ولم تكتف تركيا بذلك، بل عملت على تقديم كل الدعم اللوجستي والعسكري والمالي إلى الجماعات الإرهابية المرتبطة بتنظيمات مثل “جبهة النصرة “ممثلة تنظيم “القاعدة” في سورية وتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وهي تنظيمات قائمة في عقيدتها على التكفير ورفض الآخر، أي آخر، ومرتبطة بالمخطط الأمريكي- الصهيوني الذي يستهدف تفكيك كل الدول الوطنية العربية في منطقة الشرق الأوسط، وتقسيمها على أساس طائفي ومذهبي وعرقي.
عودة تركيا إلى الحديث عن مشروع الحزام الأمني
في خطاب ألقاه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد انتهاء اجتماع حكومي في المجمع الرئاسي في أنقرة، قال فيه إنَّ “تركيا لا تزال مصممة على المضي قدماً في إنشاء حزام أمني بعمق 30 – 40 كم على حدودها مع سوريا”. ولفت أردوغان إلى اكتمال إنشاء قسم من الحزام الأمني عبر العمليات السابقة (درع الفرات، غصن الزيتون، نبع السلام)، مشدداً على أن “تركيا عازمة على استكماله عبر خطوات جديدة لسد الثغرات الموجودة”. وأضاف: “لدينا تحضيرات ستجلب كوابيس جديدة لأولئك الذين يعتقدون أن بإمكانهم تركيع تركيا عبر إقامة كيان إرهابي على حدودها الجنوبية”.
ويرى المحللون الأتراك أنَّ تصريحات أردوغان تكشف عن عام ستكون فيه تركيا أكثر صرامة ضد الانفصاليين في سوريا والعراق، متوقعين أن تقدم أنقرة على عملية جديدة بعد انتهاء الانتخابات المحلية المرتقبة أواخر آذار/ مارس الجاري.
وعلى الرغم من أنَّ تركيا وسوريا تلتقيان في مصالحهما على مناهضة القوى المدعومة من قبل الإمبريالية الأمريكية، وهي “قوات سورية الديمقراطية”، و”وحدات الحماية الكردية””، المرتبطين عضوياً وإيديولوجياً وعسكرياً بحزب العمال الكردستاني(PKK) المصنف من قبل تركيا منظمة إرهابية، الذي يسعى إلى إنشاء دولة كردية ذات طابع قومي في كل جنوب تركيا، وتشمل أيضاً شمال سورية والعراق وإيران، فإنَّ تركيا بدت أكثر قناعة باستحالة التطبيع مع الدولة الوطنية السورية، للانتقال إلى مجال التعاون معها في مكافحة التنظيمات التي تعتبرها تركيا “إرهابية”، حيث تشترط سوريا انسحاب الجيش التركي من الشمال السوري، وهذا ما يمكن تلمسه من خلال تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قبل يومين عن فشل مسار التطبيع بين تركيا وسوريا.
فما يَهُمُّ أنقرة في الوقت الحاضر موضوع اللاجئين السوريين الموجودين على الأراضي التركية، ويقدر عددهم بنحو 3.6 مليون سوري، وموضوع حزب العمال الكردستاني، بينما تنتظر سوريا من تركيا القضاء على التنظيمات الإرهابية في إدلب، في إشارة إلى “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) التي تسيطر مع فصائل أخرى على نحو نصف مساحة محافظة إدلب (شمال غرب) ومحيطها.
وفي ضوء التقارب بين تركيا والولايات المتحدة، وفتور العلاقة بين أنقرة وموسكو، وتعويل تركيا على فوز الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بولاية ثانية في الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة، إذْ أعطى ترامب لتركيا الضوء الأخضر لشن عمليات عسكرية في الشمال السوري سابقاً، يقول الكاتب والمحلل السياسي المقرب من حزب “العدالة والتنمية” يوسف كاتب أوغلو، إن تصريحات أردوغان تكشف عن عزيمة تركية مستمرة في محاربة “الإرهاب”، وتحييد التهديدات، وخصوصاً في ظل التغييرات التي تشهدها المنطقة، والتقارب الدبلوماسي مع الولايات المتحدة”.
ويضيف كاتب أوغلو، إنَّ “تقاطع المصالح التركية – الأمريكية تعطي لأنقرة الحرية في التحرك أكثر داخل سوريا وفي العراق، علماً بأن الرئيس أردوغان خرج من الانتخابات الرئاسية الأخيرة في العام 2023 أقوى، وكل ذلك يؤشر إلى قرب تحرك تركي، على الرغم من التحديات التي ما زالت قائمة”.
وعلى المنوال ذاته، يرى مدير مركز “رصد للدراسات الاستراتيجية” العميد عبد الله الأسعد، أن تركيا تعمل حالياً على استهداف مراكز ومقرات القيادة لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) جواً، تمهيداً لعمل عسكري بري. ويذكر أنَّ تركيا قد أعلنت في أكثر من مرة عن نيتها شن عملية عسكرية في الشمال السوري، بهدف إبعاد التنظيمات التي تعتبرها تركيا “إرهابية” عن كامل شريط حدودها الجنوبي مع سوريا، فضلاً عن طرحها إقامة حزام أمني على طول حدودها مع سوريا بعمق يتراوح ما بين 30 على 40 كيلومتر.
مشروع أردوغان لتوطين اللاجئين السوريين في “المنطقة الآمنة”
يقوم مشروع أردوغان على إقامة “المنطقة الآمنة”، بعمق 32 كيلومتراً في شمال شرق سوريا، الأمر الذي سيسمح لإعادة مليون لاجئ سوري إلى الأراضي السورية، عبر إنشاء قرى وبلدات على طول الشريط الحدودي مع سوريا، في مناطق “درع الفرات” و”غصن الزيتون” و”نبع السلام”، داخل المناطق ذات الأغلبية الكردية وبينها، ما يعني إحداث تغيير في تركيبة المنطقة سكانياً، وإنهاء مبرّر المطالب الكردية في حكم ذاتي أو فدرالية. فالنظر في جغرافية المشروع والقرى التي ستقام لاستقبال اللاجئين في الباب وأعزاز وجرابلس وتل أبيض ورأس العين، يشير، من دون لبس، إلى الهدف الرئيس لهذا المشروع، وهو تعريب هذه المناطق وسحب الذرائع الكردية ومطالبها السياسية.
يُعَدُّ مشروع إعادة توطين مليون لاجئ سوري من قبل الرئيس أردوغان، مشروعاً قديماً – جديداً، إذ إنَّ هذا المشروع طرحه أردوغان في افتتاحية دورة اجتماعات الأمم المتحدة سبتمبر 2019، حين عرض رؤية تركيا للمنطقة الآمنة شرق الفرات التي تمتد 480 كيلومترا على طول الحدود السورية التركية. وحسب الخطة التي طرحها أردوغان، فسوف يتم إنشاء 140 قرية يوزع عليها ما يقارب 5000 نسمة، و10 مناطق مركزية، تتسع لـ 30 ألف نسمة، كمرحلة أولى. وسوف يتم إعادة توطين مليون لاجئ سوري، في المرحلة الأولى، موزعين في 200 ألف منزل سيتم بناؤها، فيما تبلغ تكلفة المشروع حوالي 23.5 مليار يورو. ووفق هذه الخطة، سوف يتم في كل قرية بناء منازل على مساحة 100 متر مربع ضمن مساحة 350 متر مربع، وسيمنح أرضاً زراعية لكل عائلة أمام المنزل. كما أنه لكل ألف وحدة سكنية في القرية، سيكون هناك مسجدان ومدرستان، ومركز للشباب وصالة رياضية. أما في المناطق العشرة، التي سيقطنها 30 ألف شخص، فلكل حي 6 آلاف منزل بمساحة 100 متر مربع، إلى جانب 11مسجدا و9 مدارس، وقاعتين رياضيتين، و5 مراكز للشباب.
وأشارت قناة تركية إلى أنه سيتم إنشاء مستشفى صغير في ثماني مناطق، فيما سيتم بناء مستشفيين كبيرين في منطقتين، إلى جانب إنشاء مجمعات صناعية. كما ذكر موقع ” Haber 7″، أنه سيتم بناء منطقة مركزية و7 قرى في المنطقة الممتدة من عين العرب إلى تل أبيض، وسيتم إسكان 65 ألف نسمة في هذه المنطقة. كما سيتم إنشاء 3 مناطق و63 قرية بين تل أبيض ورأس العين، ليتم توطين 405 ألف شخص فيها، وفي المنطقة الممتدة بين رأس العين ودريك، فسيتم إنشاء 6 مناطق و70 قرية، بحيث يتم توطين 530 ألف شخص فيها. وهذه الخطة تحتاج إلى مساحة 9 آلاف و260 هكتار، بينما المساحة الموجودة تبلغ 16 ألف و191 هكتار.
ويربط الرئيس أردوغان موضوع إعادة مليون لاجئ سوري بتجهيز بنية تحتية وفوقية، خدمية وصحية وتعليمية (تم تشغيل ثمانية مستشفيات عامة، و106 مراكز صحية، و33 مستشفىً خاصاً، و42 محطة خدمة صحية للطوارئ، و10 مركبات صحية متنقلة، و76 سيارة إسعاف، لخدمة سكان المناطق، وتجهيز 1429 مدرسة للأطفال، 26 منها حديثة البناء، بينما لا تزال 48 مدرسة قيد الإنشاء، يتعلم فيها 349 ألفاً و762 طفلاً سورياً)، وتوفير فرص عمل – الحديث عن توفير 50 ألف فرصة عمل -، وإجراء دورات تدريب مهني وتقديم قروض صغيرة ميسّرة للبدء بمشاريع صغيرة وإيجاد فرص عمل، وجعل التجمّعات السكنية المقرّر إنشاؤها مكتفية ذاتياً، لجهة البنية الاقتصادية التحتية “انطلاقاً من الزراعة وصولاً إلى الصناعة” وفق إعلان الرئيس التركي، سيجعل المواقع (13 موقعاً) بيئة صالحة لإقامة مستقرة وآمنة، على أمل أن تصبح دائمة، خصوصاً إذا حظيت بمباركة روسيا والدولة الوطنية السورية، التي تتقاطع مصالحها مع المصلحة التركية في رفض المطالب الكردية التي تقوم على إنشاء كيان انفصالي.
زيارة أردوغان المرتقبة للعراق
يقوم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بزيارة للعراق في نهاية مارس الجاري، حسب ما أعلنه مسؤول كبير في وزارة الخارجية العراقية طلب عدم ذكر اسمه، حيث ستشمل هذه الزيارة كلاً من العاصمة العراقية بغداد وأربيل. وسيكون أردوغان على رأس وفد يضمّ كبار المسؤولين الأتراك وعدداً من رجال الأعمال وأصحاب الشركات المختلفة، وستستغرق الزيارة يومين في العاصمة بغداد ويوماً واحداً في أربيل.
وتهدف زيارة أردوغان إلى إيجاد حلول حقيقية بشأن ملف المياه لما له من أهمية كبيرة لدى الجانب العراقي وكذلك ملف تصدير النفط عبر ميناء جيهان، إضافة إلى إمكانية عقد اتفاق أمني مع الحكومة العراقية يتعلق بضبط الحدود، للحدّ من تحركات حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، الذي تعتبره أنقرة تهديداً كبيراً وخطيراً لأمنها القومي.
فالجانب العراقي سيناقش إمكانية عقد اتفاق أمني مهم بين البلدين، إضافة إلى مناقشة وقف الضربات التركية المستمرة على الأراضي العراقية، وكذلك ملف الوجود التركي العسكري داخل الأراضي العراقية شماليّ البلاد، فهذا الملف سيكون له أولية كبرى خلال جلسات الحوار والتفاوض”.
من وجهة نظر الخبراء والمحللين العراقيين، تكمن صعوبة إجراء تفاهمات كاملة بين حكومة العراق والحكومة التركية بشأن إنهاء وجود مسلحي حزب العمال الكردستاني في العراق في عدة عوامل ميدانية عسكرية، أبرزها وجوده في مناطق يصعب وصول القوات العراقية إليها، ضمن المثلث العراقي الإيراني التركي الواقع تحت إدارة إقليم كردستان، إلى جانب الدعم الذي يتلقاه مسلحو الحزب من فصائل مسلحة توصف عادة بأنها حليفة لإيران، خصوصاً في مناطق سنجار غربي نينوى.
خاتمة
إنَّ مشروع أردوغان لا صلة له باللاجئين وبعودتهم الآمنة إلى وطنهم سوريا، إلى قراهم وبلداتهم ومدنهم، فتركيا لا تزال تحتل الشمال الغربي لسوريا، لا سيما في محافظة إدلب، وتدعم الحركات الإرهابية هناك، التي تمارس النهب والتعدّي على حريات المواطنين وأملاكهم وأرزاقهم، ناهيك عن أنَّ مشروع أردوغان الحقيقي يكمن في إنشاء “المنطقة الآمنة” على طول الحدود التركية السورية، عبر فرض واقعٍ سكانيٍّ وسياسيٍّ متفجّرٍ، من خلال تطبيق استراتيجية الحصار للانفصاليين الأكراد عبر تغيير التركيبة السكانية بالعرب، الأمر الذي سيبقي المنطقة في حالة صراع مفتوح وعرضة للاهتزاز وعدم الاستقرار.
مصداقية سياسة أردوغان مرهونة بتغيير موقفه من الأزمة السورية، لجهة انسحاب الجيش التركي المحتل لشمال غربي سوريا، وتخلي تركيا عن أطماعها في شمال سوريا، ووقف الدعم العسكري واللوجستي للتنظيمات الإرهابية والتكفيرية، والعودة إلى تفعيل وتحديث اتفاقية أضنة المبرمة مع الدولة السورية عام 1998.
في نطاق تبني أردوغان استراتيجية “العثمانية الجديدة”، ما زالت الأوساط القومية التركية تتحدث عن الحق التاريخي في ولاية الموصل التي تضم الموصل وأربيل والسليمانية وكركوك، بل أيضاً بسبب الأقلية التركمانية في كركوك والعراق عموماً.
وكانت الحرب ضد مسلحي الكردستاني المبرر الآخر للتدخل التركي المباشر وغير المباشر في العراق، حيث أقام الجيش التركي في شماله نحو عشرين قاعدة وموقعاً في الوقت الذي أقامت فيه أنقرة علاقات مميزة مع مسعود البرزاني وعائلته التي تحكم إقليم كردستان العراق، وسبق له أن قال عام 1991 إنه مستعد لرفع العلم التركي إذا اجتاح الجيش التركي شمال العراق خلال حرب الكويت. ومن دون أن تهمل أنقرة علاقاتها مع القوى والأحزاب والعشائر السنية التي أرادت لها أن تكون امتداداً اجتماعياً ونفسياً لتركيا ليوازن ذلك الدور الإيراني في العراق وعبره في سوريا ومنطقة الخليج عموماً.