إعرف عدوك

عودة السياسة إلى الحديث الجماهيري .. تداعيات على المِنعة القومية خلال الحرب

ترجمة وإعداد: حسن سليمان

فهذا يضعف التضامن الاجتماعي، ويقلل الثقة في أنظمة الدولة وطريقة اتخاذ القرارات، ويلقي ظلالاً من الشك على دوافع منظمات المجتمع المدني. في ضوء ذلك، يتعين على صانعي السياسات والسياسيين في إسرائيل توخي الحذر الشديد لتجنب الخطاب السياسي السام والمهين. وعليهم بالدرجة الأولى تجنب الخطاب الاستقطابي السياسي في القضايا الحساسة المتعلقة بالحرب، والتي يكون الخلاف فيها مشروعاً، مثل قضية المختطفين.

عادت في الأسابيع الأخيرة الخلافات والانقسامات السياسية والاجتماعية في إسرائيل لتتقدم المنصة في الحديث الجماهيري والإعلامي. وذلك بعد أشهر احتل فيها الانشغال بالحرب معظم الاهتمام، مع خلق صورة الوحدة الوطنية حول أهداف الحرب. في الآونة الأخيرة، تتسلل ظواهر مألوفة من فترة الأزمة السياسية والاجتماعية، التي اندلعت بعد الإصلاح/الثورة القانونية/النظامية، بشكل فظ إلى الخطاب العام، في سلسلة من القضايا المتنوعة، بما في ذلك تلك المرتبطة بشكل مباشر بإدارة الحرب.

وبشكل عام، فإن العودة إلى روايات الاستقطاب والانقسامات السياسية التي ميزت المجتمع الإسرائيلي في الماضي واضحة للعيان. يتم التعبير عن هذه الخلافات، من بين أمور أخرى، في سياق أولويات الحكومة الحالية والطريقة التي تتصرف بها، وكذلك في سياق القضايا المدنية للحرب. وهي تتناول، على سبيل المثال، الموازنة التي تمت الموافقة عليها في القراءة الأولى في الكنيست، أو مع تعديل قانون الخدمة الأمنية، الذي يشير أيضاً إلى الزيادة الكبيرة المتوقعة في خدمة الاحتياط، دون التطرق بشكل كافٍ إلى تعويضات الذين يخدمون من ناحية، وتجنيد الحريديم (والعرب) من ناحية أخرى. هذا فضلاً عن القضايا القديمة التي تنطوي على تشهيرات شخصية بين السياسيين، فضلاً عن اتهام رئيس الوزراء بزعم الاهتمام باستمرار الحرب لاعتبارات شخصية وعدم إعطاء الأولوية القصوى لإطلاق سراح المختطفين، وأغلبهم على ما يبدو ليسوا جزءاً من “قاعدته”.

في غضون ذلك، التعبير عن الخلافات السياسية تصبح أكثر تطرفاً حول ما يسمى بالتوازن بين هزيمة حماس عبر “النصر العسكري الكامل”، وبين محاولة تحرير المختطفين. أيضاً الصراع الجماهيري لعائلات المخطوفين مقابل الحكومة يتزايد ويشتد، ويهدد بأخذ لون سياسي واضح، أيضاً بسبب الخلاقات بينهم، والتي يتم تقديمها أيضاً على أنها سياسية. كما يشمل تصاعد الخطاب السياسي على مواقع التواصل الاجتماعي اتهامات بشن حملة “نزع الشرعية” عن أهالي المختطفين، عقب نشر تقرير لمنظمة “المراسل المزيف”. والأمر نفسه ينطبق على مسألة المساعدات الإنسانية لسكان القطاع، والتي تؤجج المظاهرات على مداخل القطاع (“المرسوم 9”)، والتي يحمل بعضها طابعاً عنيفاً، ما يستلزم تدخل الشرطة.

في المقابل، برز ارتداد سياسي أيضاً في المسائل المتعلقة “باليوم التالي” للحرب، مثل بهذا الخصوص نية اليمين المتطرف استئناف الاستيطان في قطاع غزة من جانب وبخصوص احتمال دمج الفلسطينيين باتفاق بترتيبات مستقبلية وبالإدارة المدنية لقطاع غزة من جانب آخر. استطلاعات جرت في هذه المواضيع أشارت إلى أن هذه الخلافات تتقاطع غالباً مع المواقف السياسية التي ميزت من كان يتمسك بها قبل الحرب.

بينما في الأسابيع الأولى على اندلاع الحرب الحديث السياسي المتطرف اعتبر معزول بسبب الاشمئزاز، وتم التركيز بشكل بارز على الحاجة إلى وحدة الشعب (معاً ننتصر)، إلى حد انتقاد كل من أجرى حينها استطلاعات سياسية، لكن في الفترة الأخيرة تحولت الاستطلاعات إلى شأن روتيني. عودة الانقسامات السياسية تظهر أيضاً في منحى استئناف التظاهرات في دعوة إلى استقالة رئيس الحكومة وبيانات المنظمات من بينهم “قوة كابلان” و “إخوة السلاح” عن نيتهم تصعيد الاحتجاجات السياسية. وعلى هذه الخلفية، أفاد 56% من المشاركين في الاستطلاع الأخير الذي أجراه معهد دراسات الأمن القومي، في 4 شباط، أنهم قلقون (إلى حد كبير أو إلى حد كبير جداً) من الوضع الاجتماعي في إسرائيل في اليوم التالي للحرب.

يمكن القول إن عودة الخطاب السياسي والاحتجاجات السياسية ربما تكون علامة إيجابية على خروج المجتمع الإسرائيلي من الشلل الناجم عن الصدمة الجماعية لأحداث السابع من تشرين الأول. إن ظاهرة “الالتقاء حول العلم” معروفة في الأدبيات البحثية، والتي بموجبها، خلال أزمة تهدد القيم الأساسية للمجتمع، يوحد الجمهور قواه ويؤيد بأغلبية ساحقة قرارات القيادة السياسية بشأن كيفية التعامل الأزمة. وهكذا، مباشرة بعد السابع تشرين الأول، تماسك المجتمع الإسرائيلي حول أهداف الحرب والجيش الإسرائيلي، في حين وضع جانباً الخلافات والانقسامات التي قسمته قبل هجوم حماس. على هذه الخلفية كان يمكن مشاهدة ظاهرة التجند – المستمرة الآن بحجم كبير – على قنوات الإعلام القائمة. ويمكننا أن نضيف إلى ذلك الظاهرة واسعة النطاق وغير العادية، منذ بداية الحرب، المتمثلة في توسيع العمل التطوعي من قبل منظمات المجتمع المدني (بما في ذلك أولئك الذين حشدوا قبل الحرب من أجل مسارات سياسية واضحة)، وقبل كل شيء تجنبهم بعد ذلك للخطاب السياسي المثير للانقسام.  ومع مرور الوقت، تدخل الحرب في نمط “منخفض الحدة”، قد يستمر لعدة أشهر، ويدخل الجمهور الإسرائيلي في غالبيته في “روتين الحرب”، وربما يكون أقل تأثراً بدوافع الوحدة، ويعود الاستقطاب السياسي والاجتماعي العميق إلى الواجهة بسرعة وبقوة.

تشكل عودة الخلافات السياسية عاملاً سلبياً بالدرجة الأولى عندما يتعلق الأمر بصمود المجتمع الإسرائيلي وقدرته على شن حرب صعبة وطويلة. كما أن ظاهرة الاستقطاب قد تجعل من الصعب على المجتمع التعافي من الأزمة على عدة مستويات مختلفة: أولاً، تضر عودة الخطاب الاستقطابي بالتضامن الاجتماعي، الذي يُنظر إليه على أنه أحد العوامل الرئيسية التي تشكل القدرة على الصمود الاجتماعي. يتيح التضامن للمجتمع أن يجتمع ويعمل معاً، أيضاً من خلال المشاركة المدنية الواسعة، من أجل الترميم الدمار متعدد المعاني. كما أنه يؤثر على نظرة المجتمع لذاته وبالتالي على مؤشرات التفاؤل والأمل في مجتمعه، والتي تعد أيضاً من المكونات الأساسية للصمود الاجتماعي.

إن عودة خطاب الاستقطاب – بالتأكيد إذا أصبح عنيفاً – يقوض التضامن الاجتماعي من خلال التأكيد على الانقسام بين مختلف القطاعات، ويضر بالثقة في مؤسسات الدولة، ويجعل المشاركة المدنية الحيوية صعبة، عملاً وروحاً. يمكن ملاحظة تعبير عن ذلك في الاستطلاع الأخير الذي أجراه المعهد، في 4 شباط، والذي لوحظت فيه لأول مرة منذ بداية الحرب اتجاهات انخفاض القدرة على الصمود الاجتماعي، في حين ارتفعت نسبة الذين يعتقدون أن الشعور بالتضامن قد انخفض. لا شك أن أغلب مؤشرات القدرة على الصمود لا تزال تظهر اتجاهات مستقرة وإيجابية إلى حد ما، ولكن المعطيات الجديدة الصادرة عن الشهر الماضي تهدّد بالإشارة إلى درجة من التغيير في التصور العام وتوضح الضرر الناجم عن التسلل المتجدد للخطاب السياسي السام.

عودة الحديث السياسي يلحق ضرراً أيضاً بثقة الجمهور بمؤسسات الدولة وبشكل اتخاذ القرارات، التي تشكل مدماك أساسي في الحصانة الاجتماعية. ولكي ينجح المجتمع في التعافي من اضطراب حاد وكبير، فإن ثقة المواطنين في خطوات صنع القرار وفي قيادة الدولة مطلوبة، وهذا، من بين أمور أخرى، من أجل مشاركة الجمهور في تنفيذ هذه القرارات، وكذلك لتعزيز شعورهم بالأمن. عودة الحديث السياسي تضبغ بألوان سياسية جزءاً بارزاً من القرارات التي تتخذ في هذه الأيام، في المسائل المدنية والأمنية.

فعلى سبيل المثال، في الاستطلاع الذي أجراه المعهد في 4 شباط، أفاد 56% من المستطلعين أنهم لا يتفقون مع الادّعاء بأن قرارات المستوى السياسي بشأن قضية المختطفين تنبع من اعتبارات موضوعية فقط وليس من اعتبارات سياسية. وفي نفس الاستطلاع، 64% من الذين وجهت الأسئلة لهم أعربوا عن عدم موافقتهم مع الادعاء القائل إن قرارات المستوى السياسي بخصوص الحرب ناتجة عن اعتبارات أمنية فقط وليس من اعتبارات سياسية. هذا المعطى يشكل ارتفاعاً مهماً مقابل المرة السابقة (في 31 كانون الأول) حيث طرح هذا السؤال. ويجب دمج هذه البيانات مع الثقة المنخفضة للجمهور في الحكومة (24% فقط من المشاركين) وفي قائدها (30% فقط). تعكس هذه الأرقام المنخفضة عدم ثقة الجمهور في القرارات التي تتخذها الحكومة، ما قد يضر بالمِنعة الاجتماعية. يمكن رؤية مؤشرات إضافية على تأثير التسييس في البحث الذي أجراه البروفيسور كمحي وآخرون، حيث أفاد المشاركون الذين يدعمون الحكومة بقدرة أعلى على الصمود في جميع الأبعاد: الوطنية والمجتمعية والشخصية. أحد التفسيرات المقترحة لهذه الظاهرة هو أن مؤيدي الحكومة يضعون المزيد من الثقة في الحكومة.

يجب أن يؤخذ في الاعتبار أنه في بداية الحرب، لعبت منظمات المجتمع المدني، بما في ذلك المنظمات التي شاركت بنشاط كبير في الاحتجاج الاجتماعي، دوراً مركزياً في الاستمرارية الوظيفية للاقتصاد الإسرائيلي، لكن الآن عودة هؤلاء إلى المشاركة السياسية من شأنها أن تجعل من الصعب عليهم العمل كرأس مال اجتماعي رابط، وهو أمر ضروري للتغلب على الأزمة الداخلية، وخصوصاً في مواجهة ضعف الحكومة. ويمكن الافتراض أنه كلما كانت أنشطة هذه المنظمات محاطة بالصدى السياسي السام، فإن الخلافات الحقيقية الموجودة لدى الجمهور، بطبيعة الحال، قد تضر بقدرة المنظمات على مساعدة المجهود الحربي بجميع جوانبه.

في الخلاصة، قد تكون عودة الحديث السياسي عاملاً سلبياً كبيراً في بناء المِنعة الاجتماعية اللازمة لتعافي المجتمع الإسرائيلي من الأزمة الحادة. ومن أجل الحد من هذه الآثار السلبية، يجب على صناع القرار في إسرائيل أن يتجنبوا قدر الإمكان الحديث السياسي السام وتعميق الانقسام والتصدع في المجتمع الإسرائيلي بشكل عام، وفيما يتعلق بالقضايا المتعلقة بالحرب بشكل خاص.