فضاءات فكرية

الغربُ في معناه ومبناه الثقافي والسياسي

بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

لقد أعطى بعض المفكِّرين لمفهوم الغرب دلالة فكرية وصفة مفهومية نقلته من المعنى الجغرافي إلى معنى آخر جديد، طغَتْ عليه الرؤية الثقافية، التي باتتْ تنظرُ إلى الغرب من منظور كونه واقعاً مفاهيمياً غير مرتبط بمنطقةٍ جغرافية معينة، كما كانَ عليه الحال في السابق. وبهذه النظرة أصبحت اليابان -الواقعة في أقصى الشرق الآسيوي- من الدول الغربية المهيمنة على العالم اقتصادياً؛ باعتبارها إحدى الدول الصناعية الكبرى، التي تشكِّل مع كلٍّ من: الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا وكندا مجموعة السبعة الكبار الذين يتحكَّمون باقتصاد العالم ومصيره.

وهذا توجُّه فكري وتوسع اقتصادي سياسي، يرتكز على ما تقوم به تلك الإدارات السياسية الغربية من فرض إرادتها ومعاييرها ونظمها الحضارية على الآخر..

إن النظرة للغرب باعتباره فضاءً سياسياً وسياقاً حضارياً، هي النظرة القائمة لدى قطاعات واسعة من نخبنا ومفكِّرينا وأفراد مجتمعاتنا… وبهذا المعنى يصبحُ الغربُ صفة تطلق على مجمل هذا الفضاء “الحضاري – الثقافي” المتشكِّل تاريخياً في أوروبا بعد حدوث تحوُّلات وصراعات سياسية واجتماعية عنيفة عاصفة (من قبيل: حروب أهلية ونزاعات طائفية مذهبية؛ مواجهات شرسة بين ممثِّلي الدين والعلماء على خلفية العنف الكنسي العاري الذي مورس بحقّ هؤلاء العلماء ممَّنْ وضعوا قوانين ونواميس علمية، واكتشفوا نظريات وسنن حياتية وكونية مخالفة لرؤى ومقدَّسات الكنيسة والإكليروس المَسيحي؛ تطوّرات علمية واكتشافات قانونية) أفضَتْ بمجملها إلى خَلْق تيارات الحداثة والعلمنة والتنوير الأوروبي، التي أقرَّت وكرّست المبادئ التالية

1- حرّية الفرد المطلقة، وعدم وجود أيّ سلطة مهيمنة عليه، سوى سلطته الذاتية الضميرية الخاصة به. وبذلك تمّ إلغاء دور وتأثير الطقوسية الدينية المسيحية على الأفراد والمجتمعات التي كانت تدور في فلك رجالات الدين، ممَّنْ كانوا يمتلكون زمام المبادرة والحكم بالتكاتف والتعاضد مع السلطات الزمنية التي كانت قائمة في ذلك الوقت.

2- اعتماد مبدأ (وعقيدة) العَلْمنة كثقافة ومنهج عملي حيادي تجاه الأديان والطوائف..

3- إبعاد الدين المسيحي عن ساحة الفعل الوجودي الخارجي، وأرجعته إلى وضعه الطبيعي السابق، كحالةٍ من حالات الإيمان الفردي الذاتي، الذي لا علاقة له بمجريات الواقع ومتغيرات الحياة من حوله.

4- تكريس العقل كمرجعية نهائية للإنسان بعيداً عن أية مرجعيات أخرى دينية أو غير دينية..

وبمعنىً آخر فقد أقام الغرب وجوده الرمزي والمفاهيمي على الفلسفة التجريبية المرتكزة على العلم والتجربة والحسّ والرؤية العيانية المادية.. وهي نظرة كونية وفلسفة حياتية عن الوجود والإنسان، مختلفة ومغايرة للنظرة الكونية الإسلامية التي كرَّست مبدأ الإيمان بالله كمرجعية نهائية للحياة والوجود، هي علّة الخَلْق المطلقة.

والغرب كدول وتيارات وواقع “جغرافي – سياسي” ليس واحداً متوحِّداً بطبيعة الحال، كما أنَّ الطبائع بين مختلف التيارات والأنظمة الفكرية المسيطرة هناك متفاوتة ومتغيرة، والأمزجة مختلفة ومتقلبة.. فما يمكن أن تشاهده وتتفاعل إيجاباً أو سلباً معه في إنجلترا مثلاً قد يبدو مختلفاً عن فرنسا، وهما بدورهما مختلفان عن ألمانيا وإيطاليا… فنحن نلاحظ إذاً وجود حالة تنوُّع في طبيعة النظرة للأديان والثقافات.. أي إنه يوجد أكثر من تيّار ثقافي وديني مؤثِّر في العالم الغربي في ما يخصّ العلاقة مع الإسلام، ومع الحضارة العربية الإسلامية:

فهناك التيار الديني المتطرِّف (المشابه – في السياق العام – للتيارات الأصولية المتشدِّدة والمتعصبة في اجتماعنا الديني الإسلامي)، الذي لا يزال ينظرُ إلى الإسلام بنفس النظرة القروسطية القديمة التي كانت تعتبر الإسلام ديناً غير سماوي، وأنّ محمداً ليس نبياً، وأن عقائده التي جاء بها عبثية ولا معنى لها؛ لأنها تنكر الحقائق المسيحية، والواضح أن هذا التيار ضعف في الغرب الحديث، ولم يعُدْ له أتباع كثيرون؛ بسبب رسوخ قيم الحداثة العقلية التي أفضَتْ إليها قيم ومبادئ عصر النهضة الأوروبي.

طبعاً لا يمكننا غضّ النظر هنا عن التحريض شبه الدائم الذي تقوم به وتغذيه باستمرار نخب سياسية وثقافية ومراكز قوى سياسية ودينية صهيونية متطرّفة منتشرة في العالم الغربي ضد الإسلام والمسلمين. وقد ساهم هذا المناخ السلبي -المتولد تاريخياً، والموجود أصلاً، في داخل البيئة الثقافية الغربية تجاه العرب والمسلمين- في إبقاء حالة الشكّ وعدم الثقة بين أتباع الديانتين: (المسيحية؛ والإسلام)، بما يخدم مصالح القوى السابقة في إذكاء عوامل التنابذ والخلاف بينهما، ويحقِّق مكاسبها الخاصة في استدامة الصورة النمطية العنيفة للمسلم في الذهنية الغربية عموماً.

وهناك أيضاً التيار العلماني المسيطر حالياً على واقع وحياة وسياسات المجتمعات الغربية عموماً، والمتحرّر تقريباً من نمطية وأوهام التفكير الديني المسيحي واليهودي القديم (الذي لا يعكس حقائق بمقدار ما يحرف وقائع ويختلق أحداثاً، ويقرِّر قيماً ومبادئ).

وهذا التيار الحداثي الغربي ليس مهتماً – بصورة عامّة – بأقوال وأفكار وثقافة المتدينين والأديان عموماً، بل إنه ينظر بحيادية تامّة إلى الأديان كلها، ويقر مبدأ الدولة وضرورة الخضوع لسلطتها ونظامها العام الذي لا يميِّز بين أتباع دين وآخر.. فالجميع متساوون أمام القانون الوضعي، ولكلٍّ حقَّه في التعبُّد، وحريته في التعبير وفي الولاء والالتزام بأيّ طقسٍ ديني.. فالدساتير التي توصل إليها الغرب الحديث علمانيّة تكفل الحرّيات الخاصّة والعامة لكافّة مواطنيها، وحتى للمقيمين على أراضيها.

أما الجذر الأساسي الذي تأسس عليه الغرب في نشأته ونموه، فهو الجذر المغروس في عمق الحضارة اليونانية القديمة، المسماة حضارة العقل التي شكلت التربة والوعاء الحضاري الأهمّ الذي استقت منه أوروبا (والغرب عموماً) ازدهارها وتطورها وأسس تقدّمها اللاحق، بعد مرورها بأدوار وتطورات ثقافية وسياسية ومجتمعية أهلية شديدة التعقيد والتنوُّع… كما كان للمسيحية تأثيرٌ كبير أيضاً في ذلك أيضاً، خصوصاً بعد تبنّيها واحتضانها من قبل الحضارة الرومانية.

ومن المعروف تاريخياً أن الامبراطورية الرومانية قامت على أجزاء واسعة من القارة الأوروبية، وكان سقوطها في القرن الخامس الميلادي مدخلاً وبوّابة لكثير من التغيُّرات والتحوُّلات في القارّة، كان من أبرزها ما حدث إبان عصر الهجرات، حيث عانت أوروبا كثيراً في ظلّ صعوبة الحياة والمعيشة في العصور المظلمة.

وقد كان للحضارة العربية الإسلامية – التي شعَّتْ في الأندلس – دوراً حيوياً مهماً في انبثاق النهضة الأوروبية، التي تجلَّتْ من خلال ذلك الدور المميَّز للفكر الإسلامي في الأندلس، ولا سيَّما عبر فكر ابن رشدـ، في إيصال وإعادة قراءة الفلسفة الإغريقية، على عكس ما تحاول المصادر الغربية إشاعته والترويج له من أن الأسطورة المؤسّسة للغرب تشكّلت فقط على مرجعية “يونانية – رومانية”، ومن دون وجود أيّ دور أو فضل للمصادر الشرقية أو غير المسيحية الأخرى (كالمصرية، الهندية، الإسلامية،..) على الحضارة الأوروبية.

وبعد دخول عصر النهضة الأوروبي، ومرحلة الممالك الجديدة، وبداية تحرُّر المجتمعات من ربقة الحكم الديني الكنسي الظالم، بدأت عصور الاستكشاف، وانطلقت الاختراعات العلمية، وازداد الاهتمام بالعلوم الإنسانية والتطبيقية. وكانت البرتغال أوّل مَنْ بدأ بالاستكشاف في القرن الخامس عشر الميلادي، وتبعتها بعد ذلك إسبانيا، ومن ثم جاءت بعدهما فرنسا والمملكة المتحدة وهولندا.. حيث لاحظنا كيف قامت كلٌّ من هذه الدول باستعمار الشعوب الفقيرة، والاستيلاء على أراضيها، في قارّات آسيا وأفريقيا والأمريكيتين، حيث (تحرَّكت الهيمنة الاستعمارية الغربية انطلاقاً من مزاعم وأوهام ثلاثة، هي: الدين (المسيحية)؛ والنقاء العرقي؛ والتفوق العرقي. وقد استخدمت هذه المسوِّغات لتبرير غزو مختلف العوالم الأرضية، وإخضاعها والسيطرة عليه).

وبعد انتهاء عصر الكشوفات الجغرافية، وتدفّق المواد الخام من أراضي المستعمرات، أصبح الشغل الشاغل للغرب متركِّزاً حول ضرورة نشر وبثّ أفكار الديمقراطية، وكيفية تطبيقها. فانطلقت الشعوب الأوروبية للمناداة بالحرية والمساواة الفردية. وكان أبرز حدث توَّج تلك الأفكار والتوجُّهات هو الثورة الفرنسية، التي خلقت مناخاً ثقافياً وسياسياً جديداً في أوروبا، وأشاعت أفكار الثورة على الإقطاعيين أو رجال الدين في مختلف مناطق القارة الأوروبية. كما وأدّى نشوء القوميات – بمعناها الحديث – إلى تعزيز الصراع الدائر بين القوى العظمى في أوروبا على دول العالم الحديث. وكان من أشهر تلك الصراعات ما حدث عند استلام نابليون بونابرت السلطة في فرنسا، حيث أنشأ ما عرف باسم الإمبراطورية الفرنسية التي سرعان ما انهارت. وبعد سقوط نابليون هدأت القارة الأوروبية نسبيّاً، وبدأ في تلك الفترة انهيار الممالك ونظم الحكم القديمة.

وبعد ذلك ـ وتحديداً في القرن الثامن عشر الميلادي ـ بدأت الانطلاقة الفاعلة والمنتجة للتنوير والحداثة الغربية، وانطلقت الثورة الصناعية في المملكة المتحدة (بريطانيا العظمى). وكان من أهمّ نتائجها تحويل الاقتصاد الأوروبي تدريجياً من الاعتماد الكلّي على الزراعة والمنتجات الزراعية فقط إلى الاعتماد على الصناعة أيضاً، بعد اختراع الآلة البخارية، والمحرِّك، واكتشاف الفحم الحجري الذي كان عصب الصناعة آنذاك.

ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى نهاية الحرب الباردة كانت أوروبا مقسَّمة إلى كتلتين، ومنقسمة على ذاتها إلى حلفين سياسيين واقتصاديين رئيسيين، وبعده حدثت جملة تحوُّلات قادت إلى سقوط الكتلة الشيوعية بعد تهدُّم سور برلين وإعادة توحيد ألمانيا، وتوحُّد أوروبا اقتصادياً وسياسياً تقريباً..

ولاحقاً مر الغرب بأحداث كبرى اقتصادية وسياسية وعسكرية كانت منطقتنا العربية ساحتها الأساسية، إذ اشتعلت حروب ومنازعات عسكرية عديدة، تحت عناوين سياسية و”أخلاقية” أممية متنوعة برّاقة، تدعي تطبيق شرعة الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن، لكنها في العمق كانت تختزن مصالح نفعية اقتصادية باتت هي مهماز هذا الغرب في معظم تحركاته وعلاقاته وتدخلاته في هذا البلد أو ذاك، ولو جاء كل ذلك على حساب الشعوب في قوتها وثرواتها وخيراتها ومستقبل أبنائها..

إننا نعتقد أن العقل الغربي العميق لا بد أن يصحح مسيرة الليبرالية السياسية القائمة على الحريات والانفتاح وتقبل الآخر والتسامح الثقافي والمجتمعي، وأن يكون موضوعياً ليس في مجاله الحضاري بل في المجالات الحضارية للأمم والمجتمعات الأخرى، إذ ليس من المعقول والعدل أن تكون عقلانياً وموضوعياً وعادلاً في بيئتك، وعدوانياً ومؤيداً للظلم في بيئات أخرى فقط لأن لك مصالح وأجندات ومكاسب خاصة..

ويظهر لنا أكثر أن هناك مجموعة دوافع وبواعث (ومحرِّضات) (غير سياسية واقتصادية على أهمّيتها) حضارية ودينية تبرز أمامنا كمحدّد لطبيعة العلاقة القائمة بين الغرب والإسلام، من جهة أن الغرب السياسي (العلماني التنويري) يجعل – في أحايين كثيرة – الدين والهويّة والثقافة معايير جوهرية (مخفية في لا شعوره) في نسج وتنظيم العلاقة مع الدول العربية والإسلامية. وكأنَّني أستنتج أن السياسة لدى الغرب حالياً باتت – وهي التي كانت تقوم على المصالح والمنافع المتبادلة بين الأمم والشعوب، بصرف النظر عن المعتقد والهوية – عاملاً ثانوياً في تنظيم العلاقة بينه وبين العالم العربي والإسلامي، ولم تعد معيار بناء العلاقات بين الدول والشعوب المختلفة، لأن الحكومات العربية عموماً حققت لها كل مصالحها، ونسجت معها أقوى العلاقات وأمتنها.. فما الداعي إذاً لبقاء سياسات العداء والخصومة واختلاق الأزمات والمنازعات؟!.. هذا من جهة الغرب..

أما من جهتنا نحن في عالمنا العربي والإسلامي الكبير – حيث نفتقد للإرادة الجامعة – فقد تشكَّلت جملة عناصر واعتبارات فكرية وعملية وتاريخية خلقت وكوَّنت لدى الرأي العام العربي – بشكلٍ عامّ – مفاهيم نمطية ثابتة محدّدة للعلاقة مع الآخر الغربي، يمكن إبرازها في ما يلي:

أولاً – طغيان حالة العداء السافر للثقافة الغربية لدى الغالبية العظمى من الشعوب العربية والمسلمة، من حيث اعتبارهم تلك الثقافة دنيوية مادية مستهلكة للروح والجسد، وأن البديل الحضاري الجاهز لها هو الثقافة الإسلامية، التي توازن بين الروح والمادة، وتهدف إلى تحقيق العدالة في الأرض، ونشر قيم الخير والتسامح للإنسانية جمعاء.. وقد تكرَّست عملية رفض الفكر والثقافة الغربية لاحقاً نتيجة كلّ تلك التراكمات التاريخية التي سيطرت على الذهن العام الشعبي العربي المسلم تجاه الغرب، من حروب صليبية واستعمار قديم وحديث.. وحالياً تتمّ تغذية هذا التصوُّر المسْبَق عبر ما تقوم به بعض المواقع الغربية من حملات عدائية استفزازية سافرة ضد رموز الإسلام، كما حدث مؤخَّراً مع نشر الرسوم المسيئة في الدانمارك، وعرض فيلم الفتنة في هولندا، وفي غيرها من الدول الغربية.

ثانياً– عدم التمييز بين السياسة والثقافة، بين السياسي والثقافي، وطغيان العامل السياسي الآني المتغيِّر على العامل الثقافي الثابت والأساسي في ضبط وتحديد طبيعة ومسار العلاقة مع الغرب من كلا الفريقين: (الغربي؛ والعربي)، وخصوصاً من جهة العرب والمسلمين، حيث إن التيار الغالب عندهم – على مستوى النخب والشعوب – لا يزال يؤمن ويعتقد اعتقاداً ثابتاً وراسخاً بأنَ الإسلام دينٌ ودولة، ولا فصل بينه وبين الحياة والواقع الحياتي المعاش بتحوُّلاته وتغيراته المتعدِّدة والمتنوعة.

ثالثاً– عدم إيجاد حلٍّ دائم وعادل لأمّ القضايا السياسية الإشكالية القائمة حالياً، وهي قضية الصراع العربي الإسرائيلي (التي يمكن اعتبارها بحقٍّ أحد أهم قنوات ومنافذ التوتُّر والعنف في العالم حالياً)، حيث لم تعمد مختلف الإدارات الغربية – المسؤولة تاريخياً وعملياً عن اغتصاب فلسطين، والدفاع عن إسرائيل ليلاً ونهاراً، وتغذيتها بالمال والسلاح – إلى إلزامها بإرجاع الأراضي المحتلّة..

وقد ثبَّت هذا التعاطي السلبي في داخل ذهنية العرب والمسلمين الحالة العدائية ضدّ الغرب عموماً، وكرَّس صورته كعدوٍّ مساند لإسرائيل ضد مصالح العرب، وهذا أمر صحيح.

رابعاً– وجود اتّجاه ثقافي وإعلامي عربي وغربي حادّ يعتبر أن الغرب والإسلام في حالة صدام حضاري دائم (ما يسمّى بـ: صدام الحضارات، الذي يتَّجه إليه العديد من المفكِّرين والمؤرِّخين الغربيين، ويحظى بتأييد كبير من نخب وتيارات عربية وإسلامية) وأنه لا سبيل للحوار والتلاقي بين حضارتين مختلفتين ومتمايزتين، تبحران في اتجاهين مختلفين؛ إحداهما: ثقافة العقل والتجربة والحسّ والعمل؛ وثانيتهما: حضارة القول والنصّ والروح والفكر المجرَّد..!!.

خامساً– ازدياد حدّة الفجوة القائمة تاريخياً بين الغرب والحضارة الإسلامية من خلال ظهور مجموعة متغيِّرات سياسية وتحوُّلات اقتصادية دولية حادّة، كالعولمة مثلاً، وما رافقها ونتج عنها من تعميق لركائز وأسس الثقافة الغربية السائدة (من ليبرالية سياسية وحرية تداول السلطة، وحرية تداول السلعة والمعلومة، واقتصاد السوق المفتوح، إلى الحرّيات العامة المطلقة للفرد والمجتمع والأمّة ككلّ..)، التي باتت تعدّ في عالم اليوم اللغة الحاكمة والمتحكِّمة في كلّ مفاصل العمل الاقتصادي والسياسي العالمي، أي إنها أصبحت عناصر أولية للتعامل والتبادل بين الدول والحضارات.. وهذا ما شكَّل (ويشكِّل باستمرار) ضغطاً قوياً على الأسس والبنى الفكرية والمكوّنات الثقافية للدين الإسلامي؛ باعتباره يختزن معطيات وينبني على مقدّمات وقواعد تشريعية منهجية ثقافية صارمة مختلفة – في الجذر المكوّن والفكر المؤسِّس، وتالياً في السلوك الممارس- عمّا هو قائم في داخل الثقافة الغربية القائمة على العلمنة والحرية.

وهذا ما عشناه للأسف – وما زلنا نعيشه كما قلنا – في مجمل السياسات والاستراتيجيات والخطط الدولية الغربية التي طبقتها وتطبقها ومارستها وتمارسها العديد من الإدارات السياسية الغربية في ما يخصّ طبيعة العلاقات بينها وبين دول وشعوب المنطقة العربية والإسلامية، التي يتحرك فيها الإسلام كقوّة محركة أساسية فكرياً وروحياً، تنحو منحى فكرياً تاريخياً، بات يمثِّل ناظماً ومعياراً قيمياً يحرك ويوجِّه مسارات تلك الإدارات، على تعدُّدها وتنوُّعها واختلافاتها ومواقعها.