هامش ثقافي

في نقد الذات.. الثقافة ورجالُ الدين

بقلم: غسان عبد الله

ولا شكَّ أن هذا الخطاب لا يتأتّى إلا لمن عاهدَ نفسه على التثقيف المستمر، واعتنى بالقراءة والمتابعة والاطلاع. وإذا كانت القراءة علامةً على وعي الإنسان، وشاهداً على ارتقاءِ المجتمعات وتقدّم الأمم، فإنها – لا شك – ضرورةٌ لازمةٌ لنخبةٍ خاصةٍ من الناس، وواجبٌ أدبيٌّ وشرعيٌّ عليهم.. أولئك هم صانعو الوعي وموجهو الرأي في المجتمع.

وثمة طائفة من هؤلاءِ تحتلُّ موقعاً رئيساً على الحدودِ بين واقعِ توعيةِ الجماهير ومستقبلِ هذه التوعية، ألا وإنهم رجالُ الدين. ذلك أن طبيعة الواجبِ وقداسةِ المَهمّةِ التي يضطّلع بها من تصدّى للوعظِ وانبرى للخطابةِ؛ تفرضُ عليه أن يكون بصيرَ القلبِ منفتحَ الّلُب. فصاحبُ القلبِ المبصرِ والعقلِ المستبصرِ أقدرُ على تشخيصِ العلّةِ ومعرفةِ دوائها واتّخاذ أفضلِ الوسائل لعلاجها.

وإزاء ما تعانيه الأمةُ من جهلٍ بالإسلام وبعدٍ عن تمثُّلِ روحِهِ وفهمِ رسالتهِ وتخلُّفٍ عن الالتزامِ بمنهجهِ الشرعيِّ والأخلاقيِّ في الحياةِ، إضافة إلى حجمِ التّحدياتِ القائمةِ في وجهه، وشراسةِ الحربِ المُعلنةِ عليه؛ إزاء ذلك كلِّه، فإنَّ ثِقلَ الواجبِ الملقى على عاتِقِ الدُّعاة إليه، ومنهم العاملونَ في الخطابةِ والوعظِ في المساجدِ، يزدادُ ويكبُرُ ليوازي حجمَ تلك التّحدياتِ الجسيمةِ والحربِ اللئيمة، ما يستدعي أن لا تنحصرَ ثقافةُ الداعيةِ المسلمِ في حدودِ التحصيلِ الأكاديميِّ للعلمِ الشرعيِّ فحسب. وإنما تتجاوزُهُ إلى حفظِ القرآنِ الكريمِ وما أمكنَ من الحديثِ النبويِّ الشريفِ، وإتقانِ اللغةِ العربيةِ، والإلمامِ بثقافةِ العصرِ والاطّلاعِ على ما أمكنه من علومِ زمانِهِ، ليكون ذلك كلُّه مكملاً لثقافتهِ الشرعية، ومعيناً على استكمالِ متطلباتِ القيامِ بواجبِ الوعظِ والإرشاِد والدِّعوة إلى الإسلام المحمّديّ الأصيل.

وكما أن التحصيلَ الشرعيَّ كان بالقراءةِ، فإن إتمامَ دورِ هذا التحصيلِ، وإكمالِ دائرتهِ حتى يُشرقَ نورُهُ على كلِّ ما حولَهُ لن يكون إلا بنشاطٍ واجتهادٍ ووسائلَ تشكّلُ القراءةُ واحدةً من أعظمِ قواعِدِها وأمكَنِ أُسُسِها.

فلن يملكَ رجلُ الدّينِ أن يكونَ معالجاً للواقعِ المريضِ إلا بمعرفةِ أمراضِهِ وكشفِ أسبابِها ووصفِ أدويتِها، ولن يكون مصلحاً في الناسِ ولا مؤثّراً في نفوسِهم ولا مغيّراً في سلوكِهم إلا بالعلمِ والحكمةِ والوعي؛ تلك التي تجتمع في إطارِ ثقافةٍ خاصةٍ لا يكتمل تحصيلُها بغير القراءةِ الواعيةِ المستمرة.

وهذه الثقافةُ؛ ستكونُ سلاحَهُ الذي يواجهُ به جهلَ الناسِ بقِيمِ الإسلامِ وأحكامِه، وانشغالَهم المفرِطَ بشؤونِ دنياهم عن أمورِ دينهم، وغفلَتَهم عن اتخاذِ الإسلامِ أساساً لإصلاحِ الواقعِ وبناءِ المستقبل. وستكون هذه الثقافةُ عونـاً له على حُسنِ النّظرِ في سطورِ كتابِ الواقع الذي تتلاحقُ فيه أنفاسُ الحياة، وتتعاقبُ فيه المستجدّاتُ والمتغيّراتُ، وتدورُ فيه عجلةُ الأحداثِ بسرعةٍ لا تُمْهِلُ حملةَ الدّعوةِ وصنّاع الرأيِ وفرسانَ التوعيةِ والتذكير.

إن غياب هذه الثقافة سيجعل الشيخَ الواعظَ والخطيبَ في المسجد معزولاً عن الواقعِ، يحلِّقُ وحيداً في أجواءٍ خاليةٍ، ويدوُر في حلقةٍ مغلقةٍ، بعيداً عن إدراكِ حاجةِ المجتمعِ، وتحديدِ مستلزماتِ الإصلاح، وتحقيقِ رسالةِ الوعظِ، والقيامِ بواجبِ التّوعيةِ والأمرِ بالمعروفِ والنّهي عن المنكر.

وإنه لمما يثيرُ الأسفَ أن فئةً من المعمَّمين – من يرتدون عمامة شيخ – يكتفون بما حصّلوا من علمٍ شرعيٍّ، ولا يحاولونَ استكمالَ بعضِ النقصِ الظاهرِ في كفايتهم العلميةِ وأَدائهم العمليِّ، ويقفونَ من العلمِ عند حدِّهم ولا يتجاوزونهُ إلى الاستزادةِ من العلومِ الأخرى والثقافةِ العامة، بل ربما قصّروا في مذاكرةِ ما حصّلوا من العلمِ الشّرعيِّ نفسه، فانعكس ذلك على خطابِهم ووعظِهم ودعوتهم؛ ضعفاً ظاهراً عند بعضهم في اللغةِ إلى حدٍّ يزري بصاحبه، ونقصاً ملحوظاً لدى آخرين في إتقانِ أساليبِ التّوصيلِ والعرضِ والإقناعِ، واضطّراباً لدى بعضٍ منهم في تناولِ قضايا عصريةٍ معيّنةٍ، ما يشي بضحالةٍ فكريةٍ وفقرٍ ثقافيٍّ، وتقصيرٍ في واجبِ الإعدادِ العلمي لخطبتِهِ والتحضيرِ المنهجيِّ لدرسِهِ وموعظته. ونتج عن ذلك أن انعكس فقرُ خِطابِهم الوعظيِّ وضعفُه على مستمعيـهم ومصلّي مساجِدِهم، فمن جمهورهم من استسلمَ للأمرِ الواقعِ على مضضٍ، ورضيَ بأن يكونَ مع الأغلبيةِ الصامتةِ، ومنهم من رفعَ عقيرَتَهُ بالاحتجاجِ، وعبّر عن امتعاضِهِ بالشكوى المسموعة، ومنهم من شدَّ الرِّحالَ إلى مساجدَ أخرى يبحثُ عن خطابٍ أكثر تأثيراَ وإقناعاً.

ولذلك فإن على رجلِ الدين أن يصحَبَ الكتاب، وأن لا يجفو القراءةَ، وعليهِ أن يستزيدَ من العلمِ، ويزاولَ الاطِّلاعَ على المصادرِ الثقافيةِ العصريةِ ولا سيما المجلات والدوريات التي تُعتبر من أهمِّ روافدِ الوعيِ بالحاضرِ ونوافذِ الاطّلاعِ على واقع الحياة.

ومما يقتضيه الإنصافُ أن نشهدَ بأن نفراً قليلاً من رجال الدين، سمَتْ بهم همّتُهم ووطّنوا أنفسَهم على القراءةِ والبحثِ والاستزادةِ من العلمِ؛ ليؤدّوا واجبَهم على أكملِ وجه، فسدّوا ثغرتَهم وأحسنوا أداءهم، وارتقى خطابُهم إلى درجةِ التأثير وإحداثِ التغييرِ في نفوسِ الكثيرينَ من الناس، فتزايدَ جمهورُهم وكثُرً محبّوهم. وقد استحق هؤلاء المتميّزون من رجالِ الدين أن تُسجّلَ خُطَبُهم ومواعِظُهم وتُبثّ عبرَ الإذاعات المسموعةِ والمرئيةِ والصُّحفِ أو وسائل التواصل الاجتماعي ليتداولها الناس، وأن تُـنـْشَر دروسُهم ومواعظُهم في كتبِ مستقلة.

وليس كلٌّ هؤلاءِ من ذوي التخصُّصاتِ الشّرعيةِ، وليسوا جميعاً من حَمَلةِ الشهاداتِ العليا، فثمةَ مهندسونَ ومعلِّمونَ في المدارسِ وحمَلَةَ شهاداتٍ شرعيةٍ دونَ درجةِ الماجستير والدكتوراه تهتزُّ لخطابِهم النفوسُ، وتخشعَ لموعِظَتُهم القلوب، وتتفتّح العقولُ لدروسِهِم، ويشتاق الناس لمجالسِهم ومحاضراتهم.

إذن.. فإننا نقول عبر هامشنا الثقافي إن تحصيلَ الثقافةِ المناسبةِ لدورِ رجلِ الدين لا يقتصرُ على المعلوماتِ الشرعيةِ المجرّدة، بل يمتدُّ إلى مساحةٍ تتّسعُ للإلمامِ بِقَدْرٍ من علومِ اللغةِ والتربيةِ والنفسِ والاجتماعِ والتاريخِ والتراجمِ والسِّيرِ والمِللِ وما تيسّر من العلومِ الأخرى. ومما لا ريبَ فيه أن ذلك متعذرٌ من غيرِ مداومةِ القراءةِ ومواصلةِ الاطّلاع، والبقاِء على تواصلٍ دائمٍ مع مصادرِ المعرفةِ التي باتت في أيامنا سهلةً قريبةً من الجميع.

فأكثرُ المساجدِ اليوم فيها مكتباتٌ توفِّر قاعدةً مرجعيةً للخطيبِ والواعظِ، والمكتباتُ العامةُ توفِّرُ من المراجعِ الموسوعيةِ والكتبِ والمجلاتِ والصحفِ ما يقضي حاجةَ القارئ والباحثِ. ولا ننسى الإشارةَ إلى أهميةِ الإفادةِ من منجزاتِ الثورة المعلوماتيةِ المعاصرة، وما تفتحُهُ من أبوابِ الاطّلاعِ على أنواعِ العلومِ وألوانِ الثقافةِ المنشورةِ فـي مئاتِ وآلافِ المواقعِ على الشبكـة العنكبوتية (الانترنت)، وما توفِّرهُ الأقراصُ المدمجةُ التي تختزنُ المعلومات، وتستوعبُ الموسوعاتِ العلميـةَ الكثيرةَ وتضعُها فـي لحظاتٍ قليلةٍ بين يدي القارئ.

ويبقى المتصدي لواجب الدعوةِ إلى الإسلام كرجلِ دينٍ في حاجةٍ ماسةٍ إلى التزوّدِ من مصادرِ العلمِ والمعرفة؛ ليغذّي خطابه ومواعظه، ويثريها بالشواهدِ والنصوصِ والاقتباساتِ المناسبة، وليستطيعَ مواكبةَ المتغيراتِ والمستجدات، وليكون حاضراً بخطاب أصيلٍ متميزٍ قادرٍ على الاستجابةٍ لمطالبٍ الواقع.

إن القراءةَ حركةٌ إلى الأمام؛ نُدرِكُ بها مسيرةَ الحياةِ، ونطّلعُ بها على متغيراتِ العصرِ، اقرؤوا لأنَّ القراءةَ تنويرٌ للذهن، وإضاءةٌ لأجواءِ النفس، تعينُ على كشفِ خفاياها ومعرفةِ مزاياها وإدراكِ عيوبِها، ولأنَّ القراءةَ فتحٌ لمغاليقِ البصيرةِ، وسبرٌ لأغوارِ الطريق، واستكشافٌ لآفاقِ المجهول.

اقرؤوا لأن القراءة قوةٌ للعقلِ وزادٌ للروحِ وإرواءٌ للقلب، ولأنها عبادةٌ لله تعالى وقربةٌ نؤجرُ عليها إذا صدُقَتِ النيةُ وصحَّ القصُد، إذ هي استجابةٌ لأولِ أمرٍ إلـهيٍّ نَزَلَ على النبيِّ الأميِّ محمد(ص) في القرآن الكريم ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق﴾.

اقرؤوا يا سادتي لتتجدّدوا، ولتجدِّدوا غيرَكم، ولتتغيَّروا وتغيِّروا في الناس: ﴿إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾.