مظاهرات الأردن والشارع العربي أمام ساعة حقيقة الحرب الصهيونية
بقلم: توفيق المديني
عاشت الشوارع الأردنية، خلال الأيام القليلة الماضية، على إيقاع مظاهرات عارمة، عبّر فيها الأردنيون عن استنكارهم ورفضهم لاستمرار حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الكيان الصهيوني ضد قطاع غزة المحاصر..
فيما تم لليوم الثاني على التوالي حصار سفارة الاحتلال الصهيوني في منطقة الرابية بعمّان، وردَّدَ المتظاهرون في هذه المسيرات، هتافات توجهت إلى الملك مباشرة، بشكلٍ غير مألوفٍ منذ أحداث “الربيع العربي”، مثل رفع شعارات: “يا عبد الله يا ابن حسين.. حق الأقصى علينا دين”، و “يا عبد الله يا ابن حسين.. بدنا نحرر فلسطين”.
وكانت آخر فترة معروفة للهتافات التي تتوجه إلى الملك مباشرة في الأردن، إبان فترة “الربيع العربي”، وفعاليات الحراك الشعبي، والتي شهدت سقوفاً عاليةً للهتافات لم يعهدها تاريخ الأردن، للمطالبات بإصلاحات جذرية في بنية النظام الهاشمي.
وأطلق الآلاف من المشاركين في المظاهرة هتافات تدعم المقاومة الفلسطينية، مثل “حط الطلقة ببيت النار.. واحنا رجالك يا سنوار”.. “هيك علّمنا الياسين احمل مصحف مع سكّين… هيك علّمنا العيّاش احمل مصحف مع رشاش”.
غير أنَ القوات الأمنية الأردنية قامت بقمع المتظاهرين بالهراوات، وقنابل الغاز المسيل للدموع، حين تمكن العشرات من المشاركين في المظاهرة الحاشدة من اختراق الحواجز الأمنية، مقتربين بشكل أكبر من مبنى سفارة الكيان الصهيوني.
الغضب الشعبي الأردني، وصل لجُل فئات المجتمع، بينهم النساء، التي أعلنت عن اعتصام مفتوح، في محيط مجمع النقابات المهنية، وذلك رفضاً لاغتصاب نساء غزة، ومطالبة بوقف العدوان على كافة الأهالي في القطاع المحاصر. وقرّرتْ النساء البقاء في اعتصام مفتوح، والتوجّه لمحيط سفارة الاحتلال الصهيوني، الذي بات لا يخلو من مظاهراتٍ يوميةٍ.
وتظاهر المئات من المغاربة، في عددٍ من المدن المغربية الكبرى تضامناً مع غزة، مطالبين بـ “وقف الإبادة الجماعية التي يتعرض لها سكان القطاع” و “وقف تجويع غزة” مُرَدِّدِينَ، شعاراتٍ تطالب بحماية المدنيين في القطاع، ومنع “إسرائيل” من خططها تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة.
كما خرج آلاف العراقيين في العاصمة العراقية بغداد في مسيرة حاشدة مساء الاثنين 25 مارس 2024، تنديداً بالمجازر الصهيونية الوحشية ضد قطاع غزة، وهتفوا لفلسطين والمقاومة وأهالي غزة. ودعا نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي إلى مسيرات في العاصمة المصرية القاهرة، أسوة بالمسيرات الحاشدة التي جرت الأسبوع الجاري في عددٍ من العواصم العربية على رأسها عمان بالأردن، والرباط والدار البيضاء في المغرب.
الشارع العربي وهم أم حقيقة تاريخية في ظل النظام الدولي أحدي القطبية
على الرغم من استمرار حرب الإبادة الجماعية على غزَّة، والتي اتسمت بعددٍ هائلٍ من الضحايا وتحذيراتٍ من المجاعة، وبارتكاب العدو الصهيوني جرائم كبيرةٍ أَوْدَتْ بحياة أكثر من 32 ألف فلسطينيٍّ، معظمهم من الأطفال والنساء، وبإصابة حوالي 75 ألف فرد، فإنَّ الشارع العربي لم يتحرك في القاهرة، ولا في العواصم العربية الإقليمية الكبيرة في المشرق العربي والمغرب العربي، لتشكيل جبهةٍ من المقاومة العربية (على المستوى السياسي، والحراك الشعبي، والمقاومة المسلحة، نستثني من ذلك فصائل محور المقاومة المرتبطة بإيران ) بوصفها إجراءً مضاداً إلزامياً وضرورياً في مواجهة الجرائم المنهجية والتصفية العرقية التي يمارسها الكيان الصهيوني والإمبريالية الأمريكية بحق الشعب الفلسطيني .
تعود مقولة “الشارع العربي” في تاريخها إلى نهاية حرب الخليج الثانية 1991، وتَجَدَّدَ استخدامها في الحرب الصهيونية العدوانية على غزة، من قبل أولئك الذين يتحدَّوْنَ سطوة الغرب، منطلقين مما يمكن أن يساعد على العموم موقفاً معادياً للإمبريالية الأمريكية وقاعدتها الاستراتيجية في المنطقة ممثلة بالكيان الصهيوني. ولما كان العالم العربي يبدو للكثير أشدَّ المناطق تأزماً وتفجراً في حقبة ما بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار المعسكر الاشتراكي، إذ يمكن القول بأنَّ العالم العربي شكَّل ساحةً للحروب بين الدول أكثر مما شكلته أية منطقة أخرى من العالم، فقد تنبأ العديدون أن تلعب مقولة “الشارع العربي” دوراً مركزياً في مواجهة الأعمال العدوانية الموجهة ضد العرب والمسلمين.
في الواقع، نقول اليوم “الشارع العربي” مثلما كُنَّا نقول في السابق “الجماهير الشعبية” و”الشعب العامل” و “الطبقة البروليتارية” و “الثورة الوطنية الديمقراطية”. ولكل مرحلةٍ تاريخيةٍ معينةٍ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945، والموجات التي استتبعتها من حركات تحرر وطني معادية للاستعمار، وحركات قومية راديكالية علمانية، وأحزاب اشتراكية وحركات إسلاموية، تبحث كل مقولة من هذه المقولات الآنفة الذكر في تعيين الأطراف الفاعليين الذين يُحَدِّدُونَ مجرى الأحداث السياسية. ولكل مقولةٍ من هذه المقولات دينامية تؤكِّدُ دفعة واحدة خضوع العالم العربي للهيمنة الداخلية ممثلة بالأنظمة التسلطية والإستبدادية الموروثة من مرحلة الحرب الباردة، وللهيمنة الخارجية ممثلة بالإمبريالية الأمريكية، وتوفر فرصاً لمستقبلات بديلة، أكثر ديمقراطية وسليمة، وبصرف النظر عن مدى تطابق هذه المقولات مع حاجات الواقع وعملية تغييره نحو الأفضل.
لقد قامت الإمبريالية الأمريكية قائدة النظام العالمي الليبرالي الجديد أحادي القطبية الذي تتحكم فيه الأيديولوجية الليبرالية الجديدة، المنبثقة عن الثورة المحافظة المضادة للمكاسب الاجتماعية والثقافية والأخلاقية التي تحققت على يد الأيديولوجية الليبرالية الكلاسيكية الأوروبية، هذه الثورة المحافظة المضادة متسمة بنزعةٍ رجعيةٍ شديدة الصلافة والعداء للأقليات وحقوق الطبقات الشعبية، وللحركات النقابية، والشعبية، وللثقافة الليبرالية والتقدمية، قامت على تدمير العالم العربي بالحدِّ الأقصى من العنف، لكي تسحب من العرب نزعة التحرُّرِ، ونزعة الاستقلال، ونزعة التقدم.
ومنذ أن فرضت الولايات المتحدة هيمنتها بإطلاقية على النظام الدولي أحادي القطبية، على الأقل مؤقتاً، بنت إستراتيجية أطلسية مطابقة لرؤيتها لهذا النظام الدولي، والتي تقوم على استعادة السيطرة على أوروبا الشرقية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وإقامة حكومات متعاونة مع الغرب، وخوض معارك إسقاط الدول الوطنية العربية بمساعدة القوى الرجعية الخليجية، وحشدها القوة العسكرية للحرب والتهديد بالحرب في المنطقة العربية، من خلال إقامة تحالف إستراتيجي بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، وتوقيع اتفاقية لإقامة منطقة التجارة الحرَّة بين الكيان الصهيوني وواشنطن، واستخدام خيار العنف الأقصى المدمر لإحداث تغييرات في العالم العربي، وحسم المعركة فيه لمصلحتها، وعلى حساب مصالح الشعوب (حرب الخليج الثانية سنة 1991، الغزو الأمريكي للعراق في سنة 2003، حرب تموز في لبنان سنة 2006، وحرب إسقاط نظام العقيد القذافي في ليبيا سنة 2011، والحرب الكونية ضد سوريا التي استمرت عشر سنوات (2011-2021).
وأخيراً تقاسمت الولايات المتحدة والكيان الصهيوني الأدوار في حرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة عقب عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023، حيث انخرط الكيان الصهيوني في أعمال يصفها كل العالم بأنَّها جرائم وحروب إبادة ضد الفلسطينيين، بينما توفر الإمبريالية الأمريكية دعماً عسكرياً لا غنى عنه وغطاءً سياسياً في المحافل الدولية المحورية مثل الأمم المتحدة ومجلس الأمن. ويسلط تقسيم الأدوار هذا الضوء على التواطؤ المروع بينهما للعمل بشكلٍ فعالٍ ومشتركٍ على تحييد أي رادعٍ ضد الجريمة الصهيونية المنظمة على نطاق عالمي..
يُعَبِّرُ النظام العالمي الليبرالي الأمريكي أحادي القطبية الأحادية على المستوى الاستراتيجي، بالدور المركزي للولايات المتحدة في حلف الناتو، وعن التفوق غير المتكافئ للقدرة العسكرية المشتركة لدول الناتو على جميع القوى الأخرى في العالم. ويتفوق الغرب بموازاة ذلك، على الدول غير الغربية الأخرى من حيث الإمكانات الاقتصادية ومستوى تطور التقنيات العالية، وهلمّ جرَا.
كان انهيار الاتحاد السوفييتي يعني في الوقت نفسه، اختفاء إحدى القوى العظمى المتناظرة، ومعسكر أيديولوجي ضخم بأكمله. لقد كان يمثل نهاية واحدة من القوى العظمى المهيمنة عالمياً. تغير هيكل النظام العالمي نوعياً بالكامل منذ تلك اللحظة وبشكل لا رجعة فيه. القطب المتبقي في هذه الحالة، هو قطب برئاسة الولايات المتحدة، وعلى أساس الأيديولوجية الرأسمالية الديمقراطية الليبرالية – وقد استمر كظاهرة وأخذ يوسع نظامه الاجتماعي والسياسي (الديمقراطية، السوق، أيديولوجية حقوق الإنسان) على النطاق العالمي. هذا ما يسمى عالم أحادي القطب؛ النظام العالمي أحادي القطب.
غياب التأطير الفكري والثقافي لمشروع وطني وقومي تحرري جديد
في ظل هذا النظام العالمي أحادي القطبية ؛دخل العالم العربي القرن الواحد والعشرين وهو محفوفٌ بالمخاطر حقّاً، إذْ إنَّ العلاقة بين العالم العربي والاقتصاد العالمي مازالت علاقةَ ضُعْفٍ، وإلى حدٍّ كبيرٍ علاقة تبعيةٍ، ولا زالت سياسة الولايات المتحدة الأمريكية منحازةً بإطلاقيةٍ للكيان الصهيوني ومتواطئة مع النظم العربية الاستبدادية، ولا زالت اللامساواة الصارخة في توزيع الثروة و السلطة والحقوق، وهي لا مساواة تعرف أيضاً باسم الإمبريالية – قائمة، في ظل هذا الوضع الشارع العربي ليس في المحصلة النهائية، سوى المصيبة الأخيرة، وهو يدق جرس إنذار عن مأزقه التاريخي.
لأنَّ الانتقال من البروليتاريا، والفلاحين الفقراء، والجماهير الشعبية، والقوى الاجتماعية المعادية للإمبريالية والصهيونية، إلى مقولة “الشارع العربي”، يعني الانتقال من الدقيق نسبياً إلى المرونة على وجه الخصوص، من العياني إلى الجمهور الضبابي الصامت ليس بسبب شرطه الاجتماعي، – وبدرجة أقل من قبل أيديولوجيته السياسية – وإنما بسبب الغضب الشديد بلا شرط، أي غياب الوعي السياسي المطابق الذي ينشد التغيير الراديكالي.
قد تكون مقولة “الشارع العربي “، مفيدة بالدرجة الأولى، للمثقفين العضويين بالمعنى الغرامشي المتميزين عن النخب العربية (أكاديميين، مؤرخين، روائيين وصحافيين) المتواطئة مع السلطات الحاكمة، والتي تعيدُ إنتاج الدوغما الرسمية، بدلاً من لعب دور الانتلجنسيا الثورية بالمعنى الحقيقي في مواجهة التحدِّيات. كما أصبحت مقولة “الشارع العربي” تحتل موقعاً مركزياً في الخطاب السياسي لقوى المعارضة على اختلاف مشاربها الفكرية والسياسية في العالم العربي، نظراً لأنَّ الشارع العربي من وجهة نظرها يجسد الملاذ الأخير للآمال التي تم هدرها، وهي تعتقد أنه يتمرد وينتفض ضد مضطهديه.
إذ إنَّ التاريخ المعاصر للعالم العربي كان ولا يزال مسألة الحرمان من الحقوق لكل الاتجاهات الفكرية والسياسية التي انخرطت في نضالات شعوب المنطقة منذ الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، حيث كانت قوام هذه النضالات مناهضة التدخل الإمبريالي الخارجي بشقيه الأمريكي والصهيوني، ومقاومة القهر المسلط على مستوى الجنسين، وضد قمع الصحافة ومصادرة الحرية الأكاديمية ونفي الأمن، ومن أجل الظفر بالحريات الفردية والعامة المتساوقة مع حقوق الفئات الاجتماعية.
لقد أصبح الأمل مهدوراً من “الشارع العربي” الذي لم يصبحْ فاعلاً تاريخياً خلال 15عاماً من حروب الإبادة الجماعية التي تخوضها الحكومات الصهيونية الفاشية المتعاقبة بقيادة نتنياهو على قطاع غزة، كل حرب منها كانت أقوى تدميراً وأكثر كارثيةً على أهل غزة من سابقتها. ويصف نتنياهو القطاع بأنَّه “كيان معاد” تحت حكم حركة “إرهابية”(حركة حماس)، ويرى أنَّه يحق له شن َّحرب عليه في أي وقت بذريعة “الدفاع عن النفس”، وأنَّه يجب هزيمة حماس مرة وإلى الأبد.. فقد اختار نتنياهو سياسة تشديد الاحتلال، والحرب الطويلة ضد الفلسطينيين، التي أُرِيدَ لها أن تكون حرب إبادةٍ وحشيةٍ، دمر خلالها الجيش الصهيوني، بكل قوته، كل ما اعترض طريقه إلى أهدافه، مطبقا ما يطلق عليه “عقيدة الضاحية” التي طبقها في حرب لبنان 2006.
خاتمة
لقد أثبتت التجربة التاريخية المعاصرة القريبة مِنَّا زمنياً، والحاضرة في وعينا ووجداننا، أنَّ التحرك الفعلي والمتبقي للشارع العربي، يتقدم بتوافر شرطين أساسيين ضروريين: أولهما وجود دولة وطنية كدولة مصر الناصرية هي جنين دولة قومية أو دولة قومية بالقوة، يمكن أن تصبح كذلك بالفعل عند توافر الشروط الذاتية والموضوعية اللازمة، وثانيهما نمو الحركة الشعبية في مناخ الحرِّية الفكرية والسياسية. فلم يتبلور ملامح المشروع القومي الديمقراطي العربي المناهض للإمبريالية الأمريكية وللكيان الصهيوني واقعياً وجدِّياً، إلا في ظل نمو هذه الحركة التي ركبتْ مَوْجَهَا الأحزاب السياسية، ثم ما لبثتْ أن خَذَلتْهَا إنْ لم نقل خَانَتْها.
وليست ظاهرة الصمت السائدة في “الشارع العربي” (والصمتُ مرضٌ خبيثٌ عند العرب) وانطلاق مسلسل العدوان الإمبريالي – الصهيوني الْمُذِّلِ والْمُدَمَّرِ، وعملية التهميش المضاعف الذي يتعرض لها الرأي العام العربي، والقوى السياسية، في ظل الرأسمالية المتوحشة الأمريكية والدول المرتبطة بها، التي عملت في كل مكان إلى تقليص مساحة الحرِّية، ومحيط الديمقراطية، وسعتْ إلى ما يمكن أن يدمر جهاز أمن العولمة، سوى مظهر من مظاهر أزمة السياسة في العالم العربي.
ويتساءل المحللون الأكاديميون في الغرب، كيف يمكن تفسير التعايش، من جهة بين إفرازات العولمة التي عمقت هوة عدم العدالة، وعدم المساواة، والفقر على المستوى العربي، وإعطاء بعض العرب القوة لأمريكا الأمر الذي جعلها قادرة أن تفرض الكثير من شروطها المذلة على الأمة العربية وأن تستخف بالمواقف العربية، وأن تستهين بالحقوق العربية، ومن جهة أخرى الصمت السياسي في ” الشارع العربي “. وماذا يمكن القول عن العالم العربي، الذي يبدو أنَّه أفلت من رياح الهجمة الشاملة نحو الديمقراطية؟
عندما تَخُورُ الدولة والمجتمع في العالم العربي، تَخُورُ بالدرجة الأولى المدينة العربية وتتحول إلى صحراءٍ قاحلةٍ، حتى وإن كانت مسكونة بملايين من البشر. ويتجلى هذا بوضوح في موت ” الشارع العربي “.