إقليميات

جَدَلُ الْمُدَافِعِينَ عَنِ الرَّدٍ الإيرَانيِّ والْمُعَادِينَ لَهُ

بقلم: توفيق المديني

المدافعون عن الرَّدٍّ الإيراني

يتبنى معظم المدافعين عن الرَّدِّ الإيراني استراتيجية المقاومة المسلحة في مواجهة الاحتلال الصهيوني وغطرسة وفاشية حكومته بزعامة نتنياهو، فهُمْ المؤمنون بقضية تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وكافة الأراضي العربية الأخرى المحتلة، ويعتقدون جازمين أنَّ مواجهة المشروع الإمبريالي الأمريكي والمشروع الصهيوني، تقتضي من الدول الإقليمية والعربية التي تدعم محور المقاومة أن تبلور بدورها مشروعاً إقليميا سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وثقافياً وحضارياً متصادماً مع الامبريالية الأمريكية والكيان الصهيوني.

يعتقد المدافعون عن الرَّدِ الإيراني أنَّ إيران كسرت الخطوط الحمراء التي كانت مرسومة بينها وبين الكيان الصهيوني وهو ما “يؤْذن بأن الصراع الإستراتيجي بين الطرفين بدأ يخرج من نطاق الحرب الخفية غير المباشرة إلى الحرب الصريحة المباشرة” كما ذهب إلى ذلك الكاتب محمد المختار الشنقيطي، الذي يرى بأنَّ “أي ضربة إيرانية للكيان الصهيوني – مهما كانت رمزية – مفيدة لأهل غزة، وفيها تخفيف عنهم من أعباء حرب الإبادة الجماعية التي تشنها “إسرائيل عليهم” مؤكدا أنَّ “يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 ويوم 13 أبريل/نيسان 2024 سيدخلان التاريخ باعتبارهما يومين فقدتْ فيهما الدولة الصهيونية جزءاً مهماً من ردعها، لا بسبب حجم الخسائر الإسرائيلية فيهما، بل بسبب هزِّ ثقة الصهاينة بأنفسهم،.. وإحساس شعبهم ـ الملفَّق من أشتات الآفاق ـ بعدم الأمان والاطمئنان في الصميم”

بصرف النظر عن النتائج، فالحرب الحالية التي اندلعت منذ عملية طوفان الأقصى يوم 7أكتوبر 2023، هي الحرب الأولى التي يخوض فيها الكيان الصهيوني حرباً متعددة الجبهات ضد سبعة كيانات ودول، بما فيها غزة. وهي الحرب الأولى التي تطلق فيها الصواريخ على الكيان الصهيوني من بلدان فصائل محور المقاومة بما فيها غزة وجنوب لبنان والعراق واليمن، وأخيرُا إيران.

هكذا يأتي الرَّد الإيراني في سياق خوض إيران المجابهة مع الكيان الصهيوني والإمبريالية الأمريكية من مبدأ إبراز أوراق القوة ووسائل الردع المتوفرة لديها لثني الولايات المتحدة عن مخططها الهادف إلى تدمير إيران عبر الحصار الاقتصادي الخانق المفروض عليها وإركاعها، حتى دون عمليات عسكرية واسعة، تتجنبها الولايات المتحدة حتى الآن، حيث لا تملك إيران رفاهية الانتظار ومشاهدة هذه الاستراتيجية الأمريكية المدمّرة لها مع الوقت.

إيران تهاجم لأول مرَّة الكيان الصهيوني بالطائرات المسيرة والصواريخ، وترى ضرورة إبراز عامل الردع والثأر لضحايا العدوان الصهيوني على مقر القنصلية في دمشق والتي أودت بحياة ألمع قيادات الحرس الثوري الإيراني، فهاجمت الكيان الصهيوني بنية إلحاق أضرار جسيمة به، والإضرار بالأمن الشخصي للصهاينة، الذين هرعوا بمئات الآلاف للاختباء في الملاجئ، بمن فيهم رئيس الحكومة الصهيونية بنيامين نتنياهو وقياداته العسكرية والأمنية.

إنَّها الحرب النفسية التي تعرف إيران كيف تديرها في زمن التوترات الإقليمية والدولية الكبيرة، وفي زمنٍ أصبح فيه إقليم الشرق الأوسط خاضعاً لحرب الإبادة الجماعية التي تقودها كل من أمريكا و “إسرائيل” ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. فالقوات البرية الصهيونية تواجه مقاومة فلسطينية عنيدة، لا تبدي أي إمارات استسلام أو اندحار، وذلك على الرغم من حجم الدمار الهائل والمعاناة الشديدة للناس. ومن الواضح أن المزاج في أوساط مقاتلي حماس ازداد تصلباً. فهم يرون أنهم نجوا من الأسوأ، ولم يبق لديهم ما يخسرونه.

أخيراً: كشف الرَّد الإيراني ضعف الكيان الصهيوني، إلى الدرجة التي بدا فيها غير قادرٍ وحده في الدفاع عن نفسه، بل إنَّ الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والأردن، قاموا بالتصدي للصواريخ والمسيرات التي هاجمت “إسرائيل”، التي انكشف عجزها اليوم، في اختيار كيفية الرَّد على الهجمات الإيرانية، في ظل ورطتها في غزَّة، وعدم تحقيقها أي إنجاز في مقابل مقاومة فلسطينية قوية وتزداد تصلباً.

نقد الدور الأردني في صدِّ الهجوم الإيراني

الدولة الأردنية – الحاجز بقيادة الملك عبد الله الثاني هي التي سمحت لطائرات سلاح الجو الإسرائيلي ومعدات إلكترونية متطورة بنصب كمين للطائرات بدون طيار الإيرانية في سماء الأردن. وكان الملك الأردني يعمل خلف الكواليس، وهو الذي كان يوجه سلاح  الجو الأردني لصد الهجوم الإيراني، وفي الوقت نفسه خرجت طائرات أردنية من قواعدها لإطلاق النار على الطائرات بدون طيار الإيرانية التي شقت طريقها إلى فلسطين المحتلة. وقد أوضح الملك الأردني حتى قبل الهجوم الإيراني، ومرور الطائرات الإيرانية في أجواء الأردن، أنَّه لن يسمح للإيرانيين بالعمل في الأراضي الأردنية كما يفعلون في العراق وسوريا ولبنان.

ينتقد المدافعون عن الرَّد الإيراني سياسة النظام الأردني، لأنَّه سمح بدخول الطائرات الإسرائيلية والأمريكية، لصد الهجوم الإيراني، حيث تم الكشف عن سرِّ التعاون الوثيق بين قوات الأمن الأردنية ونظيرتها الإسرائيلية، وسمحت المملكة للطائرات الإسرائيلية بحرية العمل الكاملة في سماء الأردن، فهاجمت الطائرات الإيرانية بدون طيار، وبدا للحظة أنَّ التعاون العلني والسري في عهد إسحاق رابين والملك حسين يعود إلى عهد الملك الحالي عبد الله وبنيامين نتنياهو.

وقد أعلن الأردن إغلاق مجاله الجوي، وأغلق مطار عمان، بالضبط خلال الساعات التي تم فيها تعليق الرحلات الجوية في الكيان الصهيوني، ولم يكن مفاجأ موقف النظام الأردني وسلاح الجو الأردني الواضح المصطف مع الكيان الصهيوني والإمبريالية الأمريكية والإمبريالية الأوروبية (فرنسا، بريطانيا)، الذين أعدُّوا حزامَ رصدٍ مسبقٍ لمئات الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة وصواريخ كروز التي أطلقتها إيران، ما جعل منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلي الأمريكي – البريطاني – الفرنسي، تتمكن من تركيز جهودها على اعتراضها المسيرات والصواريخ قبل وصولها إلى المواقع العسكرية الصهيونية في فلسطين المحتلة.

فمن خلال هذا التقاسم الوظيفي بين الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والكيان الصهيوني، والنظام الأردني والنظام السعودي، والنظام الإماراتي، استطاع معسكر أعداء الأمة العربية والإسلامية هذا، أن يحقق حلم الكيان الصهيوني الاستراتيجي بهندسة الدفاع الإقليمي في مواجهة إيران.

الأردن في تبريره للتصدي للمسيرات الإيرانية، أنَّه يرفض تعريض سلامة مواطنيه والمناطق السكنية والمأهولة للخطر، وهو يدافع عن سيادة أراضيه، لكنَّه في الوقت عينه سمح لإقامة غرفة العمليات الحربية الدولية “موكا” التي تترأسها الولايات المتحدة الامريكية مع مجموعة من دول كبريطانيا وفرنسا ودول عربية أهمها الأردن، السعودية والإمارات، وتنظيمات إرهابية وتكفيرية التي تقاتل في درعا، والتي تأسست في بداية الحرب السورية 2011، من أجل إسقاط الدولة الوطنية السورية.

المعادون للرَّد الإيراني: مدافعون عن الكيان الصهيوني

يرى المعادون للرَّدِ الإيراني، أنَّه على الرغم من هذا التصعيد الخطير في إقليم الشرق الأوسط، وبلوغ التوتر إلى حدّ المواجهة العسكرية المباشرة بين الولايات المتحدة وإيران، فلا يعني هذا حتمية اندلاع الحرب الإقليمية. ففي واشنطن لا توجد أجواء حرب واسعة ضد إيران أو غزو برّي، على الرغم أنَّ الولايات المتحدة تجد نفسها للمرَّة الخامسة في ثلاثة عقود أنَّ ركيزة رئيسية من ركائز السياسة الخارجية تنهار في يديها.

على الرغم من أنَّ الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك كل البنية التحتية العسكرية من قواعد عسكرية، وبوارج حربية، وصواريخ كروز، ودبابات في منطقة الخليج العربي، فإنّها لن تغامر بشن حرب واسعة النطاق على إيران، ويرجح حين يتم تجاوز الخطوط الحمر بين إيران والكيان الصهيوني، أنّ توجه أمريكا ضربة محدودة انتقامية مدروسة لمواقع إيرانية حساسة تقضي على مواقع إطلاق صواريخ بالستية متوسطة وبعيدة المدى (أو ضربة استعراضية لمواقع غير حساسة إذا قرر ترامب عدم التصعيد) ودون أضرار كبيرة، وارداً، مع استمرار استراتيجية الضغط الأمريكي على إيران وإضعافها تدريجياً. وقد تأتي الضربة خارج إيران تجنباً لاستفزاز كبير لإيران (والساحة السورية هي أنسب مكان كونها مفتوحة لكل من يريد ضرب خصومه وأعدائه!) حفظاً لماء الوجه داخلياً وخارجياً بالنسبة للإدارة الأمريكية، ودعماً للكيان الصهيوني الذي لا يتوقف عن توجيه الضربات على مواقع داخل سورية.

وعلى الرغم من جميع محاولات الكيان الصهيوني الضغط على واشنطن في ظل إدارة بايدن الحالية لجرها إلى حربٍ إقليميةٍ ضد إيران، فإنّ أمريكا تخشى من تداعيات الحرب في حال اندلاعها، لا سيما أنّ إيران تمتلك قوة عسكرية وصاروخية هائلة قادرة أن تطال كل القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة، فضلاً عن أنّ إيران قادرة على تحريك كافة أوراقها في المنطقة من مبدأ “عليّ وعلى أعدائي”.

الخاتمة

لا يمتلك الرئيس الأمريكي جو بايدن استراتيجية تجاه إيران، ولا أحد في إدارته يؤمن بأن هذه الاستراتيجية موجودة. ولعل الاستراتيجية الوحيدة التي يمكن التحدث عنها هي إبعاد ملف التحدي الإيراني عن مكتبه. فمن وجهة نظر المعادين لإيران، اقتربت هذه الأخيرة من الحصول على القنبلة النووية، وهي تساند بقوة فصائل محور المقاومة خارج حدودها، وكشفت الهجمات المباشرة ضد “إسرائيل” عن تطور برنامج الصواريخ الباليستية لديها وأصبح قوياً.

 وفي معظم الوقت كان الهدف الأول لبايدن ومساعديه ليس حل المعضلة الإيرانية، بل إبعاد الملف الإيراني عن مكتب الرئيس، وحسب قول مسؤول أمريكي، فإنَّ: “الاستراتيجية تجاه إيران هي ترك الأمور تغلي على نار هادئة، سواء كانت نووية، أو إقليمية أو أي شيء آخر. وكان هذا هو النهج ولبعض الوقت”. وهناك خلاف بين المستشارين في واشنطن بشأن تعريف الاستراتيجية، حيث استخدمها بعضهم بشكل عام. وعادة ما يتذمر البعض من الحديث عن الوثائق التي تنسب لصناع السياسة باعتبارها استراتيجية وهي ليست استراتيجية في الواقع. ويظل هذا الحديث مجرد فشل في التصدي لتحديات السياسة الخارجية. وفي النهاية فإن لم يكن الهدف حل المشكلة فلا توجد هناك استراتيجية.

وعندما يتحدث صناع السياسة عن “احتواء” و”خفض التوتر” و”ردع” و”إدارة مخاطر” لوصف نهج بايدن من إيران، فإنهم يتحدثون عن تكتيكات لا استراتيجيات. ويبدو أن الرئيس لديه اعتقاد

تبدو استراتيجية أمريكا في جلب إيران، من موقع العجز واليأس، إلى طاولة المفاوضات، فاشلة، لأنّ إيران مستعدة لمفاوضات من موقع القوة، لا من الضعف، خصوصاً بعد أن راكمت عوامل قوة ونفوذ وردع خلال العقود الماضية في المنطقة، جعلها قوة إقليمية حقيقية. فعند نقطة ما بين حرب باهظة التكلفة وتغيير النظام الإيراني غير المرجح يكمن احتمال ثالث، والذي يتطلب استكشاف بايدن للدبلوماسية.

لقد جابهت الولايات المتحدة ومعها الكيان الصهيوني الهجوم الإيراني من خلال تفعيل خط دفاعي من الرادارات والمقاتلات النفاثة والسفن الحربية وبطاريات الدفاع الجوي من الكيان الصهيوني وأمريكا وستة دول أوروبية وعربية. وكان هذا العرض الهائل للدفاع الجماعي تتويجاً لهدف أمريكي دام عقوداً، وهو ضمان إقامة الكيان الصهيوني علاقات عسكرية أوثق مع الدول العربية المطبعة معه، التي هبَّتْ لمساعدة “إسرائيل” على الرغم من استمرار حرب الإبادة الجماعية على غزة.

وبدلاً من نسخة شرق أوسطية من حلف الناتو، ركزت الولايات المتحدة على التعاون الأقل رسمية في مجال الدفاع الجوي على مستوى المنطقة للتصدي لترسانة طهران المتنامية من الطائرات المسيرة والصواريخ، وهي الأسلحة نفسها التي هددت الكيان الصهيوني مؤخراً.