الانتظار.. والغربةُ عن الروحِ
بقلم غسان عبد الله
لطالما حدَّثَتْني نفسي عن فكرة الاختفاء، عن فكرةِ الغيابِ والانعزالِ عن كلِّ ذلك الضجيجِ الذي يؤرِّقُ فطرتي ويُشْعِرُني بالغربة. كنتُ أشعر بالاختلافِ أو كشيءٍ يستعصي وصفُهُ. فأنا مزاجيٌّ من كشهر ميلادي.. “شباط ليس على مزاجي رباط”، ناعمٌ كحدِّ السيفِ.. هادئٌ كبركان، قويٌّ كحرب، وليِّنٌ كالسلام.
قد أمشي أميالاً على أطراف أصابعي دون أدنى التفاتة أو ربما دونما أشعر.. وعن عذوبة المواعيد في زمن العجائب فقد أدمنتُ ذلك الضوءَ الساكنَ في غسقِ الدُّجى والذي اعْتَادَ على معانقةِ شرفةِ حجرتي، لطالما حَمَلَ القمرُ عبءَ تبديدِ تلك العتمةِ بداخلي، كان يربِّت على قلبي كلما غشاه الحزن.
وعن لذة كتاباتي لصباحات عاشق التي أدْمَنْتُها.. وصارتْ مساراً للتنفيسِ عن مكنوناتِ عاشقٍ لمعشوقٍ مفترَ.. عن كل ما أكتب.. سلامٌ على ذلك المكعب الخشبي المتهالك الذي يقبع في إحدى الزوايا – غير المهملة أبداً – والذي نذر وجودَهُ لاحتواء ذلك المتسلل ليلاً، حين يقصده خلسة كل ليلة لينزع الوجع من بين أضلاعهِ. وعلى وقْعِ الهدهداتِ لقلبي المُتْعب.. أعيش أعراس أيامي وأسقي سنبلاتي اليابسات. لقد كنت أشعر بالامتلاء، لم أكن بوادٍ غير ذي زرع، أبداً. ولكن لوهلةٍ خَذَلَتِ الدنيا سليقتي وأحكمتْ قبضتها، حتى أنني لا أتذكّرُ الحادثةَ جيداً من فرط التَّغييب. كل ما أتذكره أنني خرجت من قصيدةٍ روحية لذيذة دون حولٍ مني ولا قوّةٍ، ومشيتُ عقوداً في الاتّجاهِ الخاطئ حتى ضَلَلْتُ الطريق!. وكأنَّ أحدهم أخرجني عنوةً وطوى صفحتي قبل أن أعود.
ها نحن عدنا إذاً، أنا أعتذر لقد كنتُ أفتِّشُ عن نفسي في زمنٍ جديدٍ ومع أناسٍ لا أعرفهم. ولكنني يا لأسفي خُذِلْتُ، لقد كان كلُّ شيءٍ رمادياً، لا دهشةَ فيه ولا شغف. جمعٌ من المطبِّعين والمطبّلين البُلَهاء.. وقطيعٌ من الحمقى، فما أكثر الناس وما أقل الإنسان!.
الغربةُ عن الروحِ كسقوطٍ في غيابةِ جُبٍّ. لقد كنت هناك لزمنٍ طويٍل أرى السكرى وقد ثمِلوا التفاهاتِ، واستبدَّتْ بهم الخطايا. حتى قرأتُ ذات ليلة: (حتى وإن سقطت أحلامُك في بئرِ يوسف، ستمرُّ قافلةُ العزيز)، فهدأتْ نفسي.
عذراً أنا أكرهُ الانتظار، أكرهُ أن أتضوّرَ انتظاراً على أملِ أن تحدُثَ الأشياءُ، ولا تحدُثْ. فكلُّ الأشياءِ التي تأتي بعد طولِ انتظارٍ وترقُّب، تأتي باردةً مثقلةً بائسةً!.. الانتظار وقوفٌ طويل، الانتظارُ موت بطيء. ولكنني وعلى الرغم من ذلك أتوق إلى العزلة وأكادُ أهرمُ انتظاراً من أجلِ تلك اللحظة. ولن يفهمَ ذلك إلا أولئكَ الذين لم يحتَسوا القهوةَ ساخنةً قطُّ من فرط الانشغال.
ولإيماني بأن الصبحَ قريبٌ، رتَّبتُ أمنياتي وأرسلتُ دعواتي للسماء: ليُسْبِغَ عليكم الربُّ نعمةَ التأمُّلِ الآسرِ، ومَلَكَةَ الانغماسِ الطاهرِ، لتكملوا ذلكَ الشطرَ الذي لم يكتملْ في جوفِكم. في ذلك السكونِ الاحترازي، يا ساده، تأمّلوا، فقط تأملوا. أتعلمون! أغمِضوا أعينَكم، تنفّسوا بعمقٍ، تنفّسوا حتى أخمصِ أقدامِكم، وتأملوا، فقط تأملوا.
لقد أمضيتُ وقتاً طويلاً، سنواتي الستينية كلّها؛ لأتسلّق النضج. وكنت دائماً أفشلُ لهشاشةِ قلبي ولا منطقية تفكيري. وأدركتُ أخيراً بأنّ النُّضجَ ليس إلا حصيلةَ التجاربِ والأخطاءِ والآلامِ والخيباتِ، ما هو إلا نتاجُ قراراتٍ مفصليةٍ وهدنةٌ مع الحياةِ تنص على خفضِ سقفِ التّوقعاتِ والآمالِ مع الآخرينَ وتقبُّل الذاتِ بعيوبِها وزلاّتِها، والمُضِيِّ في طريقٍ رسَمَهُ المرءُ لنفسِهِ دون أدنى مؤثِّراتٍ حمقاء. وفي عقدي السادسِ، زارني النضج وحلَّ ضيفاً طالَ انتظارُه.
أتعونَ ما معنى أن تشاهِدوا أنفسَكُم تكبر؟ أن تمشوا مسافاتٍ تقطفوا معها زهراتِ شبابكم؟ أن ينطفئِ نورُكُم وتتضاءلَ ألسنتُكُم؟ أن يكون الصمتُ أبلغَ؟ أن تعيشوا في غيمةٍ سوداء؟ ثم بأمرِ الله تهبُّ رياحُكُم، فتُمطرون، وتزدهِرون، وتحملِون حياةً بين أيديكم؟.
نحنُ بسطاءُ فقراءُ، تجذُبُنا التفاصيلُ وتبهجنا السعاداتُ الصغيرةُ. نحن فعلياً لا نكبُرُ أبداً مهما شاخَتْ أجسادُنا وتجعَّدَتْ أيادينا، ما لم تَشِبْ أرواحُنا. نحن نعيشُ في بحرٍ لُجِّي يقذِفُ بنا يمنةً ويسرة. فإما أن نتشبّثَ بطوقِ نجاةٍ ونناضلَ من أجلِ البقاء، أو أن ينتهي بنا المطافُ بعيداً إلى حيث الانطفاء، إلى حيثُ الهلاك. فكونوا أشدّاء، حتى في ذبُولِكُم أحياء. وردِّدوا اللهم روحاً لا تنطفئ وشغفاً لا يموت وبهجةً تربَّتْ على رتابةِ أيامنا. قليلٌ من الامتنانِ يا سادة لكلِّ المسرّاتِ الصغيرةِ، فلولاها لما حيينا.
إن هذه الحياة تحمل بين رفوفها فصولاً من المهدِ إلى اللحدِ، فأي فصولٍ تلك التي ترى نفسَكَ بها. فصولِ الانشراح والسلام، أم فصولِ البؤسِ والإملاق! أم فصولٍ لم ترَ النور أبداً.
أيها الطيبون: اقضوا الحياة كما لو كانت نزهة. تأكدوا بأن أمنياتكم مخبأةٌ ليومٍ ما. ستفاجِئُكُمُ الأقدارُ بلطفِ الله الخفي. سيأتيكم كلُّ شيءٍ بشكلٍ لائقٍ، وتذكرون: ﴿لا إله إلا أنت سبحانَكَ إني كنتُ من الظالمين﴾، في سجدةٍ طويلة وليلةٍ حالكةٍ لا أحدَ فيها سوى مناجاتِكم مع صاحبِ الُّلطف. تذكّروا دائماً ﴿فاستجبنا له ونجّيناه من الغمِّ﴾، سيأتيكم جبر من الله عن كل تلك الليالي التي أوجَعَتْكم ولم يكترثْ أحدٌ لأمركم. سيمنحُكُم الحياةَ كغصنِ توتٍ أو طوقِ ياسمين. ستأتيكم على هيئةِ فُرَصٍ أو على هيئةِ أشخاصٍ يجيئون كطَلٍّ على قلوبِكم، يمرّون سريعاً مرّ السحابِ وقد اعشوشَبَتْ أيامُكم. وهذه سنّةٌ حياتيةٌ مؤكدة، ثقوا بي.
عن نعيمِ العزلةِ أحدِّثُكم، عن متعةِ الاكتفاءِ، عن قشعريرةِ الإحياءِ، عن رحلةِ الغوصِ في الأعماقِ، ألا يشتَاقُ المرءُ لذاتِه؟.. ألا يقِفُ على أطلالِ ذلك القلبِ الخاوي الذي هَجَرَتْهُ العصافيرُ. وتلك الروح البائسة التي أتعبتها المسافات. ألا يهديها تلك السعاداتِ الصغيرةَ والامتنانَ الخفيَّ الذي يعالجُ تجاعيدَهُ الروحيةَ! يا أصدقائي: الفراغ ليس بنقمة أبداً إلا على المفلسين. ألم يأنَ لكم أن تحلّقوا بعيداً، أن تبدِّدوا عتمة سماواتكم المظلمة! أن تمشوا طويلاً حتى تجدِوا ضالتَكم. أن تسيّروا جيوشَكم لتعودوا بغنائمكم!. هل شعرتم يوماً بذلك الاحتفاء الذي تعرفه شرفات الجنون جيداً، وذلك النسيم اللذيذ الذي يداعب شغاف القلب ببرودته الحانية.
هل تَكَمْكَم أحدُكُم بغطاءٍ عتيقٍ واحتسى كوبَ قهوةٍ أو سافرَ على متنِ كتابٍ! تُرى من شَعَرَ بأنَّهُ أخفُّ من الهواءِ أو ارتقى على عتباتِ غيمة!.
لقد عدت إلى روحي أخيراً. كنتُ أرقُص معها في ليالي الوجد، لا شيء سوى قصائدي واستئناسي بـ “صباحات عاشق”.. كان الليل يُمطِرني ببهجةٍ مطلقةٍ حتى يشقّ الصبحُ خطوطَهُ ويتنفس على استحياء. فسلامٌ على تلك الليالي المطمئنة.