فضاءات فكرية

حولَ الدّين والعلم .. هل الدينُ مسؤولٌ عن تخلّفنا وتقهقرنا الحَضاري؟!

بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

وكأن الدين هو الذي منع ويمنع علماء العرب والمسلمين من البحث العلمي، أو وقف ويقف حائلاً أمام الانفتاح على تطورات الحداثة والعلوم وتقنياتها ومكتشفاتها، أو عاقب ويعاقب الناس إذا ما أرسلوا أولادهم للجامعات والمدارس والمعاهد العلمية، أو أو إلخ…!!!.

للأسف، نقولها بحزن: عقولٌ صغيرة هي تلك التي تفكر بهذا النمط التفكيري أو العقلية البسيطة، إذ كيفَ يعقلُ أن يكون الإسلامُ مانعاً للتطور العلمي وغير العلمي، وهو الذي طالب في أول آية قرآنية نزلت بالقراءة (أي بالعلم): ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ (العلق:1).. وحضّ على المعرفة وحث ودفع باتجاه نهل العلوم من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ودعا أتباعه لطلب العلم ولو في الصين، وأكد على الدرجة والمكانة الرفيعة للعلم والعلماء، حيث لا يستوي من يعلم مع من لا يعلم: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أولُو الألْبَابِ﴾ (الزمر:9). كما أنَّ بناءَ وتشييدَ حضارةٍ إسلامية تميزت بمبدعيها من العلماء والمخترعين – وأصحاب معادلات وخطوط ومنهجيات علمية رصينة – في شتى ميادين العلوم البشرية والطبية والهندسية وغيرها، لهو أكبر دليل على ما وفره وقدمه هذا الدين من أرضية خصبة لنهل العلوم.

نعم، لقد أشاد القرآنُ الكريم – في كثير من نصوصه وآياته – بالعلم والعلماء وبالمنهج العلمي طالما كانت غاية أصحابه ومبدعيه خدمة البشرية في تطورها وازدهارها وتحقق سعادة شعوبها وحضاراتها، وأكّد على ضرورة أن تقوم وتُبنى تلك العلاقة (بين الدين والعلم) على مرتكزات ومبادئ الاعتراف والتفاعل والتواصل واحترام التّخصّصات، ممتدحاً العقل التأملي، ومحرّضاً على حركة البحث العلمي، ومحارباً لكل أشكال الخرافة والأسطورة أو العبثية والصدفة.

بل رفع الله الذين أوتوا العلم درجات عالية في الدنيا، فضلًا عن الثواب في الآخرة، قال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ (المجادلة: 11)، ناهيك عن أنه لا يوجد في القرآن الكريم حثٌّ على طلب الزيادة في شيءٍ كما هو في مسألة العلم، قال تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ (سورة طه: 114).

من هنا يمكن القول والتأكيد أنَّ إشكالية الدين والعلم لا معنى لها في مجالنا الحضاري الإسلامي، فلا ثنائية ولا مشكلة ولا أزمة بينهما.. المشكلة والإشكالية وقعت في التاريخ الغربي حيث أن الحداثة الغربية كانت قطعت مع عالم الدين نفسه، وأوجدت لنفسها ملاذات آمنة في التعابير المادية الدنيوية فكراً وسلوكاً مادياً، تاركةً قضية الإيمان مركوزة في الوعي الذاتي والتعبدي الخاص للإنسان في طبيعة العلاقة بين الفرد وخالقه فقط، (وهذا جاء على خلفية العداء التاريخي بين العلم والعلماء من جهة والكنيسة من جهة أخرى، حيث كانت الكنيسة الغربية هي الحاكمة والمتحكمة لقرون عديدة بكل شيء قبل سطوع عصر التنوير الذي أنهى حكمها وحرر أوروبا من ربقة النظام الديني) ، أما الإسلام فهو كدين حياتي عملي لا روحي فقط، لا يفصل بين ذاتٍ وموضوع، أو بين مادةٍ وروح على نحو الانفصال الكلي، وبالضرورة والمآل هو لا يفصل بين دنيا للفعل والإنتاج والكسب الحياتي، وبين آخرة هي دار جزاء وعدالة مطلقة، بل ربط بينهما ربطاً روحياً وعملياً، فالدنيا دار عمل وابتلاء واختبار يجب على المؤمن أن يسعى ويكدح فيها عملاً وشغلاً وكسباً حياتياً، والآخرة دار بقاء وجزاء، يلقى فيها بنو الإنسان جزاءهم عن أعمالهم وأفعالهم (وكسبهم) في دنياهم، وهذا هو مؤدى قوله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ (سورة القصص:77). وقوله تعالى الواضح في الربط بين الدنيا والآخرة لناحية أن الدنيا مزرعة الآخرة: ﴿أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ۖ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ﴾ (البقرة: 86).

لقد نظرَ الإسلامُ إلى حياة الإنسان انطلاقاً من أنّ الإنسان مخلوق (معلول) تابع لخالق، وليس مخلوقاً تابعاً لذاته، وحياته ليس مرهونة له بل لخالقه تعالى الذي نظم حياة هذا المخلوق وفقاً لمسارات فكرية وعقائدية تقومُ على التوحيد والإيمان بجميع أركانه وتستند إلى قيم سماوية عالية مطلوب من الإنسان السّعي إليها في حياته الدنيا من أجل أن يحقّق هدفَ الخلق، انطلاقاً من فكرة الاستخلاف الرباني الهادفة لتنظيم مهمة الحياة الإنسانية التي حدّدها القرآنُ في قوله عز وجل: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ﴾(آل عمران: 110).

من هنا:

الدين ليس مسؤولاً عن تخلف العرب، ولم يكن العرب والمسلمون متخلفين في كل تاريخهم بسبب دينهم الإسلامي، بالعكس كان الدين منارة للدعوات العلمية كما قلنا، مع تفجّر إشعاعات العلوم في حضارتنا الإٍسلامية في كل أنحاء عالمنا العربي والإسلامي لقرون عديدة.. إن المسؤولية تقع على عاتق من حَكَمَ وتحكَّم بسلطة القرار كله (من ألفه إلى يائه) من الأنظمة المستبدة الديكتاتورية التي نهبت الثروات، وأفسدت الناس والمجتمعات، وتاجرت بالموارد والخيرات لصالح مشغليها في الخارج.

فأين هي مسؤولية الإسلام الذي لم يحكم، ولم يتولَ دعاته ورموزه مسؤولية القرار؟!.. مع علم الجميع أن كل النظم ومنظومات الحكم السياسي العربي التي هيمنت على بلداننا منذ نيل استقلالها (الشكلي)، كانت بالمجمل أنظمة عسكرية انقلابية مستبدة لا علاقة لها بالدين مطلقاً لا من قريب ولا من بعيد.  وحتى عندما نشأت وولدت حركات إسلامية في تلك البلدان، فقد استخدمتها وجيّرتها تلك الأنظمة لصالحها (في أن تبقى وتستمر وتؤبد ذاتها في الحكم)، واخترقتها بالتطرف والتعصب والعنف.. لتكون – بمعظمها – مجرد مجاميع إرهابية مرتزقة يتم إخراجها من تحت الأرض وقت اللزوم والحاجة لتحقيق مآرب وأجندات خاصة.

وحتى عندما وصلت فكرة العلمانية إلى بلادنا العربية والإسلامية تحولّت هذه الرؤية والنهج الفكري من حركة فكرية إصلاحية ذات توجهات اجتماعية عقائدية إلى شعار (صراعي) تبنّته النخب السياسية والفكرية التي نشأت على خلفية مناخ النضال والكفاح ضد الاستعمار، والعمل على تحرر بلداننا (رغم أنه اضطروا كثيراً لاستخدام مفردة “الجهاد” الدينية لتزخيم وإشعال حروب الاستقلال)، حيث تحالفت هذه الفكرة (العلمانية) مع دول ما بعد الاستقلال الشكلي عن المستعمر الخارجي.. لكن سرعانَ ما اصطدمتْ – بعدَ تغيّر مضمونها الاجتماعي والإصلاحي مع تراجع الدولة الوطنية وتهافتها وهشاشة تأسيسها – مع قيم المجتمعات العربية الإسلامية في نسيجها الحضاري الديني الإسلامي، بعد أن حولها رموز تلك المرحلة أفراداً وجماعات سياسية (ممن انهمكوا في صراعات على السلطة) إلى أيديولوجية وعقيدة سياسية فوقية مصلحية لاستثمارها في الموضوع السياسي السلطوي، فاقتربت من حدود الاصطدام المباشر مع الدين ذاته، رغم أن نشأتها في مهدها لم تكن على هذا النحو الاستقطابي الحاد. مما أسهم في تشويه صورتها وإبرازها كقيمة مناقضة ورافضة للدين ذاته، حتى أصبحت في نظر المجتمع (المؤمن والملتزم بالمعاني الدينية) مقترنة بالكفر وبمفهوم الإلحاد.. وهكذا تسلّحت الدولةُ العربية منذ نشأتها بسلاح العلمنة الذي بات عقيدة سياسية وكفاحية مناوئة – كي لا نقول معادية – لعقيدة الأمة المتمثلة بالإسلام. هذه التحولات جعلت كثيراً من التيارات والنخب (التي أعطت لنفسها صفة الوطنية والتقدم والعقلانية) تضع العلمانية خياراً وحيداً للتقدم، وممراً إجبارياً للولوج إلى جنة النهضة المنشودة وتحقق التنمية الاجتماعية والسياسية، وأنّ شرطَ ذلك –من الناحية الفكرية والإجرائية- هو تغييرُ مفاهيم الدين وقيمه وطروحاته وتوجهاته القائمة، هكذا فهم أغلب حداثييِّي العرب فكرة العلمانية.. واتخذوها منصة للنيل من الدين، بل ومحاربته في صميم قيمه وجوهرانية وجوده وعلى مديات زمنية طويلة من تحالفهم العضوي مع نظم الاستبداد والطغيان، فباتت في نظر الوعي الشعبي والرأي المجتمعي والجماهيري العربي والإسلامي، نوعاً من الدين أو ديناً جديداً قائماً بذاته (يواجه ويناهض) دين الأمة الأساسي وهو الإسلام، بما ينطوي عليه (هذا الدين الوافد الجديد) من قيم ومحددات فكرية ومفاهيم ورؤى اجتماعية وكونية “مميزة!”، يمكن استثمارها لمزيد من التحكم والسيطرة على الناس، واحتكار البعد الرمزي والمعنوي للأمة، لينصب السياسيون (الطغاة) من أنفسهم خلفاء لله على الأرض، يحكمون باسمه تحت اسم (ودين) وافد جديد هو “العلمانية”.

وعلى الرغم من كل تلك المعالجات، وعلى رأسها، أنّ العلمانية تقفُ على طرفي نقيض من موضوع الإسلام بالذات كدين ورسالة، وكشرعة مدنية ودنيوية وليست فقط أخروية مفارِقة (كما يزعم العلمانيون) يجب أن نعترف ببقاء الصراع بين الفريقين، ما أثر على وضع الأمة ككل، وعلى مستقبل استراتيجياتها التنموية والاجتماعية، حيث كان للعقم التنموي والحرمان السياسي والظلم الاجتماعي بالغ الأثر في ظهور حركات التطرف والتكفير والإرهاب منذ عدة عقود، واستغلالها واستخدامها من قبل النخب الحاكمة لتبرير البقاء والهيمنة والتحكم الدائم بثلاثية السلطة والثروة والقرار.