أصالةُ التّنوع الثّقافي والتّعددية الحَضارية الحوار كضرورة للعيش والتسامح
بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري
البشرُ أقوام وحضارات ومجتمعات كثيرة متنوعة في أديانها وأعراقها وثقافاتها ومللها ومختلف انتماءاتها وتكويناتها التاريخية؛ وكل مجتمع أو ملة أو دين أو تكوين اجتماعي وسياسي حضاري، يملكُ مجموعةَ أنساقٍ ونظرات فكرية واجتماعية ورؤى كونية اعتقادية حول قضايا الحياة والخَلْق والوجود، تشكل عندهم مرجعية وشريعة ومنهاجاً حياتياً يمحورون حركتهم وعلاقاتهم وانتظاماتهم العملية بالاستناد عليها.
هذا التنوعُ الهائلُ الذي تضجُّ به الحياة لم يكن -في أي يوم من الأيام- دافعاً للحروب والصراعات، إلا عندما يتحول لحالة تنابذ وتعصب أعمى يرى ذاته ويرفض غيره.. حيث يقوم قلة من المنتفعين والمتكسّبين بتجيير هذا التنوع لمصالحهم الخاصة في خلق بؤر التوتر والتناقض مع الآخر المغاير.. وهذا ما حَدثَ في كثيرٍ من الحضارات والأمم البشرية، وما زال يحدث ويتحرك ويجري على قدمٍ وساق في حياة البشر وعلاقاتهم التي باتتْ مليئة بأجواء التنابذ والصراع ومتخمة بممارسات حربية عنفية تقومُ على العنصرية ورفْضِ الآخر والتّعصب للذات والسياسة والفكر الواحد والنهج الواحد.
مع أنَّ الأفكارَ الحضارية والأنساق المعرفية والرؤى الثقافية التي أبدعتها عقول كبيرة في حركة التاريخ البشري نظّرت لفكرة الاختلاف ودعتْ لتعميق قيمة التنوع في المجتمعات البشرية بما يقربها أكثر من بعضها بعضاً عبر وشائج المشتركات القيمية الحضارية الإنسانية، ويبعدها أكثر عن التدافع والصراعات والحروب لتعيش بالاستناد للتسامح والحوار والاعتراف ببعضها بعضاً رغم الاختلاف والتنوع في المصالح والأفكار والثقافات والسياسات والخلفيات الانتمائية وغيرها.
وكذلك اعترفت الأديان السماوية كلها، في عمق أصالتها الإلهية، بهذا التنوع، وأقرت بالاختلاف والتعددية الدينية والحضارية والقومية وغيرها، لأن الله تعالى – في الأصل والبدء التكويني – جعل الوجود والحياة قائمين على التنوع، أي على الاختلاف، البشري والطبيعي والحياتي.. ولو أننا نظرنا إلى أي مفردة من مفردات هذا الوجود الضخم الواسع (اللامحدود) سنجد التنوع جوهرياً في أساس بنيتها وتكوينها؛ الإنسان، الحيوان، النبات، الطبيعة، الفضاء، الكواكب، المجرات، وووإلخ.. فالله واحد، والوجود متنوع مختلف… والاختلافُ مدخلٌ للتكامل الوجودي، وصيغةٌ للعيشِ التسامحي، وسبيل لحياة فاعلة منتجة.
وإذا ما وثّقنا نظرة الدين لموضوعة التنوع والاختلاف، سنجد أن الإسلام مثلاً – وهو خاتم الأديان والرسالات السماوية – يؤسسُ لهذا التنوع البشري (والحياتي)، وله نظرة موضوعية واقعية حوله، بعيدة عن التجريد والتخيل والمثالية.. حيث يعتبر (الإسلامُ) التنوعَ والاختلافَ حالة طبيعية تكوينية، يجب عدم المساس بها أو التلاعب بأسسها ومقوماتها، لأن المساس يهدد قواعد البنيان وأسس الحياة ويعرّضها لأخطار العنف والإقصاء ونشوب الصراعات.. جاء في كتاب الله: ﴿ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إنّ في ذلك لآيات للعالمين﴾ (الروم/22) وقوله عز وجل: ﴿ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم﴾ (هود/118-119)، وقوله تعالى ﴿ادعُ إلى سبيلِ ربّكَ بالحكمةِ والموعظةِ الحَسنةِ وجَادِلهُم بالتي هي أحْسَن﴾ (النحل/125).
فالإسلام ينكر نزعة العنصرية والمركزية الثقافية والسياسية التي تريد أن يكون العالم منمطاً على شكل واحد، تعكس توجهاً واحداً في الفكر والسياسة والاقتصاد والثقافة وغيرها، لتستهدف جَعْل الإنسانية قالباً واحداً، منكرة على الآخرين حق التمايز والاختلاف الثقافي وغير الثقافي، يقول تعالى: ﴿لكلٍّ جعلنا مُنكم شرعةَ ومنهاجاً ولو شَاءَ اللهُ لجعلكمْ أمةً واحدةً﴾ (المائدة/48).. وقوله تعالى: ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير﴾ (الحجرات/13).. فهو سبحانه وتعالى خلق البشر متنوعين ومختلفين ومتعددين، وطلبَ منهم أن يحافظوا على قيمة التنوع لأنها ثراء وغنى روحي وعمل.. ولكن لن يتحقق المراد من هذا التنوع إلا إذا كان هناك حوارٌ حقيقي جدي بين هؤلاء المختلفين، يرسخ التوافق والتعاون والانسجام والتعايش السلمي بين أتباع الحضارات والثقافات والمجتمعات والأيديولوجيات المختلفة، وبحيث ينتج هذا الحوار علاقات وأعمالاً توافقية انسجامية خيّرة بين الإنسانية جمعاء.. ولكن أنى لهذا الغرض النبيل أن يتحقق في ظل صراعات القوى الدولية على موارد هذا العالم، وانقسامها على نهب مواقع ثروات الكثير من بلدان وحضارات البشرية.. وفي ظل إصرار الثقافة الغربية – المالكة لزمام القوى المادية – على أن تبقى ثقافة مركزية مهيمنة، توجه وتشرف وتدير وتأمر لتطاع، ولا تلقي بالاً لما تسميه بالثقافات الطرفية الهامشية.. مما كرّس – وما زالَ يكرّسُ – الفوارقَ بين الشعوب والأمم والمجتمعات العالمية، حيث نجد كيف تهيمن تلك القوى على مقدرات العالم البشري وثروات بقية الأمم والحضارات، انطلاقاً من عقيدتها الفوقية القائمة على التفوق والنخبوية والغطرسة الحضارية؟!!. خصوصاً مع وجود جذور ومناخ وعلاقة تاريخية مثخنة بالجراح، ومثقلة بتركة وإرث طويل من الصراعات والمواجهات الجزئية والشاملة تمتد لأكثر من ألفي عام بين الغرب والشرق بالذات (على سبيل المثال لا الحصر)، استُحضرتْ فيها أبعاد أيديولوجية تتصل بالفكر والدين والثقافة والتصورات والمفاهيم الحضارية الكبرى في الحياة الإنسانية، الأمر الذي دفع بهذه العلاقة إلى الارتباط الكامل بحركة المصالح الدنيوية على مستوى الحاضر والمستقبل، وجَعَلَها خاضعة – في الامتداد الزمني – لرؤى مفاهيمية مستقبلية متباينة تخفي الكثير من مواقف وردود فعل كل طرف في هذه العلاقة إزاء الطرف الآخر.
إن ما أفرزته ثقافة الغرب من ادعاءات بالتفوق والمركزة، هو أمر مثير وملفت للغاية، ويبعث على الاشمئزاز، إذ كيف يمكن “صرف” هذا الادعاء العنصري بالفوقية الحضاري، مع أن كل البشر ينتمون إلى أرومة جنسية واحدة، وكل البشر يمتلكون نفس الخصائص الخلوية والنووية الذاتية التي كشفتها اكتشافات علوم الهندسية الوراثية.. وأن البيئة كموضوع هي من تحدد وتؤثر على طرق وأساليب العمل والوعي والسلوك، وليس الإنسان نفسه كذات؟!!.
للأسف يصرف فقط على طريق وفي علاقات الاستغلال والنهب والسيطرة التي تمارسها تلك الدول المركزية في ثقافاتها وسياساتها ضد البلدان الغنية بالموارد والطاقات بغرض نهب خيراتها ومواردها، في ظل إبقائها مرتهنة وخاضعة وتابعة..!!.
.. طبعاً نحن هنا عندما نؤكد – على الرغم من أخطار وسلبيات الهيمنة الغربية – على أهمية التنوع والاختلاف كأصل مجتمعي بشري، أقرته الأديان، واعترفت به النظم والمبادئ البشرية (كناحية نظرية مؤسسية)، لا يعني أن يتماهي الإنسان كلياً مع المختلف، وينسى هويته وثقافته الخاصة به، ويذوب في النسق الحضاري لغيره، ويتنازل عن أسسه ومقوماته الحضارية والثقافية.. فالاعتزاز بهويتنا وثقافتنا والتمسك الإيجابي المنفتح بمعاييرها هو أمر مطلوب بشدة، مع ضرورة أن نؤسس فيها لحالة ومظهر الانفتاح الحواري الواعي مع الآخر، وتعزيز سبل التفاعل الحضاري، والإصرار على تأصيل قيمة التنوع كأصل معياري بشري إنساني في القوانين والعلاقات والتعاملات وسبل التواصل المختلفة.. وعلى هذا الطريق يجب ألا ننسى (أو نتناسى) الأهمية الكبرى لمراجعة ذاتنا والنقد الموضوعي لأفكارنا وآرائنا في أن نزيل منها شوائب الرفض والتعصب والانغلاق، ونعمق فيها قيم الانفتاح والحوار والتنوع وفهم الآخر ليس كما نريده كحالة نمطية نفرضها عليه، بل كحالة مشتركة لإنسانية القيم الجامعة..
إن التنوع والتعدد في الهويات والثقافات والقيم يشكل بذاته حالة غنى وثراء للجنس البشري على العموم، وحافزاً لإشعال روح الإبداع والإنتاج الحثيث في مختلف المجالات الحياتية المجتمعية..
ودعوتنا لاعتماد التنوع والحوار – لا الصدام – بين الحضارات والقوى البشرية التي تعيش على هذه الأرض، تهدف إلى مساعدة الجانب الغربي بالذات و-الذي هو نظيرنا في الخلق- على إعادة ذلك التوازن المفقود في داخل بنيته الحضارية الحديثة حتى يتسنى لهذا الغرب -ولغيره من الحضارات- الفرصة المناسبة من أجل بناء الحياة المبدعة والخلاقة والهادفة، والتي تعود بالمنفعة والخير على الإنسانية كلها.
من هنا يأتي “تحدي الحوار” ليضعنا أمام السؤال التالي: كيف يمكن لنا أن نتحاور (نسيطر) مع وسائل هذه الحضارة الغربية، ونستوعبها حتى يكون لنا مكان إلى جانب الغرب، لا خاضعين له، ولا مسيطرين عليه، وإنما نعيش إلى جانبه، نحاوره، ونتعاون معه، وأن ننجح بالسيطرة على التكنولوجيا، وأن نكون فاعلين ومبدعين ومساهمين أيضاً في صنع وإنتاج هذه الحضارة. كشركاء غير متساوين في إطار أو بعد أو دائرة حضارية واحدة.
وبناء على ما تقدم فإننا – في العالم الإسلامي – إذا ما أردنا أن ندخل في حوار الدول والمجتمعات والحضارات بوعي وثقة ومسؤولية، فلا بد أن نعيد النظر في كثير من حساباتنا الثقافية والفكرية والسياسية التي تتصل بالمشروع الحضاري الإسلامي المعاصر، وضرورة إعادة بلورته وطرحه، وتحديد ملامحه – من جديد – بما يتناسبُ مع مستجدات الحياة، ومتغيراتها على مستوى التفاعل الحاسم مع قضايا العدالة، والحرية، والمساواة، وحقوق الإنسان، والتعددية السياسية، ومسائل البناء الحضاري الراسخ والمتين التي يمكن أن تسهم تقوية مجتمعاتنا من خلال ازدهارها الحقوقي والعلمي والتنموي. لأن التعايش يحتاج أيضاً للتمكين والقوة، تمكين الناس من حقوقها وتنميتها، وتقويتها بالعلم والمعرفة.