أول الكلام

بين رمالِ الوهم.. “من تحت الدّلف‏ إلى المزرابْ”

بقلم غسان عبد الله

لكني‏ لن أرحلَ أبداً.. أو أعزفَ لحناً لا تألفُهُ أذُنُ العشقِ في روحي الولهةِ بالسلامِ الذي لا بد سيجيئ ذات خطابْ.. لن أكتبَ حرفاً ‏من دفترِ الحزن المؤاخي دمعَ المساءاتِ بحبرِ القلبِ التالفِ وجمرةِ الأعصابْ.. أو أمشي‏ خلف جنون الأرقِ الرابضِ فوقَ حالماتِ الأهدابْ.

لا بد وأن‏ يشتعلَ الشعرُ على شفتيَّ‏ وأمضغَ ألسنةَ النيران‏ وأكتبَ ملحمةً حمراءَ‏ تعيدُ الماءَ لوجهِ الشعرِ‏ وتوقظُ من تركوا الأجفانْ.. تنامُ على قرعِ الأبوابِ‏.. وتستجدي‏ عين البوابْ.. فزمانُ الشعرِ‏ أراهُ اهتزَّ وحاصرني عهدٌ قد آمنَ بالتنويم‏ وألغى كل بحورِ الشعرِ‏ ليرسمَ من أثرِ الأمواجِ على الشطآن‏ رسوماً من وهمِ وسرابْ.. ما بين الحاضر والماضي‏ أُبعِدْتُ‏ وما أبصرتُ طريقاً ورجعتُ أمهَّدُ‏ دربَ خطايَ وأُبصرُ وجهاً من علقٍ يمتصُّ نقياتِ عظامي‏ وينمي‏ أجساد الأغراب‏. والروح‏ تنوح‏ على وعدٍ قد أُفرِدَ عنها‏ ورماها‏ في لحظة طيشٍ‏ تخلعُ عنه جدار الرونقِ‏ تتركه من دون جواب‏.

يدركني الوقتُ ولا أدري‏ أني ضيّعتُ‏ سحابةَ فصلٍ قمريٍّ‏ وأنا المشدوهُ أعاتِبُها‏ وتعاتِبُني‏ والغربةُ تفتحُ في قلبي‏ أبوابَ العزلةِ‏ يتبعني‏ حَزَنٌ ينسلُّ إلى قدري..‏ والشيءُ الكامنُ بين جوارحِ أفئدتي‏ تبعثُهُ الفتنةُ والأيامُ تبعثرنا‏ وهبوبُ العالم ينثرنا‏ لنكونَ‏ اللعبة والألعاب‏.‏

ما كنت‏ وما كانت لغتي‏ تتساءل أو تسأل عني‏.. وزمانُ الحبِّ غدا حلماً يتطاير‏ من بين الأحبابْ‏.. لزمانِ الاكتئابْ..‏ والدواءُ العجيبُ تناسل‏ في مجرى دمنا..‏ وتصدّر واجهة المحرابْ‏.. ليكونَ القاتلَ والمقتولَ‏.. يكون الشافي والمؤلمَ‏ متى شاءَ حزنُنا‏.. يتنامى على كاهلِ الأعمارِ وينسلَّ حثيثاً في رؤى الشبابْ.‏

لنوافذَ‏ ما عادت تُشرَعُ في ليلِ العاشقينَ‏ على الأنسِ الجليلِ والصبرِ والدعاءِ وفصلِ الخطابْ..‏ تتوحد كلُّ جهات الحزنِ‏ لجهةِ الروحِ فينا.. وتلاقينا عندَ المفارقِ لتأخُذَنا صوب مناراتها وتتركَنا على الأعتابْ.

لهذي النوافذِ أعددتُ العدةَ..‏ أكتبُ عن وجع الأيام‏ وأكتبُ عن‏ جريانِ الماءِ وأكتبُ عن لغةِ الأطيار..‏ أعلّقُ‏ بين مخالب هذا الجارحِ وجداً ورفيفَ قلبٍ.. وشعراً يتمددُ ما بين الأرجاء‏.. يجوب البحر‏ ويبسط أجنحة الطيرانِ‏ يلامس أفئدة الأحزانِ..‏ يرى في النور الخافت‏ عشق الأرضِ..‏ يواعدُها‏ بنواةِ البذرة‏ تثمر من بين الأصلابْ‏.

وتمرُّ الغابةُ.. والأشجارُ تعلّقُ أوراقَ الصفصافْ.. وظلُّ النخلةِ عند مصطبةِ الدارْ.. يؤوي الوحش‏ ويترك أفئدة الحملان بلا ظلٍّ‏ والشمسُ تلوّح‏ تنشرُ كلَّ أشعّتها‏ والأرضُ يزوّغها الدورانْ‏.. لسلام الخفقةِ والأشجانْ‏.. ودعاءُ الليلِ‏ ولستُ الآملَ منه سوى‏ خيطٍ من سنا الأئمةِ يُرخي سترَ الأنسِ على صدريَ المولَّهِ.. وغُفيلةٍ تَذهبُ بالألباب‏.

لا بد وأن‏ أتقاسمَ ألوان اليخضور‏ وأسرِّحَ في أعماقِ دمي‏ وأنامَ على سررِ الديباجِ‏ أعانقُ مراقدَ الشهداء‏ بفاتحةٍ‏ أتلوها غيباً ملءَ فمي‏ ويكونُ العالمُ مسكوناً‏ بنداءِ القلب‏ يسوقُ تظاهرةَ الخفقاتِ إلى روحٍ‏ ما عادَتْ تحمي‏ وقدَتها‏ أو تبني بيت عزيمتها..‏ أو تمسحُ حتى دمعةَ حزن‏ تتقاطرُ من عين الأحبابْ‏.

لا أعني أني قد أنقادُ لمأدُبةٍ.. أو أمشي خلف العاشقينَ‏ لجلب العشقِ‏ وفتحِ ملفاتِ وحسابْ‏.. فرداءُ الخوفِ عدا وجعاً والحزنُ القاهرُ والرجفاتُ‏ وكلُّ حبوبِ الأنسِ الكاذبِ‏ سيفٌ‏ شدٌ وثاق دمي‏ لأكون الجسر على درب‏ مقطوعٍ عن كل الأسبابْ.

أتخبّطُ بعد مرور الوقت بأسئلة‏ وأكفّر عن ذنبي بعذابْ‏.. وأخبئ رأسي بين رمال الوهمِ.. ألوذ بصمتٍ دَهَريٍّ.. أدعو لخلاصٍ‏.. لكنيّ‏ ضيّعت رجائي وندائي‏ ونفختُ على جمرة عشقي‏ بدموعٍ من عينِ وعدٍ يتماوجُ كي يبقى وعداً.. يجتذبُ الرغبةَ من ‏مُقَلِي ليكونَ ذراعاً من نارٍ‏ أو جذوةَ عشقٍ أبديٍّ‏ تتغذى من نارِ الغليانْ‏.. والعاشقُ فيَّ.. والآخرُ الذي يعيشُني.. يخرجُ من دمهِ‏ مفتوناً‏ يبحثُ عن حلٍّ‏ من تحت الدّلف‏ إلى المزرابْ‏.