البيئةُ ودور الإنسان في استنزافها مقاربة في الإجهاد البيئي البشري وسبل المعالجة
بقلم نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري
باتت أحاديث الطقس وتغيرات المناخ هي الشغل الشاغل للناس في منطقتنا، فالانحباس المطري الشامل وتغيرات المناخ مستمرة للأسف، وتستمر معها مخاوف الناس من الانعكاسات السلبية جداً لتلك الحالة الخطيرة على حياتها وأكلها ومعيشتها وأعمالها..!!.
نعم، مقلقةٌ جداً هي أخبارُ البيئة والطقس وأحواله وتقلباته الصعبة التي تمر بها المنطقة ليس اليوم بل منذ سنوات عديدة طويلة، حيث بدأ الجفافُ المائي بالذّات، يهدّدُ البشرَ والطبيعة والكائنات الحية عموماً.. فمعدلات تساقُط الأمطار تناقصت بشكل مرعب خصوصاً، وهذا الضعف الشديد في الوارد المائي يعني جفاف الأرض بينابيعها وتربتها، وقلة المحاصيل الزراعية، وعطش الإنسان، وغيرها من الآثار السلبية الكثيرة..
فهل نقول إننا وصلنا فعلاً إلى منطقة الخطر المائي، وحدوث التصحر المناخي البيئي..!!. من الواضح أن الإجابة هي نعم بحسب كثير من خبراء المناخ والبيئة.. في هذه العجالة سنحاول تحليل الموضوع من زوايا عدة..
تمثل البيئة الطبيعية الحيوية التي نعيش فيها، ونُعتبرُ جزءاً فاعلاً فيها، هذا الإطار الحياتي الشامل الذي يضم الكائنات جميعاً، من إنسان وحيوان ونبات، وما يحيط بها من عناصر الطبيعة الأساسية المعروفة الأخرى: كالهواء والماء والتربة والموارد الطبيعية.. وهي تتداخل مع بعضها بعضاً ضمن منظومة معقدة دقيقة التوازن والانسجام، وتحكمها قوانين ومعادلات دقيقة، بحيث أن أي خلل ولو بسيط في إحداها سيؤثر على النظام البيئي كله..
لقد خلقَ الله تعالى الحياة بما فيها بيئتنا التي نحيا فيها ونعيش، وأبدع في صنع كل مظاهرها ومعالمها، وجعلَ – في هذه الحياة، وفي قلب منظومة الوجود كله – مقومات البقاء ودوافع الاستمرارية. لكن على ما ظهر لاحقاً فقد باتت هذه النعمة الجليلة والعظيمة التي وفرها عز وجل للناس جميعاً، باتت تواجه – في عصرنا الحاضر – كثيراً من التحديات والهواجس الوجودية غير المسبوقة المهدِّدة لاستقرار النظام البيئي برمته، وهو النظام الحامل والمحتوي للوجود البشري والطبيعي ككل.. وهي تحديات أسهم الإنسان نفسه بشكل أساسي في ظهورها وتحوُّلها إلى عوامل معيقة لاستمرارية وجوده ومانعة لتطوره، وبقائه سليماً معافى في عيشه وحياته، كونه هو الوحيد المالك للتفكير والبناء الحياتي المعقد، والتصرف بأنانية وجشع.. حيث يمارس ويطبق كثيراً من السياسات والأعمال الخاطئة الضارة بالبيئة، والمستنزِفة لقدراتها ومواردها وخيراتها الهائلة، والمُخلِّة بأبسط معادلات وقوانين توازنها الحيوي الدقيق الذي خُلقت معها.
نعم، هناك دور بشري واضح وصريح في إجهاد البيئة واستنزاف مواردها.. فوعي الإنسان لذاته، في معرفته لدوره الوجودي، والغاية منه، هو أساس أي سلوك أو تصرف يقوم به، ويمارسه في حركة الحياة.. بمعنى أن رؤيته الحياتية والكونية، هي ما يحدد له وعيه ودوره وأنماطه السلوكية العملية على مستوى علاقات الذات والموضوع..
وللأسف، فقد طغى على أفعال الإنسان البيئية وعلاقته بمختلف مفردات الطبيعة، طابع الاستغلال والاستفادة المادية فقط، وهيمنت عليها علاقات المصلحة والنفعية الآنية البعيدة عن أي تفكير مستقبلي بعواقب الأمور ومآلاتها السلبية.. ولطالما رأينا في تلك الممارسات العملية للحيازة على الموارد والقبض على الثروات، كيف تعامل الإنسان مع البيئة على أساس أنها فقط مجرد موقع للاستنزاف، ومورد لا ينضب للمواد الخام، ومركب يمكن تجييره بلا حدود، وهذا السلوك المفجع جاء نتيجة هيمنة العقلية الاستهلاكية عليه، دون أي احتساب للنتائج والآثار والعواقب كما قلنا.. والتي تتمثل في الآتي:
- الاستنزاف الجائر المفرط للموارد الطبيعية:
يقومُ الاقتصاد العالمي بشكل أساسي على استخراج الموارد الطبيعية واستهلاكها بوتيرة تفوق قدرة الطبيعة على تجديدها. فمن إزالة الغابات التي تسمى “رئات الأرض” لتحويلها إلى أراض زراعية أو للاستفادة من أخشابها، إلى الصيد الجائر الذي يهدد العديد من الأحياء البحرية والبرية بالانقراض، إلى استنفاد المخزون المائي الجوفي بفعل الزراعة الكثيفة والاستخدام غير الرشيد، إلى الإصرار على استعمال الوقود الحجري في أعمال الصناعة المختلفة.. كل هذه الممارسات أسهمت بشكل كبير في تقويض رأس المال الطبيعي للأرض.. حيث انخفضت كميات الأمطار الهاطلة في كثير من البلدان حتى الساحلية منها، والتي كانت تشتهر حتى الأمس القريب بمعدلات أمطار سنوية عالية.. وتوسعت فيها مساحات التصحر، وجفت كثير من الينابيع… وووإلخ..
ومنطقتنا هنا بالذات بات التصحّر الزاحف هو الأكثر تهديداً للسكان والحياة.. فمع قلة الأمطار، تضعف الغطاءات النباتية، وتتآكل التربة، وتجف الينابيع والأنهار كما قلنا.. واليوم يمكن توصيف المشهد الذي نراه أمامنا، من خلال أن الأرض التي كانت تُوصف بـ “الخضراء” باتت مهددة بالعطش والجفاف.. وهذا بدوره يضرب القطاع الزراعي، عصب اقتصادنا وتراثنا، في مقتل. فالمحاصيل التقليدية من زيتون وكرمة وحبوب أصبحت تحتضر، والمزارعون – الذين هم سنديان الأرض – أصبحوا يئنّون تحت وطأة الخسائر وندرة المياه، ما يهدد الأمن الغذائي برمته..
والجدير ذكره هنا، أن التداعيات والآثار لم ولن تبقى واقفة أو قائمة فقط عند حدود البيئة والزراعة، بل هي امتدت وتمتد (وستمتد) لتشمل ندرة مياه الشرب والاستخدام المنزلي.. فالسدود تشحّ بمخزونها، والمياه الجوفية تنضب، وأصبحت “الفظاعة المائية” شبحاً يطارد مدننا وقرانا.. وهذا العوز في المياه يهدد الصحة العامة، ويزيد من الأعباء المعيشية على الأسر..
كما أن تغير المناخ يزيد من حدة الظواهر الجوية المتطرفة. فإذا أمطرت السماء، فغالباً ما تكون أمطاراً غزيرة وعنيفة (ومحددة في مساحات غير كبيرة) تسبب فيضانات مدمرة (خلايا ركامية مشبعة)، بدلاً من أن تكون أمطاراً هادئة نافعة عامة وواسعة وشاملة.. وهذا تناقض مؤلم يجسد اختلال النظام المناخي..
- شيوع التلوث بأشكاله العديدة:
يعد التلوث من أبرز نتائج النشاط الصناعي والزراعي والحضري للإنسان.. حيث أن انبعاثات الغازات (خاصة الكربونية) من المصانع والمعامل ووسائل النقل، تقوم بتلويث الهواء، وتتسبب في ظاهرة الاحتباس الحراري وتغير المناخ الطبيعي، وبالتالي زيادة معاناة المجتمعات البشرية في الحصول على حاجاتها من المياه والتمتع بحياة صحية سليمة.. كما أن إلقاء النفايات الصناعية والمبيدات ومياه الصرف الصحي غير المُعالجة في الأنهار والبحار والبحيرات، يسمم الحياة المائية، ويهدد صحة الإنسان أيضاً.. ولا ننسى التلوث البلاستيكي الذي غزا كل ركن من أركان الكوكب، من أعماق المحيطات إلى قمم الجبال..
- التوسع في العمران والتصنيع العشوائي:
أدى التوسع السريع للمدن والمناطق الصناعية -على حساب الأراضي الزراعية والمساحات الخضراء- إلى تدمير كثير من المجالات الطبيعية الحيوية والنظم البيئية الطبيعية، وفقدان التنوع البيئي والبيولوجي، وتشكيل “جزر حرارية” في المدن، مما أسهم بقوة في تفاقم مشكلة تغيّر المناخ.
طبعاً، كان لهذا التوسع غير المدروس أسباب، منها الهجرة، حيث أن ارتفاع عدد السكان والهجرة من الريف إلى المدن، أديا إلى زيادة الطلب على السكن والمساكن في المدن.. كما أن البحث عن فرص أفضل، دفع الناس للعمل والتعليم والخدمات الصحية في المدن، مما فاقم من الهجرات الجماعية.. وللتقدم التكنولوجي دوره أيضاً هنا، حيث أدى استخدام الآلات في الزراعة، إلى تقلص مساحات الأراضي الزراعية التي تم تحويلها إلى أغراض أخرى.
- النمو السكاني والاستهلاك غير المستدام:
يشكل النمو السكاني المتزايد ضغطاً هائلاً على موارد الأرض المحدودة. ويزيد من حدة المشكلة، التوسع في نمط الحياة الاستهلاكي السائد في العديد من المجتمعات حتى العربية منها، وهو نمط يقوم على “الثقافة الاستهلاكية”.. حيث لأن الفرد يشتري أكثر مما يحتاج، ويتخلص من المنتجات بسرعة، مما يولد كميات هائلة من النفايات، ويستنزف كثيراً من الطاقة والمواد الخام.
.. المعالجة وآليات المعالجة:
إن مواجهة هذا التحدي البيئي الخطير لا يمكن أن يكون عملاً فردياً تقوم به دولة لوحدها، بل لا بد من تضافر جهود ومسؤوليات كل الدول خاصة منها الصناعية المتقدمة.. وهذا ما يتطلب بدوره تحولاً جذرياً في نمط التفكير وأسلوب الحياة، من نهج استنزافي خطير وقاتل يقوم على هيمنة العقلية النفعية الاستهلاكية، إلى نهج تنموي علمي وعقلاني مسؤول مستدام قائم على الوعي بأهمية الحياة المتوازنة والهادفة، بما يحقق التوازن بين احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها.. ويمكن إجمال آليات المعالجة في المحاور التالية:
1- التحول إلى الطاقة النظيفة والمتجددة:
حيث يعد التخلي عن الوقود الأحفوري (الفحم، النفط، الغاز) – وهو المسبب الرئيسي للانبعاثات الكربونية – والتحول إلى مصادر الطاقة المتجددة (كالطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، والطاقة الكهرومائية، والهيدروجين الأخضر)، حجرَ الزاوية في معالجة أزمة المناخ بشكل أساسي وجوهري.. وهذا يتطلب القيام باستثمارات ضخمة في مجال البنى التحتية للطاقة النظيفة، وتشجيع الأبحاث والتطوير في هذا المجال.
2- ترشيد الاستهلاك واعتماد اقتصاد التدوير:
يجب تعزيز ثقافة “الاستهلاك الواعي” التي تقلل من الهدر، وتفضل المنتجات ذات الجودة العالية والديمومة الطويلة، وتقلل من استهلاك المواد البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد. كما أن تطبيق مفهوم “الاقتصاد الدائري” -الذي يعتمد على إعادة الاستخدام والتجديد والتدوير للمواد، بدلاً من النموذج الخطي التقليدي (خذ – اصنع -تخلص) – يسهم بشكل كبير في تقليل النفايات والحفاظ على الموارد.
3- الحفاظ على التنوع البيولوجي وزراعة المساحات الخضراء:
إن حماية الغابات القائمة، ومكافحة التصحر عبر زراعة المزيد من الأشجار (التشجير)، هو أمر بالغ الأهمية لامتصاص الكربون من الجو، والحفاظ على التوازن البيئي.. كما أن إنشاء المحميات الطبيعية، وحماية الأنواع المهددة بالانقراض، يساعد في الحفاظ على التنوع البيولوجي الذي يعد أساساً لصحة النظم البيئية.
4- تشريع القوانين ووضع السياسات البيئية الفاعلة:
يجب أن تلعب الحكومات دوراً محورياً ومركزياً في حماية البيئة، وذلك عبر سن وتطبيق تشريعات بيئية صارمة تحد من التلوث، وتفرض ضرائب على الأنشطة الملوثة، وتشجع الممارسات الصديقة للبيئة عبر الحوافز. كما أن الوفاء بالاتفاقيات الدولية الخاصة بالمناخ يعد خطوة ضرورية للتكامل العالمي في مواجهة هذه الأزمة الكبيرة التي ما زال الشعور بوطأتها وخطورتها منخفضاً لدى كثير من نخب السياسة العربية والعالمية.
وأما على صعيد موضوع ندرة المياه بالذات، فيجب وضع سياسات مائية مستدامة، والاستثمار في مشاريع جمع مياه الأمطار، وتحلية مياه البحر حيث أمكن، وتبني تقنيات الري الحديثة لتقليل الهدر.. كما يجب حماية الغابات، وإطلاق حملات تشجير واسعة، والتحول نحو الطاقة النظيفة لتقليل الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري..
5- التعليم والتوعية وتمكين المجتمع:
لا يمكن تحقيق أي تقدم حقيقي دون توعية الأفراد والمجتمعات بأهمية البيئة، وخطورة الوضع الحالي. حيث يجب إدماج التربية البيئية في المناهج الدراسية منذ الصغر، ونشر الوعي عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، وتشجيع المبادرات المجتمعية المحلية لحماية البيئة. فالتغيير يبدأ بالفرد، ومن مجموع الأفراد تتشكل إرادة التغيير الجماعية.
وبشكل أكثر تفصيلاً، نقول: يتعين على المجتمعات المحلية إحياء تقنيات ترشيد المياه القديمة (كالحصاد المائي)، والعمل على زيادة الوعي البيئي، وزراعة الحدائق المنزلية بأنواع تتحمل الجفاف.
إن البيئة – وضرورة الحفاظ على توازنها – أمانة في أعناقنا جميعاً، بل هي مسؤولية كبيرة سنحاسب عليها.. فقد استخلفنا الله تعالى فيها وسخرها لنا بكل ما فيها من مقومات وجود، وعلينا أن نتعامل معها بروح المسؤولية والرقابة، لا بمنطق التسلط والاستغلال الجائر..
إن معالجة الاستنزاف البيئي ليس حالة ترف، بل هي ضرورة حتمية يجب التصدي لها، من أجل ضمان مستقبل آمن للأجيال القادمة..
إنها رحلة تتطلب تعاوناً عالمياً وجهداً فردياً جماعياً، تقودنا إلى مصالحة حقيقية مع الطبيعة، نعيد فيها اكتشاف أننا جزء لا يتجزأ من هذا النسيج الطبيعي المعقد، ولسنا أسياداً عليه، نتعامل معه بفوقية ونفعية وعقلية استهلاكية..
فالبيئة السليمة هي ركيزة أساسية للصحة والاقتصاد والاستقرار والسلامة المجتمعية، وحمايتها ليست حماية للأشجار والحيوانات فحسب، بل هي في جوهرها حماية لوجودنا الإنساني نفسه في كل حركة الوجود.
