بوتين في كوريا الشمالية.. شراكة استراتيجية في مواجهة التحديات المشتركة
بقلم: ابتسام الشامي
قبل وصوله إليها، كانت جسور التعاون بين موسكو وبيونغ يانغ الممتدة أصلاً منذ أربعينيات القرن الماضي قد تعززت، مدفوعة بثقل العداء الأمريكي للبلدين. عداء مصحوب بكتلة هائلة ومعقدة من الضغوط، سرّع وتيرة التقارب، لتكون زيارة فلاديمير بوتين إلى كوريا الشمالية تتويجاً لمسار من تقاطع المصالح ارتقى صعوداً إلى مرتبة التعاون الاستراتيجي.
هكذا تطورت العلاقات
لم تكن زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى كوريا الشمالية من خارج التوقعات، لكن توقيتها السياسي وما رشح من نتائجها، منحها صفة الاستثنائية ربطاً بالتحولات الحاصلة على الساحة الدولية وحاجة الدول التي تناصبها الولايات المتحدة الأمريكية العداء، إلى التعاون والتكتل في مواجهة نتائج العداء وتداعياته السياسية والاقتصادية وحتى العسكرية. بهذا المعنى فإن الزيارة التي جاءت بعد تسعة أشهر على استقبال بوتين الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون في الشرق الروسي، تكتسب أهمية خاصة، زاد من خصوصيتها توقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية المتعددة الأبعاد، والتي تنطوي على حسم التموضع السياسي لروسيا في مقاربة “المسألة الكورية” وما يكتنفها من تعقيدات على الساحة الدولية. علماً أن استحضار التاريخ المشترك للعلاقات بين البلدين والتي تعود إلى نشأة كوريا الشمالية عام 1948 وارتباطها المباشر بالاتحاد السوفياتي آنذاك، يبقى على أهميته، قاصراً عن تفسير النقلة النوعية في مستوى العلاقات ما لم يكن هذا التفسير مرتبطاً بتطور الأحداث الدولية وتحولاتها، وحاجة كل منهما إلى الآخر في ظل المواجهة الآخذة في الاتساع مع الغرب. وهذا ما يؤكده مسار علاقات البلدين الذي تعرج تقدماً وانحساراً ربطاً بالظروف السياسية الدولية. ففي وقت أعاد فيه بوتين إحياء العلاقات مع وصوله إلى الكرملين عام 2000 في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي، فإن بلاده وبصفتها عضواً دائماً في مجلس الأمن الدولي أيدت العقوبات المفروضة على كوريا الشمالية بسبب تطويرها برنامجها النووي. لكن وصول كيم جونغ أون إلى السلطة في بيونغ يانغ خلفاً لوالده “كيم جونغ” العام 2011، وما رافق تلك الحقبة وتلاها من تحديات لروسيا في بيئتها الإقليمية وعلاقاتها الدولية، أطلق من جديد مسار تعزيز العلاقات، وهو ما عبر عن نفسه، بإلغاء روسيا معظم ديون حليفتها عام 2012، قبل أن يستقبل بوتين في مدينة فلاديفوستوك عام 2019، نظيره كيم جونغ أون، في مشهد تكرر في أيلول من العام الماضي، بعدما وثق البلدان علاقاتهما بشكل كبير منذ اندلاع الروسي الأطلسي في أوكرانيا في شباط من عام 2022.
الشراكة الاستراتيجية
زيارة الرئيس الروسي إلى كوريا الشمالية بعد نحو ربع قرن من زيارته الأولى إليها، استبقها بمقالة نشرها الإعلام الحكومي للبلد المضيف، حرص فيها بوتين على توضيح أهداف الزيارة وأبعادها. وبعدما أثنى على دعم بيونغ يانغ لمجهود موسكو الحربي في أوكرانيا، أكد أن “البلدين يعملان على توسيع تبادلهما القائم على المساواة”. مشيداً بما تقوم به كوريا الشمالية لناحية “دفاعها عن مصالح البلدين بشكل فعال على الرغم من الضغوط الاقتصادية والاستفزازات والابتزاز والتهديدات العسكرية الأمريكية المستمرة منذ عقود”. وإذ تعهّد الرئيس الروسي بزيادة التعاون مع بيونغ يانغ لـ “التغلب على العقوبات التي تقودها الولايات المتحدة” من خلال “تطوير أنظمة تجارة ودفع غير محددة، تكون خارج سيطرة الغرب”، أعرب عن معارضته العقوبات التي تفرضها الدول الغربية على سائر الدول، باعتبارها “إجراءات تقييدية أحادية الجانب وغير قانونية”، وتعكس طموحات الغرب في “منع إقامة نظام عالمي متعدد الأقطاب يقوم على الاحترام المتبادل”.
وترجمة لكلام بوتين عن توسيع التبادل القائم بين البلدين، جاء توقيع الزعيمين اتفاقية “الشراكة الاستراتيجية الشاملة” والتي تشمل بنداً حول الدفاع المشترك، وتنص أيضاً على مساعدة البلدين بعضهما بعضاً في صد أي عدوان خارجي. ووفقاً للرئيس الروسي فإن “اتفاقية الشراكة الشاملة الموقعة تنص، من بين أمور أخرى، على المساعدة المتبادلة في حالة تعرض أحد طرفي الاتفاقية لعدوان”. ولم يستبعد بوتين “تعاوناً عسكرياً فنياً” مع بيونغ يانغ مثل دول الغرب.
بدوره لفت الزعيم الكوري الشمالي إلى أن علاقات بلاده مع روسيا “تدخل طور ازدهار جديد وكبير لا يمكن مقارنته حتى بمرحلة العلاقات السوفياتية الكورية في القرن الماضي”. وقال كيم جونغ أون إن “حكومة جمهورية كوريا الشعبية الديموقراطية تقدر المهمة الهامة والدور الذي تلعبه روسيا قوية في الحفاظ على الاستقرار والتوازن في العالم”، مؤكداً “الدعم الكامل” للعملية العسكرية التي أطلقتها روسيا في أوكرانيا في شباط عام 2022. وأشار إلى أن بلاده “ستعمل على تعزيز اتصالاتها الاستراتيجية مع روسيا والسلطات الروسية” في مواجهة الوضع “الذي يزداد تعقيداً” في العالم.
أهمية الزيارة
أهمية زيارة بوتين إلى كوريا الشمالية تكمن في كونها جاءت لتعزز اتجاهاً في السياسية الخارجية الروسية منسجماً مع التحديات التي تواجهها ومصدر هذه التحديات لاسيما في ضوء الحرب الأوكرانية، وهي بهذا المعنى، أثارت قلق الدوائر الغربية المعنية، التي تتهم بيونغ يانغ بتزويد روسيا بكميات كبيرة من الذخائر من مخزونها الهائل. وقبيل الزيارة بأيام قليلة، اتهم البنتاغون موسكو باستخدام صواريخ بالستية كورية شمالية في أوكرانيا. وفي السياق، أعرب البيت الأبيض عن قلق واشنطن إزاء العلاقات التي تزداد ارتباطاً بين روسيا وكوريا الشمالية، وقال منسق الاتصالات الاستراتيجية بمجلس الأمن القومي الأمريكي جون كيربي “لسنا قلقين بشأن زيارة بوتين، ما يقلقنا هو تعمق العلاقات بين هذين البلدين”. واعتبر كيربي أن القلق لا يقتصر فحسب على “الصواريخ الباليستية الكورية الشمالية التي تستخدم في ضرب أهداف أوكرانية، بل أيضاً لأنه قد يحصل تبادل من شأنه أن يؤثر في أمن شبه الجزيرة الكورية”.
واشنطن قلقة
القلق المعبر عنه سياسياً في الولايات المتحدة الأمريكية كان الحاضر الأكبر في تحليلات الخبراء الغربيين وكذلك المحللين السياسيين للزيارة التي من شأنها وفق التحليلات المنشورة، تعزيز التعاون العسكري بين الجانبين وما قد ينتج عن ذلك من تداعيات. وفي هذا الإطار، نشرت وكالة “بلومبرغ” تقريراً جاء فيه أن المزيد من عمليات نقل الأسلحة الكورية الشمالية إلى روسيا سيزيد من حاجة أوكرانيا إلى المساعدة العسكرية الأمريكية والأوروبية، كما أن المساعدات التي قد يتلقاها كيم من روسيا، ستسهل عليه الاستمرار في تجاهل الطلبات الأمريكية للجلوس لإجراء محادثات نزع السلاح النووي.
وفي سياق متصل، رأت المحللة الأولى السابقة في وكالة الاستخبارات الأمريكية “سو مي تيري”، في مقابلة مع شبكة CNN أن المعاهدة الجديدة الموقعة بين موسكو وبيونغ يانغ مهمة، وكذلك التحالف العسكري المزدهر بين الجانبين، لأنه يدل برأيها على أن بوتين “يائس للغاية، وقد تخلى الآن عن كل الآمال أو أي نوع من الأمل للانضمام إلى الغرب ويريد أن يبذل قصارى جهده للتأكد من انهيار النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة..” مضيفة “أنه تطور مقلق للغاية.. لقد أرسل الكوريون الشماليون ذخائر وقذائف مدفعية ومعدات عسكرية أخرى إلى المجهود الحربي الروسي في أوكرانيا. لدينا حوالي 10.000 حاوية من المعدات التي أرسلها الكوريون الشماليون إلى روسيا. لكن السؤال الرئيسي كان دائماً، ما هو الثمن؟ ما مدى استعداد بوتين، فيما يتعلق بمساعدة كوريا الشمالية؟ ما الذي كان سيقدمه لمساعدة كوريا الشمالية بالتقنيات العسكرية الحساسة التي ستساعد برنامج أسلحة الدمار الشامل في كوريا الشمالية؟”. وقالت الخبيرة الأمنية “الآن، مع هذا البند الأمني، من المقلق للغاية أن العلاقة بينهما لم تعد مجرد زواج، من أجل الراحة إلى حد ما حيث يعتمد بوتين فحسب على بعض المعدات القادمة إلى أوكرانيا. والآن، أصبح (التحالف) مصدر قلق أكبر فيما يتعلق بمدى قدرة روسيا على مساعدة كوريا الشمالية في برنامج أسلحة الدمار الشامل في كوريا الشمالية”.
خاتمة
تنقل زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى كوريا الشمالية علاقات البلدين إلى مستوى جديد من توثيق الشراكة وتعزيز التعاون في أوجهه المختلفة لاسيما العسكرية منها، وعلى الرغم من أن السياسات الأمريكية هي ما أوصلت البلدين إلى هذا المستوى من التقارب، تقرأ الدوائر الغربية المعادية في ما يجري تطوراً بالغ الخطورة، من شأنه أن يخلق بؤر توتر جديدة قابلة للانفجار.