إقليميات

التطبيع بين تركيا وسوريا في إقليم الشرق الأوسط المضطرب

بقلم توفيق المديني

ومنذ تفجر الإمبراطورية العثمانية، عقب نهاية الحرب العالمية الأولى، وتقسيم العالم العربي وفق اتفاقية سايكس بيكو، بين الإمبراطورتين الاستعماريتين البريطانية والفرنسية في عام 1916، ثمة تطلعات جديدة، كانت محبوسة أو غير معبّر عنها برزت، منفذة في تجسيد مشروعات سياسية متعلقة بأقليات مخصوصة.

وها هي النزعة الانضمامية الكردية تنهض من رمادها لأدنى إشارة ضعف في السلطات المركزية (إيران، عراق، تركيا، سوريا). والمشروع القومي الكردي يسترد اليوم نشاطه، وهو لا يهدد تمامية الدول العربية فحسب، بل إنه يهدد الوحدة البنيوية لتركيا ايضا. لكن هذه التربة الشرق أوسطية المنفسخة بعمق وفقاً لأصول قوى عرقية ودينية تتضح بأنها ليست بعيدة جداً عن “البلقنة”، أعني عن التفتت إلى دول أحادية الطائفة، يرتقبها بعض المتنبئون.

وهناك المخطط الأمريكي – الصهيوني في إقليم الشرق الأوسط، والذي يريد استبدال العراق بـثلاث دول صغيرة:(كردية) بالشمال و(سنية) بالوسط و(شيعية) بالجنوب، لا سيما أنَّ تقسيم العراق هو حلم إسرائيلي قديم … ففي عام 1982م.. كتب (اوديد اينون) المسؤول في وزارة الخارجية الإسرائيلية ….” إن تفكيك العراق هو بالنسبة لنا أهم من سوريا لأن العراق حالياً (1982) هو القوة التي تهدد “إسرائيل” … إن حرب إيران والعراق ستمزق العراق وستؤدي إلى سقوطه وهذا ما يساعدنا على تقطيعه لقطع صغيرة.

يشكل إنشاء فيدرالية كردية في شمال العراق تهديداً خطيراً لأمن تركيا القومي، نظراً لتأثيراته المباشرة على المسألة الكردية في تركيا ووحدة أراضيها. وفي ظل هذا الخطر الوجودي الذي استحدثته واشنطن من خلال دعمها لحزب العمال الكردستاني الموجود عسكرياً بقوة في شمالي العراق وسوريا، الآن، كان من الطبيعي أن تجد تركيا في إيران والعراق حليفين طبيعيين لمواجهة الخطر الكردي، وفي بحث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن التطبيع مع الرئيس السوري بشار الأسد لمواجهة مخطط أمريكا و”إسرائيل” الذي يستهدف قيام كيان انفصالي كردي في الشمال الشرقي لسوريا.

وها نحن نرى أنَّ نموذجية عمل هذه الأقلية الكردية في الأمم الثلاث، تنتهي إلى ثلاثة أنماط نوعية من المشاكل: مشكلة وجود وبقاء الدولة الشرق أوسطية، مشكلة شرعية واستقرار السلطة السياسية، ومشكلة ديناميكية الثقافة السياسية.

البعد الكردي كدافع للتطبيع بين أردوغان والأسد

يعيش الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، هاجساً كبيراً قديماً – جديداً، ألا وهو وجود حزب العمّال الكردستاني في شمال العراق، وانتخابات المجالس المحلّية، التي تعتزم وحدات حماية الشعب الكردية إجراءها في “الإدارة الذاتية” التابعة لها في شمال سوريا، في الشهر المقبل (أغسطس/ آب). ومن المعروف أنَّ تركيا تريد تفاهماً أمنياً وعسكرياً وآلية مشتركة مع الدولة السورية، لا سيما أنَّ مصالحهما تتلاقى على القوى المدعومة من قبل واشنطن، وهي “قوات سورية الديمقراطية”، و”وحدات الحماية الكردية””، المرتبطين عضوياً وإيديولوجياً وعسكرياً بحزب العمال الكردستاني (PKK) المصنف من قبل تركيا منظمة إرهابية، ويسعى إلى إنشاء دولة كردية ذات طابع قومي في كل جنوب تركيا، وتشمل أيضاً شمال سورية والعراق وإيران. لهذا يسعى أردوغان من خلال التطبيع مع الرئيس السوري بشار الأسد وَأْدِ المشروع الانفصالي الكردي في الشمال الشرقي لسوريا.

فقد أجبرتْ سياسات المليشيات “وحدات الحماية الكردية” الانتقامية والعنصرية قسماً كبيراً من السكان العرب تحديداً على النزوح، من خلال تجريف قرى عربية بأكملها في أرياف مدينة الحسكة، فضلاً عن أعمال الخطف والتجنيد الإجباري بحق الشباب، الأمر الذي ساعدها على الادّعاء بأنَّ غالبية سكان تلك المنطقة هم من القومية الكردية، علماً بأنَّ الواقع على الأرض ينفي تلك الادعاءات. ومن هنا، فإنَّ عودة اللاجئين والسكان الأصليين إلى المناطق التي تسيطر عليها “قسد”، سيقطع الطريق على مخططها الانفصالي. وفضلاً عن ذلك، فإنَّ بقاء “قسد” في “المنطقة الآمنة” أو منحها أي دور-مهما كانت طبيعته- يحول دون عودة اللاجئين، وخصوصا أنَّ الثقة مفقودة بهذه المليشيات التي ارتكبت جرائم مروعة بحق السكان.

يسعى الرئيس أردوغان من خلال التطبيع مع الرئيس الأسد توسيع هامش استراتيجيته الجديدة في محاربة حزب العمال الكردستاني من خلال إشراك بغداد ودمشق في هذه الاستراتيجية، وإعادة اللاجئين السوريين وتوطينهم في “المنطقة الآمنة” على طول الحدود مع سوريا، لكي يشكلوا شريطاً عازلاً يخدم مصلحة الأمن القومي التركي. وقد ساهمت قطر والكويت في تمويل أجزاء من مشروع أردوغان.

وبالمقابل يريد الرئيس بشار الأسد استثمار الهاجس التركي من مشروع الوحدات الكردية من أجل دفع أنقرة إلى إظهار التزام صريح بسحب قواتها من شمال سوريا، حيث يمتد التواجد العسكري التركي في الشمال السوري (من غرب نهر الفرات، بدءاً من ريف اللاذقية الشمالي، إلى منطقة جرابلس على ضفاف الفرات الغربية، وشرقي البلاد، وشرق نهر الفرات( تل أبيض في ريف الرقة الشمالي، ورأس العين في ريف الحسكة الشمالي الغربي)، حيث أقامت الحكومة التركية خلال الأعوام الماضية العديد من القواعد العسكرية داخل الأراضي السورية، لعل أبرزها قاعدة “الشيخ عقيل” في ريف الباب شمال حلب، وقاعدة “مطار تفتناز” و “المسطومة” في ريف إدلب، وممارسة نفوذها على المعارضة السورية لإجبارها على الانخراط في “مصالحة” معه بديلاً من مشروع التسوية السياسية للصراع، فضلاً عن الحصول على مكاسب فورية، على غرار عودة سيطرة الدولة السورية في المعابر الحدودية وفتح الطريق الدولي “M4″، الذي يربط بين مُحافظتي حلب واللاذقية. وتعتبر سوريا أنَّ التواجد العسكري التركي في الشمال السوري، احتلالاً لأراضيها، بينما تؤكد أنقرة أنه لدرء المخاوف على الأمن القومي .

وفيما  تُصِّرُ دمشق على أنَّ تطبيع العلاقات مع أنقرة شرطه هو الانسحاب التركي الكامل من الشمال السوري، والقضاء على التنظيمات الإرهابية في إدلب، في إشارة إلى “هيئة تحرير الشام” التي تسيطر مع فصائل معارضة أخرى على نحو نصف مساحة محافظة إدلب (شمال غرب) ومحيطها، لا تزال تركيا تحتل الشمال الغربي لسوريا، لا سيما في محافظة إدلب، وتدعم الحركات الإرهابية هناك، التي تمارس النهب والتعدّي على حريات المواطنين وأملاكهم وأرزاقهم، ناهيك عن أنَّ مشروع أردوغان الحقيقي يكمن في إنشاء “المنطقة الآمنة” على طول الحدود التركية السورية، عبر فرض واقعٍ سكانيٍّ وسياسيٍّ متفجّر، من خلال تطبيق استراتيجية الحصار للانفصاليين الأكراد عبر تغيير التركيبة السكانية بالعرب، الأمر الذي سيبقي المنطقة في حالة صراع مفتوح وعرضة للاهتزاز وعدم الاستقرار.

البعد الاقتصادي للتطبيع

في ضوء توجه الرئيس التركي أردوغان للمصالحات الإقليمية وتصفير المشاكل مع دول الجوار منذ صيف 2020، حيث نجح بصورة كلية أو جزئية في استعادة العلاقات الطبيعية مع كل من الإمارات، والسعودية، وإسرائيل، وأرمينيا، ومصر، لا يستبعد المراقبون من عقد لقاء قمة بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والسوري بشار الأسد، للاتفاق حول تسوية تاريخية تتعلق بالانسحاب التركي من شمال سوريا وتسليم المنطقة تدريجياً للحكومة السورية وإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، وتحديث اتفاق أضنة المبرم بين البلدين في عام 1998.

هل الدول الخليجية مستعدة لإنشاء مشروع مارشال عربي؟

بعد مرور ثلاثة عشر عاماً من اندلاع “انتفاضات الربيع العربي”، وما انْجرَّ عنها من حروب أهلية في كل من سوريا وليبيا واليمن، أصبحت هذه البلدان تحتاج إلى خريطة طريق جديدة لإعادة الإعمار لما دمرته الحرب في البلدان الثلاثة، لاسيما سوريا.

على الرغم من أنَّ الدول العربية، لا سيما الخليجية منها تحرز تقدماً كبيراً في عملية التطبيع مع سوريا، فإنَّ الولايات المتحدة الأمريكية تحذرها من الانخراط في إعادة الإعمار، حتى لا تتعرض بشكل شبه مؤكد للتصنيفات والانتهاكات الأخرى للعقوبات من قبل وزارة الخزانة الأمريكية، ما لم تحدث تغييرات كبيرة في الطريقة التي يحكم بها الأسد سوريا ويدير شؤونها، “على الأسد أن يهيئ الظروف لعودة السوريين إلى ديارهم دون خوف من التجنيد أو الاحتجاز أو الاختفاء. وعلى الأسد أن يمضي قدماً في عملية “قرار مجلس الأمن رقم 2254″، والذي يشمل، على سبيل المثال لا الحصر، التحرك في موضوع “اللجنة الدستورية”، حسب الموقف الرسمي لواشنطن.

يمكن لصناديق الثروة السيادية في دول الخليج أن تفعل كل هذا لأنَّ لديها الآن القدرة على إدارة الاستثمارات في الدول العربية وفق استراتيجية خدمة المصالح العربية، وبالشروط التي تحددها، من أجل بناء تكتل اقتصادي عربي سياسة قادر أن ينتزع حصته من السوق الرأسمالية العالمية، وهذا ما يخيف أمريكا والدول الأوروبية التي بدأت تشعر بالقلق من إمكانية استخدامه أموال الصناديق السيادية  الخليجية لمتابعة أجندات سياسية، تخدم مصالح تحرر العرب من براثن الفقر والعوز الاقتصادي، وتحقيق التقدم الصناعي والتكنولوجي والزراعي، وتحقيق الأمن الغذائي العربي.

فهناك انقسام واضح داخل العالم العربي بين دول خليجية عربية غنية بمواردها النفطية والغازية وقليلة السكان، ودول عربية أخرى فقيرة بالموارد الطبيعية، وتحتاج اقتصاداتها إلى ضخ استثمارات مالية كبيرة لتحقيق مشاريع تنموية مستقلة.

 خلال السنتين الأخيرتين تدفقت السيولة النقدية الضخمة على الصناديق السيادية الخليجية جراء قفزات أسعار النفط والغاز عقب اندلاع حرب أوكرانيا، فتراكمت الفوائض المالية لديها لتتجاوز 3 تريليونات دولار، فضلاً عن احتياطيات أخرى بالنقد الأجنبي تتجاوز 650مليارات من الدولارات.

لكنَّ الدول الخليجية ضخت مئات المليارات من الاستثمارات في شرايين قطاعات وأنشطة الاقتصاد الرأسمالي العالمي، وحظيت الولايات المتحدة وبريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي بنصيب الأسد من هذه الاستثمارات. فبلغت إجمالي الاستثمارات السعودية في الولايات المتحدة نحو 800 مليار دولار، والكويتية 400 مليار، والقطرية 60 ملياراً، والإمارتية 45 ملياراً. ومؤخراً، قدمت الدول الخليجية لتركيا استثمارات بنحو 100 مليار دولار، عقب جولة أردوغان في معظم الدول الخليجية، العام الماضي.

وعلى الرغم من أنَّ الاستثمارات العربية الضخمة قادرة أن تجعل من الدول العربية الغنية في موقع القيادة للاقتصاد العالمي، فإنَّنا نجد عزوفاً كبيراً من جانب الدول الخليجية للاستثمار في الدول العربية الفقيرة.

الجواب واضحٌ، ترفض الدول الخليجية الغنية الاستثمار في الدول العربية، لأنَّها تريد إنقاذ النظام الرأسمالي العالمي الليبرالي الأمريكي المتوحش من السقوط، وإبقاء الشعوب العربية في حال تخلفٍ وفقرٍ وبطالةٍ وغارقةٍ في العشوائيات والغلاء حتى يسهل السيطرة عليها سياسياً وأمنياً.

خاتمة

إذا كان التطبيع بين تركيا وسوريا، ينظر إليه أمريكياً، بأنَّه يشكل ميزة مهمة في تعزيز شرعية النظام السوري، وإعادة تأهيله إقليمياً ودولياً، لا سيّما أنّ الدولة التي تسعى للتطبيع معه هي تركيا لتي لا تزال تدعم المعارضة، فإِنَّ الإدارة الأمريكية الحالية لا تريد تحقيق أي تقدم في عملية تطبيع العلاقات بين تركيا وسوريا، لأنَّ هذا يتعارض مع الخطط المستقبلية للولايات المتحدة الأمريكية فيما يتعلق بشمال شرق سوريا. وبالنسبة لتركيا فإنّ التطبيع مع سوريا سيكون محدوداً، قبل تحقيق أهدافها العريضة الثلاثة، المتمثّلة في معالجة هواجسها من مشروع الحكم الذاتي للوحدات الكردية من خلال هدف تقويض الحالة الكردية المُسلّحة، وإعادة اللاجئين السوريين، وتحقيق الحلّ السياسي للصراع.

كما إن التطبيع بين سوريا والدول العربية، وضخِّ الدول الخليجية اموالاً كبيرة في خزائن الدولة السورية، يحتاج إلى تلبية الشروط السياسية العربية، ومنها أن تكون الحكومة السورية التي ستتلقى هذه الأموال منتخبة وممثلة لمصالح شعبها، ورشيدة، وتوصي بالثقة لدى شعبها، وقادرة على محاربة الفساد الذي أصبح آفة عربية يأكل الأخضر واليابس في معظم الدول العربية.

فحين نعرف أنَّ رئيس اليمن السابق نَهَبَ – حسب الامم المتحدة – أكثر من ثلاثين مليار دولار من أفقر بلد، ومن أتعس شعب.. فإنَّ طرح مشروع مارشال عربي، يجب أن يخضع للشروط الآنفة الذكر.