عاشوراء.. تراجيديا إلهية لملحمة تاريخية
بقلم غسان عبد الله
مهما تفنن أدباء الملاحم التاريخية في إضفاء الكمال على شخصياتهم فإنه ستظهر بعض الثغرات في أعمالهم، لكن ثورة الإمام الحسين عليه السلام كانت قصتها محبوكة بشكل غير طبيعي بحيث نرى امتزاجاً عجيباً ما بين الفعل الإنساني والتقدير الغيبي والأهداف العليا من هذه التراجيديا السماوية، فعناصر القوة في القصة الحسينية لا شبيه لها ولا يمكن أن تحدث في سياق الإرادة البشرية فحسب.
فالصورة التي يقدمها العباس عليه السلام للبطولة لا تستطيع حتى قصص الأساطير أن تصورها، فأقصى ما يستطيع كاتب الأسطورة أن يفعله هو أن يسمح للعباس عليه السلام بإيصال القربة إلى مخيم العطاشى لأن هذه اللحظة هي التي ينتظرها القارئ وسيصفق لها من أعماق قلبه لأن البطل حقق هدفه من خلال إيصال الماء للأطفال لكن المراد من العباس في القصة الإلهية أن لا يقتصر تأثير دوره على مستوى تلك الساعة التي حاول من خلالها جلب الماء بل يتوجب عليه أن يلعب دور البطولة في التراجيديا الإلهية على امتداد عشرات الأعوام بل على مستوى قرون، ولكي يحدث ذلك ستصاب القربة بالسهام وستشرب الأرض الماء وسيتذوق أطفال الحسين عليه السلام ألم العطش، ويقتل العباس عليه السلام هناك؛ في تلك البقعة المباركة لكي يبقى ذكره في الخالدين.
ستصبح قصة العباس عليه السلام خالدة على ألسنة الناس وفريدة لأنه لا أحد من العالمين يستطيع أن يأتي بمثلها وهكذا تكتمل المعالم الأساسية للقصة الإلهية، فلو كان العباس عليه السلام قد أوصل المياه إلى مخيم الحسين عليه السلام، وهذه نتيجة معقولة ومقبولة من ناحية شخصية البطل التي نعرفها بأفلام المغامرات والروايات أنها هي التي تنقذ الموقف في آخر لحظة من الفيلم، لكن هذه المرة لم يتمكن البطل من صنع الخاتمة المسلية للمشاهد وهو إيصال المياه للأطفال والنساء.. لماذا؟!.
لأن جميع أفراد هذه القصة هم أبطال في صنع القصة الإلهية وهذه القصة تقتضي بأن يعاني معسكر الإمام الحسين عليه السلام من العطش إلى آخر لحظة من المعركة، فلو تمكن العباس عليه السلام من إيصال الماء وارتوى منه معسكر الإمام الحسين عندها سينخفض مستوى تأثير القصة الإلهية على الأجيال القادمة، بينما المطلوب هو إحداث هزة في العقل البشري على مدى آلاف الأعوام ولا يمكن أن تحدث هذه الهزة إلا بقصة مأساوية بهذا الحجم الهائل!.
يجب أن تكون القصة مأساوية حتى تصل رسالتها الربانية إلى كل بقاع العالم والى كل الشعوب والملل وتصل إلى أتباع كل الديانات، يجب أن تكون القصة مأساوية حتى نعرف كيف نحافظ على أئمتنا(ع) ونتمسك بهم وندافع عنهم، يجب أن تكون القصة مأساوية حتى يستيقظ المسلمون من نوم غفلتهم ولا يدعون أمورهم للطغاة يتحكمون بها ولا يسمحون للظالمين أن ينتزعوا كرامتهم، يجب أن تصبح القصة مأساوية حتى لا يتوانى العلماء عن مقارعة الطغاة والمستكبرين لأنهم لو فعلوا ذلك فسيستشهد الحسين مرة ثانية وثالثة ورابعة.
الشخص الذي سيلعب دور البطولة في التراجيديا الإلهية ويجب أن يعاني ويتحمل ألوان العذاب في سبيل البشرية هو رجل غير عادي إنه حفيد نبي هذه الأمة وعلى صدره الأوسمة الكبرى ومن أوسمته أنه كان واحداً من الذين فاخر الله بهم وباهلهم بنصارى نجران وهو يحمل معه وسام المشاركة في أصحاب الكساء الذين أذهب الله عنهم الرجس، ليس هذا فقط بل هو وصي رسول الله(ص) وهو بالإضافة إلى ذلك ابن فاطمة وعلي عليهما السلام، رجل بهذا القدر والعظمة سوف يضحي الله عز وجل به ليصبح مرملاً بالدماء مقطع الأعضاء لغاية كبرى.. وهي هداية البشر إلى طريق الحق وإخراجهم من ظلمة الضلالة.
نحن بحاجة إلى قصة محبوكة بشكل كبير حيث لا مجال للخطأ أو الضعف في أحداثها أو من جهة أبطالها، حتى الأطفال يجب أن يلعبوا أدوارهم بشكل عظيم لكي تكتمل القصة وتؤدي دورها بشكل متناسق ومؤثر إلى أبعد الحدود، فالطفل عبد الله الرضيع وهو أصغر أفراد أسرة الحسين الشهيد عليه السلام، فقد اخذ هذا الطفل أهم دور للبطولة في التراجيديا الإلهية. حيث خرج الإمام الحسين راجلاً يحمل هذا الطفل الرضيع ليسقيه الماء، وكان يظلِّلهُ من حرارة الشمس. وهناك يقول حرملة ـ حسب الروايات: “سَدَّدتُ السهم في كبد القوس، وصرت أنتظر أين أرميه. فبينما أنا كذلك إذ لاحت مني التفاتة إلى رقبة الطفل، وهي تلمع على عضد أبيه الحسين كأنها إبريق فِضَّة. فعندها رميتُهُ بالسهم، فلما وصل إليه السهم ذبحه من الوريد إلى الوريد، وكان الرضيع مغمىً عليه من شدة الظمأ، فلما أحس بحرارة السهم رفع يديه من تحت قِماطِهِ واعتنق أباه الحسين، وصار يرفرف بين يديه كالطير المذبوح”.. فَيَا لَهَا من مصيبة عظيمة، – هنا نقلنا وبشكل حرفي أحد مشاهد التراجيديا الإلهية -.
لا أحد في الكون يستطيع أن يمنح طفلاً رضيعاً دوراً في أية قصة؛ سوى الله سبحانه وتعالى وحده القادر على صنع هذا الحدث وأن يحول عبد الله الرضيع إلى أحد أبطال التراجيديا الإلهية ودوره الأكثر تأثيراً وإدراراً للدموع والأحزان، بل هي القصة التي تعري معسكر يزيد بن معاوية من جميع الخصائص ليس فقط الإسلامية بل حتى الإنسانية، وستقف المدرسة الأموية إزاء هذه القصة عاجزة على مدى الدهر كله عن تبرير ذبح طفل جريمته أنه كان عطشاناً.
في التراجيديا السماوية تتحول الحركات العفوية التي تصدر من شاب مثل القاسم بن الحسن عليه السلام إلى مَثَلٍ عظيم يجدِّدُهُ التاريخُ في كلِّ عامٍ لكي يتزوّد منه الذين يحاولون الوصولَ إلى مرتبةِ الزهدِ في الدنيا وعدمِ الاكتراثِ لحالها والإقبالَ على الجنة برحابة صدر، فلقد انقطعَ شِسعُ نعلِهِ في وسطِ المعركةِ فراح يصلحه غير آبه بجموعهم ولا بسيوفهم المشرعة وهناك اغتنم اللعين عمرو بن سعد بن نفيل الأزديّ هذه الفرصة وقال: “والله لأثكلن به عمه فما ولّى حتّى ضرب رأس القاسم بالسيف ففلقه، فوقع القاسم على وجهه وصاح يا عمّاه أدركني!”.
في التراجيديا السماوية تتحول الأحداث والكلمات وأفعال البشر في خدمة الهدف السماوي فلقد حاول الطاغية يزيد بن معاوية أن ينكل بالإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأن يحرف معالم دين الله فأمر بجلب الأسرى والسبايا من بنات رسول الله(ص) إليه وأن يمروا بهن عبر المدن والبلدان ليتفرج عليهن القاصي والداني ليعلن نهاية دين الإسلام ويحط في نفس الوقت من منزلة أهل بيت النبوة عليهم صلوات الله لكنه لم يدرك أن كل منطقة مر بها الأسرى تحولت إلى مقام مقدس يذكر فيه الحسين(ع).
لقد تحول كل موقع وضع فيه الرأس المقدس للإمام الحسين إلى مقام ومكان شريف يقدسه الناس ويتقربون من خلاله لله سبحانه وتعالى حيث أصبحت تلك المواقع أماكن تعج بالزوّار والمحبين.. وتحولت مراقد شهداء كربلاء وأبطالها مثل مرقد السيدة العقيلة زينب الكبرى مكاناً يقصده الملايين من مختلف بقاع العالم بهدف الزيارة وتأدية حق الرسول(ص) في أهل بيته التي أوجبها الله على كل مسلم ومسلمة وهي المودة في القربى.
كل الأديان السماوية تعرضت للتشويه والتحريف من قبل الطغاة ما عدا الإسلام بقي سالماً من التحريف على الرغم من المحاولات الكثيرة، بفضل التراجيديا الإلهية التي وقعت في كربلاء.