وحدها الكتابةُ تبدِّدُ صقيعَ غربتي
بقلم غسان عبد الله
لماذا أنا أكتب؟؟.. أخبِّئُ كلَّ يومٍ عِشْتُهُ في حنايا غربتي وأنقشُ توهُّجاتِ الذَّاكرة البعيدةِ فوق حبقِ الشِّعر، زادي في الكتابةِ هو سهولُ القمحِ وبراري البلوطْ، وأزقَّتي الطِّينية التي غُصْتُ فيها حتّى مفاصلِ الرُّكبةِ، إلى أنْ امتزجتْ تلكَ الأكوامُ الطّينيةُ في شهيقِ الشِّعر وفي رحابِ الحلمِ؟!..
أكتبُ كي أترجم بعضاً من موشور طفولتي وفتوّتي وشبابي وغضبي من اعوجاجات هذا الزَّمان، لأنثرَ تواشيحَ حبري فوق غيمةٍ ماطرة، لعلّها تهطلُ فوقَ بيادرِ العمرِ زهوراً من نكهةِ الياسمين!.
الحياةُ تغدو أحياناً وكأنّها أفعى غليظةٌ ملتفّةٌ حولَ عنقي، تبدو أقصرَ من جموحي، ممّا يراودني، تحاصِرُني في كلِّ حينٍ، تفجِّر في أرخبيلاتِ الرُّوحِ طاقاتٍ كامنة، وكأنّ هذه الطَّاقات متأتّية من زمنٍ سحيقٍ، طاقاتٍ عالقةً في اخضرارِ الخيال.. الحياةُ غمامةٌ عابرةٌ، بسمةُ طفلةٍ في صباحٍ نديٍّ، ضحكةُ الرَّبيعِ عندما يستقبِلُ نسائمَ عليلةً من أعالي الجبالِ، لا نملكُ في الحياة سوى رجرجات هذا العمرِ القصير!.. كم يُغيظُني لأنَّني لا أعيشُ الصلاةَ والحبَّ وروح التلاوةِ قروناً من الزَّمان.. أشعرُ في أعماق الحلمِ، حلُمِ اليقظةِ واليقين، أنَّ هناكَ براكينَ من الرُّؤى والأفكارِ والنّصوصِ والقصائدِ والألوانِ تتماوجُ في رحاب المخيّلة الفائرة مثلَ شلالاتٍ هاطلةٍ من خاصرة السَّماء، نعم يغيظني أن لا أعيشَ قروناً من الزَّمانِ، لأنَّ عمرَنا القصيرَ الذي نعيشُهُ لا يكفي إلا لترجمةِ بعضٍ من زنابقِ عشقي للصلاة، ولهفتي للقراءة.. لا يكفي حتى لبضعِ لحظاتٍ من الأنسِ بحضرة الحبيبِ.. لا يكفي أن نغوصَ عميقاً لنترجمَ ما يعترينا من الدَّهشةِ، دهشةِ الذُّهولِ من دورانِ الكونِ، من سطوعِ برعمٍ فوقَ تنهيدِةِ الروحِ، متى سأكتُبُ هذه الجبالَ الشَّامخةَ نحو أبراجِ الصُّعودِ، صعودِ الرُّوح نحو بخورِ الصَّفاءِ!.
وحدها الكتابةُ تخفِّف بعضاً من تخشُّباتِ ضجري، وحدها الكتابةُ تمنحُني أَلقَ العشقِ، وحدها الكتابةُ تبدِّدُ صقيعَ غربتي، وحدها الكتابةُ تمنحُني بهجةَ الهدوءِ وخصوبةَ الرُّوح، وتفتح شهيتي على محرابِ الدعاءِ، وحدها الكتابة تغمُرُ صباحي بشهقةِ السموِّ، وحدها الكتابةُ تنقش فوق هلالات الحلمِ حبقَ التجلّي، لا يهمّني إن عشتُ قروناً، أو بضعةَ شهورٍ، فالزَّمنُ مهما طالَ هو مجرَّدُ زمنٍ متناثرٍ فوقَ خَميلةِ الحياةِ، وحدَها الكتابةُ تبقى ساطعةً فوقَ مفاصل البقاءِ، وحدها الكتابةُ تمنحُني نكهةَ العشقِ على امتدادِ الكونِ.
هل كنتُ يوماً يخضوراً فوق جبينِ الطَّبيعةِ ولا أدري، هل سأتحوّل يوماً إلى نجمةٍ متلألئةٍ في ظلمةِ اللَّيل، أو فراشةٍ ملوّنةٍ ببهجةِ الانتعاش؟ هل كنتُ يوماً ما وردةً متراقصة على تُخومِ المحبَّةِ، أم أنَّني كنتُ شهقةُ عشقٍ مندلقة من خيوطِ الشَّمسِ؟!.. هل يوجدُ على وجهِ الدُّنيا أحلى من بسمةِ الحرفِ وهو يتمايلُ فوقَ أغصانِ الخمائلِ.. خمائلُ الكونِ باقاتُ فرحٍ إلى بني البشر.. هل نحن البشرُ حروفٌ متطايرةٌ من دفءِ الشَّمسِ أم أنَّنا خيوطُ نيازكٍ متدلّية من عيونِ السَّماءِ، ما هذا التوحُّدُ اللَّذيذ مع زخّاتِ المطرِ؟ ربّما كنتُ في غابرِ الأزمان غيمةً ماطرة ولا أدري، وإلا فما هذا الشَّوقُ البهيجٌ إلى حبّاتِ المطرِ؟! تساؤلاتٌ مؤرِّقَةٌ تراودني، أشبَهَ ما تكونُ بتلاطماتِ أمواجِ البحر، تبتَسمُ عروسُ البحرِ تحتَ التياعِ الأمواجِ، لماذا لا يعقدُ الإنسانُ صلحاً مع ذاته، مع ضياءِ البدرِ لعلّه يزدادُ سطوعاً أكثر من هالةِ البدرِ؟! هل نحنُ سنابلُ قمحٍ منثورةٌ فوقَ خصوبةِ الكونِ، أم أننّا نغمةُ حنينٍ منبعثةٌ من تلألؤاتِ النُّجومِ؟!.
الكتابةُ نسائمُ بحرٍ منعشةٌ، تهبُّ عندَ الغروبِ، تسطَعُ عندَ بزوغِ الفجر، صديقةُ البراري وهمهماتِ اللَّيل، الكتابةُ عطشٌ مفتوحٌ نحو ينابيعِ السَّلامِ، حالةٌ متجلّيةٌ بحبورِ الارتواءِ، نعبرُ جهةَ البحرِ وخلفَنا ذاكرةٌ محمومةٌ معفّرة بالرّمادِ، مَن يستطيعُ أن يزرعَ فوقَ خدودِ الشَّمسِ شموعَ المحبّةِ ويسقي نبتةَ الحياةِ؟ يهفو قلبي إلى بيادرِ ألعابِ الطُّفولةِ، إلى أريجِ سهولِ القمحِ، إلى صحارى العمرِ، ما هذه الخشونةُ المتشظِّيةُ فوق معارجِ العمرِ، لماذا لا يبني الإنسانُ محطاتِ فرحٍ عندَ تخومِ الرّوحِ، كيف تتحمّلُ الرّوحُ كلَّ هذه المنغصّاتِ؟.
ثمّة تساؤلاتٌ تزدادُ نموُّاً فوقَ تلألؤاتِ الحلم، وحدَهُ قلمي يُنْقِذُني من اندلاعِ الاشتعالِ، يخفِّفُ من ضجرِ اللَّيلِ وبكاءِ النَّهارِ، وحدَهُ حرفي صديقُ غربتي وكلِّ الكائنات، موجةُ فرحٍ تعبرُ وجْنَةَ الشَّفقِ، فأضحكُ.. وإذ بي أراني في أعماقِ الحلم.
غربةٌ مريرة تغمرُ صدرَ الكونِ، وحدها الكتابةُ تبدِّدُ جهامةَ النَّهارِ، تمنحُني ألقَ الشَّوقِ إلى مرافئِ العمرِ، إلى ربوعِ دفءِ المساءِ، تفتحُ شهيتي على موسيقى متناغمة مع حفيفِ اللَّيل، وجنى عمري تكحِّل حرفي بطزاجةَ العسلِ البرّي، تمنحُني بهاءً مكتنفاً بالتجلّي، جنى الكتابةِ الرقيقةِ.. أغنيةٌ منبعثةٌ من رحمِ البحرِ، موجةُ فرحٍ منسابةٌ فوقَ بخورِ الرُّوحِ، صوتٌ مدبّقٌ بأريجِ الزَّهرِ، تغريدةُ بلبلٍ في أوجِ الرَّبيعِ، طفلتي جنى صديقةُ وجعي وبهجةُ قلبي، تزرعُ في خيوطِ الصَّباحِ روعةَ الشَّوقِ واخضرارَ العناقِ!.. بهجةَ الدعاءِ.. ويواقيتَ الصلاة.