فضاءات فكرية

حولَ الخطاب الأخلاقي والسّياسي في منظومتنا القيمية (الحقوقُ حاضنة الأخلاق)

بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

والأخلاق فطرة في النفس، زرعها تعالى في كل إنسان بالقوة والكمون الذاتي الوجودي، تتصاعد وتتعاظم مع تزايد نمو وتصاعد الإنسان في مراتب الوجود ومسالكه..

وقد حضت الأديان كلها على الأخلاق، وطالبت المؤمنين بها بأن يكونوا أخلاقيين يتطلعون لبناء “وجودات” عادلة لهم على الأرض، وفاءً لنداء الفطرة، وتشوقاً لبناء مجتمعات النموذج والمثال الإلهي.. والنصوص حافلة بمعاني الأخلاق في متوننا التاريخية الكثيرة..

ولكن الإنسان ليس فطرةً نبيلة وأخلاقية يخضع من خلالها هذا الإنسان للدين وقيمه ومواعظه وأدبياته المثالية، بل فيه حالة ضعف ذاتي في قواه وشهواته وغرائزه التي جاءت الأخلاقُ – في حيز كبير منها – لضبط الغرائز وتعديل مساراتها والتحكم بمآلاتها، بما يضمن بقاء هذا الإنسان في دائرة الوجود الأخلاقي الديني.. ولكن أنّى لهذا الإنسان أن يبقى وفياً لمبادئ الأخلاق والقيم الأخلاقية أو خاضعاً لها، خصوصاً عندما تهيمن عليه نزعاته وقواه الشهوية والغضبية وتتحكم فيه مصالحه في السيطرة وحب الذات والنفوذ والهوى، وهذا ما وجدناه في كل تاريخ البشرية التي كان يتصارع فيها الإنسان مع أخيه الإنسان ليس من أجل تطبيق القيم الأخلاقية، حيث أن الناس لا تتصارع من أجل “الهواء” (كما يقال).. بل الأمم تتقاتل والدول تتحارب على تأمين مصالحها وزيادة مواردها وخيراتها وطمعاً في تحسين ظروف عيشها وتوسع نفوذها.. فقد كان البشر يتصارعون سابقاً على الماء والكلأ وغيرها، واليوم يتصارعون على مصادر القوة والطاقة من بترول وغاز وغذاء ومياه وغيرها..

إذاً غاية الحديث التقديمي هنا أن الأخلاق – التي نظّرت (ودعت إليها) الأديان والمذاهب الفكرية الأيديولوجية – لم تتمكن أو لم تنجح كثيراً في بناء الإنسان المتكامل أخلاقياً وعملياً، أو بناء مجتمعات أخلاقية مثالية في عالم أرضي نسبي يعيش فيه الإنسان هواجس الخوف والقلق من كل شيء حوله، على الرغم من كونها (أي الأخلاق) إحدى أهم غايات مبادئ الأديان.

وأكثر ما نلاحظ ظهور وبروز وحضور هذا التناقض – إذا صح التعبير – بين الدعوة للأخلاق والسعي لتمثلها (مع كثرة الوعظ بها والتوعية حولها)، وبين حالة وهن وضعف المسلكيات الأخلاقية العملية، هو في كثير من مجتمعاتنا العربية والإسلامية.. إذ أننا نجد أن هناك بوناً شاسعاً وفارقاً واسعاً بين الأخلاق والتطبيق الأخلاقي في سلوك الناس الفردي والمجتمعي، على الرغم من وجود قناعات ذاتية عميقة بضرورة الالتزام بالقيم الأخلاقية.. ولكن تبقى تلك القناعات مركوزة في النفس تختفي في منعطفات السلوك والعلاقات.. فيا ترى ما السبب في هذا الخلل بين النظرية والتطبيق؟ ولماذا تبتعد مجتمعاتنا (الأخلاقية نظرياً) عن تنفيذ وصايا وتعاليم وقيم دينها الأخلاقية؟!.

في الواقع أتصور أن السبب المباشر يكمن في تضييع الحقوق وعدم الاهتمام بها في حركة البناء السياسي والمجتمعي لبلداننا..!!. بمعنى أن الإنسان عندنا يولد في بيئة مجتمعية تضج بالمبادئ الأخلاقية، حيث يتم حقنه بكم هائل من المواعظ والتعاليم والوصايا الأخلاقية المثالية منذ نعومة أظفاره، ويصاغ روحياً ونظرياً فقط على قيم الأخلاق في بيته ومدرسته ومواقع تواجده المجتمعي الأخرى، دون أن يعي حقوقه، ودون أن يتصدى أي موقع من تلك المواقع لإفهامه أن له حقوقاً كإنسان واقعي وليس كإنسان مثالي.

هذا الخلل في الفكر والسلوك جعل من هذا الإنسان المصاغ أخلاقياً مثالياً (من الناحية النظرية فقط) يعيش حالة التناقض بين مثالياته الأخلاقية، وبين واقعه المجتمعي السياسي وغير السياسي القائم على القمع والكبت والردع ورفض الآخر وغيرها.. فماذا يفعل، وكيف سيتأثر، وعلى أي حال سيكون؟!.. للأسف سيتحول إلى عنصر سلبي منفعل في حياته الخاصة والعامة، لأنه بعيد عن حالة التوازن الأخلاقي الحقوق..!!.

من هنا يمكننا القول بأن الخطاب الأخلاقي الوعظي والخطاب السياسي الحقوقي، كلاهما مهمان، ولهما تأثيرٌ كبير على حركة الفرد وحياته العملية في وعيه وسلوكه وإنتاجيته.. وهذان الخطابان لهما دعاتهما ورموزهما في اجتماعنا العربي والإٍسلامي.. خطابان يستندان إلى مرجعيتين مختلفتين في أمور، ومتفقتين في أخرى.

لكن نحن ومنذ زمن طويل انفعلت مجتمعاتنا وشعوبنا وتأثرت وخضعت للخطاب الوعظي الأخلاقي دونما أية إنتاجية وفاعلية فردية أو مجتمعية على الأرض، فمجتمعاتنا تراجعت فيها القيم (في تطبيقاتها العملية) إلى أدنى درجة وحد ممكن (رغم شيوع المواعظ والتعاليم الأخلاقية)، وبحيث باتت معها كل تلك الدعوات والمواعظ الأخلاقية والمعايير والضوابط القيمية فارغة المضمون العملي ولا قيمة لها على الأرض في سلوك الناس المؤمنين بها، في علاقاتهم وآليات عملهم، لتصبح مجرد قيم متبدلة مبتذلة مصلحية، أضحت معها خطاباتُ الوعظيين كلماتٍ في الهواء تطلق عبر الأثير بين وقت وآخر من على المنابر، وفي المناسبات الخاصة والعامة.

اليوم، الخطاب الأهم الذي يمكن أن يعيد التوازن للإنسان ويدفعه للفعالية الوجودية، والذي يجب التركيز عليه، وإعادة الاعتبار إليه بقوة، هو الخطاب السياسي الحقوقي القائم على مبادئ الحق والعدل وحقوق الإنسان، وأولوية مشاركة المجتمعات (عبر الهيئات والمنظمات والأحزاب) في البناء الدولتي الحديث، وإسهامهم في ضمان مصالحهم وتنمية وجودهم وتفعيل حضورهم وتحقق الازدهار والسعادة.

وحتى لا نكون مغالين في دعوتنا، سنضرب مثالاً واقعياً عن نتائج الخطاب ومنهج الوعظ الأخلاقي وتناسي الخطاب والبناء الحقوقي.. حيث أننا بمراجعة بسيطة لواقعنا العربي نجد أن بلداننا ومجتمعاتنا العربية تقدم أعلى نسب ومعدلات الفساد السياسي والأخلاقي رغم المواعظ الأخلاقية والمنبريات والتحشيدات الخطابية الدينية.. فالفساد يتزايد والنهب يتصاعد في عالم عربي يفتقر لأدنى معايير الحقوق.. والفشل الحياتي والدونية الحضارية والتّعيّش التّطفّلي على فُتات الآخرين هو الحالة المعروفة عن بلداننا.

وهذا كله نتيجة وثمرة طبيعية لهيمنة خطاب وعظي ليس فقط في الدين بل حتى لدى الساسة ممن يدعمون منهج الوعظ المثالي الأخلاقي على حساب تناسي وربما رفض ومواجهة منهج الفكر الحقوقي.. فكان ما كان عندنا من الوصائية والأوامرية والنخبوية التي دمرت كل شيء، وثبتَ فشلها الذريع في استنهاض المجتمعات وإيصال البلدان إلى شواطئ الأمان والتطور والازدهار.

والمشكلة الأكبر أن إبعاد الناس عن حقوقها وزيادة جرعات الوعظ الأخلاقي لها، كحالة تخديرية عامة، دفع الحكام للتعامل مع الدول الكبرى لزيادة حالة الاستنزاف الحاصل في بلداننا العربية (لخيرات الناس وموردها وثرواتها)، والذي لم تشهده المنطقة منذ عقود عديدة، وهو مستمر بصورة أشد وأفظع، وبغطاء من صناديق ومنظمات اقتصادية وتجارية تعمل كبديل عن الاستعمار المباشر.. وهو يتجلى على شكل استنزاف سياسي واقتصادي كبيرين.. حيث تقوم الدول الكبرى بسرقة موارد المنطقة واستنزاف خيراتها بأبخس الأثمان، وتأجيل استحقاقات البناء الحقوقي السياسي والاقتصادي الحديث، وزيادة مستويات ودرجات تخليفها التنموي لمجتمعاتنا، ومنع توطين قدراتها العلمية والمهاراتية للجامعات والكوادر العلمية.. ثم يسمحون للدول -بعد اهترائها اقتصادياً- بالاستدانة من بنوكهم وصناديقهم لإحكام السيطرة السياسية عليها.. سرقات موصوفة بالليل والنهار وتحت ستار القانون الدولي.

وعلى الرغم من كل ما تقدم من مسؤولية ملقاة على عاتق تلك الدول الاستعمارية، لكن بالسياسة والمنطق السياسي العملي ولغة المصالح القائمة بين الدول، لا تجب إدانتهم كثيراً، فالمسؤولية الأكبر هنا ملقاة على عاتق العرب أنفسهم، وعلى نخبهم السياسية والاقتصادية الشرهة للمال والنفوذ، ومؤسساتهم المترهلة وبنيتهم الاقتصادية المنخورة التي تهشّمت وتحطمت بفعل السرقة والنهب والفساد.

ثم ألا يكفي الاستعمار وذيوله بالمنطقة فخراً!!، أنهم أنتجوا لنا من رحم الهزائم والخسائر المتكررة التي تمتد – في العصر الحديث – لعقود طويلة سابقة، هذه الحركات الخلاصية العنفية والانقلابية من أقصى اليمين لأقصى اليسار، وعلى رأسها ذلك الوليد الأصولي الجهادي (القاعدة ونسخها الدموية اللعينة) الذي أسهم بقوة – مع مشغّليه – في تفجّر العنف والدم وإشاعة الانقسامات الطائفية، وإشعال الحروب الأهلية، والصراعات المذهبية، بحيث باتتْ المنطقة أبعد ما تكون عن التفكير العلمي والوعي والعقلانية والعيش التشاركي التسامحي، وانعدام فرص وإمكانية التغيير السلمي الحقيقي والسير على طريق النهضة والتقدم.!!

والدين حقيقةً ليس له أي مسؤولية، لأن الحقوق غائبة مغيبة عن قصد، والدين ذاته يحضّ عليها لأنها أساس صناعة وبناء الانسان المتوازن الواعي المسؤول القادر والقوي المتصالح مع ذاته وقيمه.. والذي لا ينقصه سوى العيش بكرامة وإنسانية ليبدع وينتج، وهذا يتطلب حقوقاً في الحرية والعدالة الحقيقية..!!.

إننا ينبغي أن ندرك هنا أن بقاء الحقوق والمنهج الحقوقي بعيداً عن عقليتنا وسلوكنا ووعينا السياسي والديني، سيبقي إنساننا مهمشاً ومتناقضاً وبعيداً عن أدنى مواقع ودرجات التطور والازدهار الحضاري.. وهذا المنهج برأيي أهم من المنهج الأخلاقي الذي لا نشك لحظة بأهميته، فالحقوق أولاً، وبالنتيجة والمآل نصل لبناء الإنسان الأخلاقي.

ولكننا للأسف، عملنا كذاك الذي وضع العربة أمام الحصان، وقال للحصان تحرك، وأوسعه ضرباً بسياطه الحادة.. طبعاً لن يتحرك الحصان وإذا تحرك مرغماً تحت ضغط قساوة السياط سيصطدم لا محالة بالعربة ويتأذى ويسقط، وهكذا الانسان والقيم، الحقوق والأخلاق تتكاملان وتتعايشان في بيئة واعية متوازنة مسؤولة.

وعندما يحصل الإنسان على حقوقه سيتحول إلى الفعل والإنتاج والالتزام بالقانون، والمحافظة على قيم الأخلاق والقانون، خاصة عندما يحصل عملياً على نتائج وثمار عيشه في فضاء حقوقي حقيقي يتقوم بالقانون والحقوق.

نعم، لا يمكن أن تطلب من الإنسان أن يكون أخلاقياً ويقوم بربع واجبه – وليس بكله – ما لم تمنحه حقوقه، وتؤمّن حاجاته ولو بالحدود البشرية المقبولة.

فالحقوق هي التي تدعم الأخلاق وترسّخ معاني القيم العملية، وتدفع الإنسان للحضور النوعي، وللفاعلية الوجودية في عصره.. وبهذا المعنى: لا قيمة عملية للأخلاق من دون حقوق مجسَّدة مصانة بالقانون وقوة المجتمعات في صيانتها من عبث الحكام والظالمين.

وأصلُ الإصلاحِ العربي المطلوب، وجذْرُه الأوّلي الحقيقي يكمن هنا في:
الوعي السياسي، وحكم القانون، ودول المواطنة الصالحة، وهذه كلها من ثمار المنهج الحقوقي.

نشير أخيراً، أو ننوه لمسألة ضرورية نختم بها هذا الحديث وهي أنه يجب ألا يفهم من كلامنا أننا ضدّ أن يكون في المجتمع أخلاق وقوانين تُنظّم علاقات الناس ببعضها، حيث أنه بالأساس لا يمكن قيام مجتمع إنسانيّ دون هذا، ولكن حتى يكون هذا المجتمع الإنساني مزدهراً ومتطوراً ومنتجاً وقادراً، لا يجب أن تكبله قيمه، وتسجنه مبادئُه، وتقيّده مواعظه، وهذا لا يمكن أن يحدث في حالة التناغم والتوافق مع المنهج الحقوقي لتنظيم شؤون الناس ودفعها للحضور المجتمعي السياسي الفاعل.. في ضرورة أن تعيش تحت ظل القانون والحقوق وبيئة أخلاقية حقيقية.

وهذا ما يضمن الاستقرار والفعالية وتحقق الإنتاج.. وأتصور أنه لا غنى عن المنهجين طالما أن الهدف هو السعي للبناء والازدهار، وهذا لا يضر تطلّع الفرد نحو الكمال الأخلاقي.. والإسلام حين سنّ القوانين، ووضع الحدود، وأشار بقوة للأخلاق والوصايا الأخلاقية، مطالباً الناس بالسعي إليها، طالبهم أيضاً بضرورة التربية الحقوقية كأساس وقاعدة لبناء مجتمعات العدالة والكرامة الإنسانية على الأرض قبل الجنة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *