اللغة والألفاظِ التي فَقَدَتْ شرَفَها!!
بقلم غسان عبد الله
تعتبر اللغة من أهم اكتشافاتِ البشريةِ، وهي منحةٌ إلهية اختصَّ الله بها آدم واصطفاه بها وافترق بها الإنسان عن الحيوان كونه أصبح ناطقاً مفكراً. من أجل ذلك عُرِّف الإنسان بأنه: حيوانٌ ذو رموز، بمعنى أنه يستخدم اللغة والكلمات ليميز أشياء العالم المحيطة به بعضها عن بعض وليميز نفسه عن بقية الكائنات.
واللغة هي وعاءُ الفكر ومحتواهُ، فالإنسان لا يستطيع أن يعبّر عن نفسه وعن أفكاره إلا من خلال اللغة، ونستطيع أن نماهي بين الفكر وبين اللغة ونعتبرهما وجهين لعملة واحدة هي الإنسان باختصار.
واللغة كائنٌ متطورٌ باستمرار وتطوّرُها جدليٌّ بينها وبين الإنسان كلاهما يطوِّرُ الآخر ويستفيدُ من تطوره، فاللغةُ تصنعُ الإنسان كما يصنعُها في الوقت نفسه.
إلا أن الإنسان براجماتي بطبعه عمل ويعمل على تسخير اللغة لأهدافه ومآربه وذلك بتحميل اللفظ فوق طاقته وإكسابه معاني مغايرة لما وُضع لها اللفظُ أصلاً وذلك بتطويعِهِ وترويضهِ واغتصابهِ كي يلِدَ المعاني المحقِّقة لغاياتِ الإنسان التي يسعى لها.
وهذا لا يعني أن اللفظَ بريءٌ تماماً، وأن اللغةَ تامةُ الحياد، فإذا كان المتكلمُ يريدُ أن يقولَ شيئاً من خلالِ اللفظ، فإن الأخيرَ يقولُ من خلالِ المتكلمِ أشياء، فاللفظُ يتلوّنُ مثل الحرباءِ وبحسبِ السياق الذي يحدِّدُ المعنى وهو حمّالُ أوجهٍ وأوزار أيضاً.
هناك من رأى أنَّ اللغةَ وحدَها – مثلُ العُكّازِ وحدَه – أداةٌ تتوكأ عليها عبر جميع الطرق، وتدقُّ كلَّ الأبواب، لكنها لا تستطيعُ أن تقودَكَ إلى البيتِ الذي تقصدُهُ حتى تعرِفَ أنت طريقَ البيتِ وتدقّ بابه.
وهناك ألفاظٌ أفرغها الإنسانُ من معناها الحقيقيِّ التي وُضِعت له، إلى معنى مجازي. بمعنى آخر أن الإنسان عمِلَ على استخدامِ تلك الألفاظِ كي تعطيهُ المعاني التي يريد في الوقت الذي يريد.
من تلك الالفاظ (بيتُ مالِ المسلمين) ولا تعني حقيقة المعنى الذي وُضِعَتْ من أجلِهِ وهو البيتُ الذي يُحفَظُ فيه مالُ المسلمين لأخذِهِ والانتفاعِ به وقتَ الحاجةِ وإنما في العديد من الدول العربية والممالك والإمارات انصرفَتْ في الواقعِ إلى مخدِّرٍ موضعيٍّ يمتصُّ غضَبَ المسلمينَ الذينَ لهم الحقُّ في أموالِهم لكنهم لا يصلونَ إلى هذا الحقِّ حتى يلِجَ الجملُ في سِمِّ الخِيَاط.
إنه مالُ الحاكمِ أو – الخليفةِ – وأقاربِه يتصرّف فيه كيف شاء وأنى شاء، وللمسلمين الاسمُ أو الصوتُ – ذلك أنّ الحروفَ المكوِّنةَ للكلماتِ هي أصواتٌ – وباعتبارِ أن العربَ والمسلمينَ ظاهرةٌ صوتيةٌ ترضى بالمَجَازِ عن الواقع.
ويقابلُ اللفظُ السابقُ في الوقتِ الحاضرِ لفظَ “قصرِ الشعب” الموجود في كل الأقطار العربية، والمفروض طبقاً للفظ أن يستطيع الشعب أن يدخُلَ إلى قصرِهِ في أيِّ وقتٍ وأن يُقيمَ فيه ما شاء، لكنَّ الواقعَ يقول العكسَ فالشعبُ لا يملكُ من قصرِهِ شيئاً حتى مجرَّد المرورِ من أمامهِ بسلامٍ دون أن تنهالَ عليه أسئلةُ الحراس، ماذا ولماذا وهل؟!.
ودلالةُ اللفظِ “أمين الصندوق” توحي بأنْ يكونَ المسؤولُ عن صندوقِ الرواتب والمكافآتِ أميناً وفقاً لما يوحي به اللفظً، لكن هيهات لما تظنون فمنهم من هو أسرقُ خلقِ الله، وأقربُ للدناءةِ يمكن أن يبيعَ ذمَّتَهُ وإنسانيّتَهُ بثمنٍ بخسٍ وبينه وبينَ الأمانةِ ما بين المرِّيخِ والأرضِ من مسافاتِ، وتبقى استثناءاتٌ بسيطةٌ لا تقوّي اللفظَ بقدرِ ما تعزِّزُ ما نقول.
ومثلها أمينُ السرِّ في المحاكمِ الذي يفضحُ الأسرارَ على الغرماءِ والمتحاكمينَ ويفعلُ في الأحكامِ ما يفعلُهُ طلابُ الثانويةِ في الامتحانات، وكلُّ حُكمٍ ولهُ وزنُهُ وقيمتُه.
ومن الألفاظِ التي فَقَدَتْ شرَفَها لفظُ “المحلل السياسي” وهو لفظٌ في ظاهرهِ الرحمةُ لكنّ باطِنَهُ يأتي من قِبَلِهِ العذابُ، وعندما نقولُ إنه لفظٌ فقد شرَفَهُ وعُذريّتَهُ فنحن نعني ما نقول ولذلك لأن المحلِّلَ السياسي لم يعدٍ معنياً بالتحليلِ – مِنْ حلَّلَ – الذي يعني: حلّ وفكّ وشرح وإيضاح وإنما أصبح معنياً بالتحليلِ من الحلِّ المأخوذِ من الحلالِ والحرامِ والذي عناه الرسول(ص) بقوله: لعن الله المحلل والمحلل له، على اعتبار أن المحلّل يشبهُ التيسَ المستعار، وهذا ما هو حاصلٌ مع بعضِ المحلّلين السياسيينَ العرَب، وخصوصاً محللي قناة العربية والجزيرة الذين استبدلوا العدوَّ الصهيونيَّ بعدوٍّ آخر هو الجمهورية الإسلامية. وإذا تتبعنا الألفاظَ المغتصبةَ التي فقدتِ المعنى الذي وُضِعَتْ من أجلهِ وأخذتِ المعنى العكسيَّ تماماً، فإن هامشنا الثقافي لن يصل للنهاية، وحسبنا أن نشير إلى أن العربَ كانت تُسمي الأعمى بصيراً والملدوغ سليماً، أي أن الاسم يحملُ عكسَ ما يصفُ وهذا ما هو حاصل هنا، فالمُفسدُ أمسى صالحاً، والسارق شاطراً، والجاهل مثقفاً وهلم جرّا.