العدوان الإسرائيلي على فلسطين ولبنان يظلل قمة بريكس بوتين: مسار تشكيل نظام عالمي متعدد القطب جار حالياً
بقلم ابتسام الشامي
على وقع الأحداث المفصلية التي تعيشها منطقة غرب آسيا والتحولات الميدانية في المواجهة الروسية الأطلسية في أوكرانيا، استضافت روسيا الاتحادية قمة مجموعة بريكس الدولية، وما بين المشاركة الرفيعة وبيان القمة، رسائل سياسية ومؤشرات على تغيرات معمقة في البيئة الدولية.
روسيا تفشل هدف عزلتها
كثيرة هي الأهداف التي توختها الولايات المتحدة الأمريكية من فرض المواجهة الروسية الأطلسية في أوكرانيا، وكان دفع الأخيرة الانضمام إلى حلف الناتو مع ما يعنيه ذلك من تطويق روسيا جغرافياً وتهديدها أمنياً، خطوة في مسار يؤدي إلى إضعافها وعزلها، وهو هدف سرعان ما جاءت ترجمته العملية في سلسلة العقوبات التي فرضتها واشنطن وحلفاؤها الغربيون على موسكو بعيد إعلان بدء عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا في شباط من عام 2022، من “تعطيل” خطوط التواصل الاقتصادي مع الدول الأوروبية، إلى تحريم الاتصال السياسي معها. ولئن دفعت الدول الغربية فاتورة انجرارها الأعمى خلف واشنطن في هذه المعركة، من اقتصادها واستقراراها السياسي والمجتمعي، فإن روسيا نجحت إلى حد بعيد في احتواء مفاعيل الهجمة المخططة عليها، والحد من تأثيراتها. وهي إذ “أمنت” لغازها أسواقاً بديلة عن السوق الأوروبية، وعومت عملتها الوطنية في التعاملات التجارية، فإنها في السياسية اندفعت أيضاً نحو تعميق شراكاتها مع دول تشاطرها الرؤية لعالم قائم على التعددية القطبية، تتكسر فيه أدوات الهيمنة الأمريكية في الاقتصاد والسياسة والأمن. وهنا يبرز إلى تطوير روسيا علاقاتها الثنائية مع الصين وإيران وكوريا الشمالية وغيرها من الدول، تفعيل حضورها في عدد من المنظمات الدولية، والاستفادة من عضويتها فيها سواء على مستوى تحقيق الأهداف العامة لتلك المنظمات بكسر الهيمنة الأمريكية، او تعطيل قرار عزلها دوليا.
في هذا السياق تأتي استضافة مدينة كازان عاصمة جمهورية تترستان الروسية أعمال القمة السادسة عشرة لمنظمة بريكس مزدحمة بالرسائل السياسية، لاسيما وأنها تعد أضخم حدث تشهده روسيا منذ اندلاع الحرب الأوكرانية قبل نحو عامين ونصف. وبالنظر إلى هذه الخصوصية، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حرص على الاستفادة من المناسبة لإظهار فشل الدول الغربية في عزل بلاده، والتأكيد من خلال هذه المنصة الدولية أن العالم يتحول في مسار ثابت نحو التعددية القطبية، وهو ما لفت إليه في خطاب افتتاح أعمال القمة، مشيراً إلى أنه يتطلع إلى “إدارة شؤون العالم على أساس القوانين الدولية، لا القوانين التي وضعتها دول بعينها، لا سيما الولايات المتحدة”. وإذ أكد أن “مسار تشكيل نظام عالمي متعدد القطب جار حالياً، وهو مسار دينامي ولا رجعة فيه”، شجب الدول الغربية التي تفرض عقوبات على بلدان في بريكس من بينها روسيا، مشدداً على أنها قد تتسبب بأزمة عالمية. مشيراً إلى أن “الاحتمال قائم لنشوب أزمة بالغة. وهي لا ترتبط بالتوترات الجيوسياسية المتزايدة، لكن أيضاً… توسع اللجوء إلى العقوبات الأحادية الجانب، والحمائية والمنافسة غير العادلة”. ودعا بوتين قادة الاقتصادات الناشئة إلى دراسة اعتماد أنظمة دفع ومنصات للتبادل التجاري بديلة لتلك القائمة لخفض الاعتماد على الآليات. وفي استكمال عملي لهذه المقاربة في العلاقات الدولية وفي إنتاج ما يلزمها ما آليات تطبيقية، يأتي انفتاح قادة المجموعة وفي مقدمهم بوتين، على زيادة عدد أعضائها، من خمسة عند التأسيس إلى 9 خلال هذا العام، بقبول عضوية كل من مصر والإمارات والجمهورية الإسلامية الإيرانية وأثيوبيا. مع تأكيد الرئيس الروسي خلال كلمته في القمة أن “أكثر من 30 دولة عبّرت عن رغبتها في الانضمام لمجموعة بريكس”.
وتكمن أهمية المنظمة في ما تمثل على المستوى الاقتصادي والقوة الديموغرافية عالمياً، فقد بلغ عدد سكان المجموعة بعد توسعتها نحو 3.5 مليار نسمة، يشكلون 45% من سكان العالم، في ما تبلغ قيمة اقتصاداتها مجتمعة أكثر من 28.5 تريليون دولار، اي ما يقدر بنحو 28% من الاقتصاد العالمي.
وهذه الأرقام استند إليها بوتين للتسويق لأهمية المجموعة ومستقبل قوتها ومدى تأثيره في الاقتصاد العالمي، مؤكداً ان “حصة دول بريكس في الناتج المحلي الإجمالي العالمي ستسجل وفقاً لمقياس القوة الشرائية هذا العام مستوى قياسيا يبلغ 36.7% مقارنة بـ29.6% لدول مجموعة السبع”.
تنديد بالعدوان الإسرائيلي
القمة التي انعقدت تحت شعار “التعددية من أجل التنمية والأمن العالميين العادلين”، بمشاركة قادة عدد من دول المجموعة ورؤساء حكوماتها إلى جانب ممثلي الدول المدعوة والأمين العام للأمم المتحدة، وضعت على جدول أعمالها قضايا الأمن الغذائي والطاقة، لكنها مع ذلك أولت أهمية خاصة للتطورات في منطقة غرب آسيا على ضوء العدوان الإسرائيلي الواسع ضد قطاع غزة ولبنان، وهو ما انعكس في خطابات عدد من قادة المجموعة. وفي هذا الإطار، جدد الرئيس الصيني شي جينبينغ دعوته إلى وقف لإطلاق النار، وقال “علينا… وقف القتل والعمل بلا كلل للتوصل إلى تسوية شاملة وعادلة ودائمة للقضية الفلسطينية”. أما الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان فقد اعتبر أن “ما تشهده فلسطين يرسخ الإهمال والتهاون إزاء الحقوق الشرعية للشعوب، التي تدافع عن حقها في دولة مستقلة”، ناشد دول بريكس “استخدام إمكاناتها الجماعية والفردية لإنهاء الحرب في غزة ولبنان”، واصفاً الحرب الإسرائيلية عليهم، بأنها “الأكثر قسوة وإيلاماً”. وهو ما دعا إليه أيضاً الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا داسيلفا مشدداً على ضرورة وقف التصعيد والحؤول دون تمدده ليصبح نزاعاً عالمياً.
من جانبه، شدّد رئيس جنوب أفريقيا، سيريل رامافوزا، أن “مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة فشل في تعهده بحفظ السلام والأمن الدوليين”، وسط استمرار العديد من الصراعات المستعرة في جميع أنحاء العالم. وإذ اعتبر رامافوزا أن الأمم المتحدة “لا تمثل مصالح المجتمع العالمي، وبالتالي، لا تملك الوسائل الكفيلة بتحقيق الرغبة العالمية في السلام”، رأى ضرورة أن تستخدم دول البريكس “صوتها لفرض تغيير فعلي في هذا الصدد”، مذكراً بأن أعضاء المنظمة توصلوا إلى إجماع حول ضرورة “إصلاح المجلس، في القمة التي عقدت في جوهانسبرغ العام الماضي”.
وفي ختام القمة التي تواصلت على مدى ثلاثة أيام، صدر إعلان مشترك أكدت فيه الدول المشاركة ضرورة وقف فوري ودائم لإطلاق النار في غزة، ودانت “استهداف إسرائيل للعمليات الإنسانية ومراكز توزيع المساعدات في القطاع، والمباني الدبلوماسية الإيرانية في دمشق”. كما اعتبرت الدول المشاركة في القمة أن “تفجيرات أجهزة البايجر في لبنان تعد خرقا للتشريعات الدولية”.
خاتمة
شكلت قمة منظمة مجموعة بريكس منبراً لإدانة دولية واسعة للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ولبنان، وبموازاة الدعوة إلى إيجاد حل سياسي لوقف الحرب في أوكرانيا، نجحت روسيا في كسر المحاولات الأمريكية الدؤوبة لفرض عزلة دولية عليها، وما الحضور الرفيع في القمة، إضافة إلى ما خرجت به على مستوى الدعوات والطروحات، سوى دليل آخر على مستوى التحول في موازين القوى الدولية في عالم يتبلور فيه نظام جديد.