من التاريخ الإمامي المضيء مع الإمام الرضا(ع) في مواجهة الظلم والفساد
بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري
لم يمارس أئمة أهل البيت عليهم السلام السياسة المباشرة (عموماً)، بل مارسوها تدبيراً ووعياً وأخلاقيات قيمية مبادئية إذا صح التعبير.. وعلى الرغم من ذلك حاول الحكام الزمنيون على مر التاريخ الحصول منهم (ع) على شرعية سياسية واقعية ما لنيل مصداقية أمام محكوميهم، إدراكاً منهم للمكانة العليا التي يحظون بها بين الناس، وأن الغطاء الشرعي الذي قد يعطونه لهم، لا يقدر بثمن..
إنه رخصة حقيقية كاملة الصلاحية لتنفيذ ما يريدون ويرغبون.. ولكن أنى لهم ذلك، فالأئمة أئمة القلوب والوعي والمسؤولية، أئمة الأخلاق ومجسّديها على الأرض، رفضوا على الدوام أن يكونوا خاضعين إلا لله تعالى، وممثلين له، كنماذج عليا مرتفعة، تتطلع إليه الوجوه والقلوب وترنو إليها النفوس الحية الكريمة.
لقد عاشَ الإمام علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) – وهو الذي حاولوا دفعه للواجهة السياسية – سنوات عمره المبارك الأخيرة في عهد الخليفة المأمون.. وقد اعتبرها الإمام(ع) من أسوء الأيام التي مرت عليه في حياته كلها، وذلك بسبب كثرة المضايقات والضغوطات التي كانت تمارسها ضده الحكومة المأمونية – إذا صح التعبير – على الرغم من تظاهر رئيسها المزيف بالولاء المطلق لآل البيت(ع)، وتنكرها لأساليب العنف والقمع والانتقام التي ارتكبت بحقهم في العهود السابقة.
لقد وعى الرضا (ع) حقيقة الدوافع التي كانت تحرك المأمون، وماهية الأفكار التي كانت تجول في خاطره وخواطر جلاوزته، كما أدرك خلفيات وأبعاد ما كان يكمن وراء تظاهر المأمون بموالاته وحبه للإمام(ع) خصوصاً بعد استدعاء المأمون له إلى خراسان.
جاء في كتاب عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق – نقلاً عن السجستاني – أنه قال: لما ورد البريد بإشخاصِ الإمام الرضا(ع) إلى خراسان، كنتُ أنا بالمدينة فدخل المسجد ليودع رسول الله (ص)، فكان يقف على القبر مودعاً باكياً، ويخرج، ثم يرجع إليه، فعل ذلك مراراً، ويعلو منه البكاء والنحيب، وتقدمتُ إليه وسلمتُ عليه وهنأته فرد عليَّ السلام، وقال: “زدني فإني أخرجُ من جوار جدي رسول الله(ص) وأموت في غربة”.
لقد كانت علاقة الإمام الرضا(ع) بالمأمون – قبل وأثناء ولاية العهد، وحتى استشهاده – متوترة باستمرار. وكانت تتقلبُ ما بين مد وجزر، على الرغم من محاولات المأمون إظهار محبته له وللأئمة(ع)، وسعيه باتجاه عقد مجلس النظر والحوار التي كان يجمع فيها (المأمون) المخالفين لأهل البيت(ع) ليكلمهم عن فضائل الإمام علي(ع)، مستدلاً على أحقيته بالخلافة، وأفضليته بالحكم والقيادة.
ولا يُخفى على أحد بأنه كانت للمأمون – من وراء عقد تلك الندوات والمناظرات الفكرية بين كبار العلماء والفقهاء والمثقفين – أغراض وأهداف سياسية خاصة، فقد أراد أن يظهر حبه للعلم والعلماء ليميز نفسه عن سائر خلفاء العباسيين، وفي الوقت نفسه كان يعمل دائماً على الإيقاع بالإمام الرضا(ع)، وحشره في هكذا مناظرات من أجل أن يزيل تلك المنزلة الرفيعة والنظرة العالية التي كان الناس قد عرفوها ولمسوها عن أهل البيت(ع)، بشأن امتلاكهم للعلم، والمعرفة المنفتحة، والمكانة السامية.
وفي هذا الصدد يقول الشيخ الصدوق: “كان المأمون يجمع للإمام الرضا(ع) أهل المقالات من أهل الإسلام والديانات من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين، عسى أن يعجز عن الإجابة على أحد أسئلتهم فيحط من قدره في أعينهم حسداً منه للإمام ومنزلته الاجتماعية، ولكن لم يقم منهم أحد إلا وقد ألزمه حجة كأنه ألقم حجراً “.
إننا نلاحظ – من خلال الحديث السابق – أنَّ الحالة العامة للعلاقة بين الإمام(ع) والمأمون كانت غير طبيعية، بل متوترة على الدوام، وهذا أمر طبيعي جداً، فما يحمله المأمون من قيم متسافلة وأخلاق مبتذلة، وما يمثله من واقع سياسي تاريخي قائم على القتل والإجرام والتسلط، مختلف جذرياً عما يمثله الإمام من رسالة إنسانية ومنهج أخلاقي إسلامي وموروث قيمي رفيع جاءه بالوراثة والاكتساب والممارسة.. إنهما نهجان متناقضان، دنيوي وأخروي..!!.
لقد كان المأمون من جهة رجلاً يدعي أنه محب لأهل البيت(ع) ومدافع عن خطهم ونهجهم ومكانتهم، ولكنه من جهةٍ أخرى كان يعود – ولأتفه الأسباب – إلى حقيقته وماهيته الجوانية الخبيثة، فيعمل على الإيقاع بالرضا(ع)، وإسقاطه في عيون الناس وإظهاره بأنه مجرد رجل عادي محب للدنيا من خلال موافقته على ولاية العهد، من أجل إبعاد الناس عنه وطردهم من مجلسه، كما حكى عن ذلك عبد السلام الهروي قائلاً: “رُفع إلى المأمون أن أبا الحسن بن موسى الرضا(ع) يعقد مجالس الكلام، والناس يفتنون بعلمه، فأمر محمد بن عمرو الطوسي (حاجب المأمون) بطرد الناس عن مجلسه، فدعا الإمام على المأمون وكان من جملة ذلك الدعاء: (يا بديعُ، يا قوي، يا منيعُ، يا علي، يا رفيعُ، صلِّ على من شُرّفت الصّلاةُ بالصلاة عليه، وانتقمْ لي ممّن ظلمني، واستخفَّ بي، وطردَ الشيعةَ عن بابي).
لقد كانَ من المنطقي جداً أن تنتهي العلاقة المتوترة والشائكة بين إمامنا(ع) والمأمون إلى طريق مسدود بسبب الاختلاف الجذري في وجهات النظر، وأساليب العمل، وقبل ذلك اختلاف وعي ورؤية كل واحد منهما لقضايا الحياة والإسلام والحكم والقيم، ووإلخ.. يعني النظرة والرؤية الفكرية والإنسانية متناقضة بينهما.. حاكم ظالم طالب للدنيا ومنغمس فيها، وإمام معصوم يرنو للآخرة ويمنهج حياته وحياة من حوله على الإيمان ورضى الله والتفكير بالآخرة..
ويمكننا ملاحظة ذلك بشكل أساسي من خلال حادثة العيد عندما طلب المأمون من الإمام(ع) أن يركب ويحضر العيد، لكن الإمام اعتذر عن ذلك بناء على الشروط المسبقة والمتفق عليها بينهما في بداية قبوله(ع) بولاية العهد، الأمر الذي أثار حفيظة المأمون، فزاد في الطلب وألح في الأمر. وهنا علق الإمام قائلاً له: “اعفنِ وإلاّ تعفني أخرج كما يخرج رسول الله (ص)، وكما خرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)”، فأجابه المأمون: “أخرج كما تحب.. وكان الناس يتوقعون حينها أن يخرجَ عليهم الإمام الرضا(ع) على هيئة الملوك، وبآداب ورسوم خاصة، إلاّ أنهم دهشوا لما رأوه خرج حافياً وهو يكبر. فسقطَ القادة عن دوابهم، ورموا بخفافهم، وانطلقوا خلف الإمام. وكان الإمام يمشي ويقف في كل عشر خطوات وقفة ويكبر.. وبلغ المأمون ذلك، فقال له الفضل بن سهل: “يا أمير المؤمنين إنْ بلغَ الرضا المصلى على هذا السبيل افتتن به الناس، فالرأي أن تسأله أن يرجع”. فسأله الرجوع فدعا أبو الحسن(ع) بخفة طلبه ورجع.
لقد واجهَ الإمامُ الرضا(ع) المأمون بكل الوسائل السلمية المتاحة أمامه، رافضاً إعطاءه أو إكسابه أية شرعية شعبية رغم كل محاولات الترغيب والترهيب التي اتبعها المأمون معه(ع)، وقد تنوعت وسائل مواجهته(ع) لسياسات لمأمون العفنة بين الديني والفكري والوعظي والعقائدي ووإلخ..
فقد كانت سياسة الصبر والتحمل (مع فضح وتعرية السياسات الظالمة للمأمون) وسيلة وأداة فعالة اتبعها الإمام الرضا لمواجهة نهج الظلم والفساد التي اعتمدها المأمون – وغيره من فراعنة التاريخ الإسلامي – ضده وضد منهج أهل البيت(ع)..
جاء هذا كله من أجل عدم إكساب المأمون – ومجمل الحكم العباسي – شرعية تاريخية كانوا يفتقرون إليها من أهل البيت(ع)، فهو(ع) لا يشارك في حكومة أو في حكم ظالم فاسد يقوم على البطش والتسلط والإفساد في الأرض.. وإنما عليه واجب مواجهته بالصبر، والحكمة، وإظهار قيم العدل، والإصرار على الإصلاح وإرشاد الناس وتوعيتها بدينها وأئمتها ومسؤولياتها من خلال التوسع في مجالس العلم والتعليم، وإبراز أهمية الحوار والمثاقفة الحضارية، والرّد على الشبهات العقائدية والكلامية والفكرية، وتعزيز قيم الأخلاق ونشر التسامح والقيم الإسلامية الإنسانية.
وكأني بالإمام الرضا(ع) يريد أن يقول: أيها الناس، افتحوا عقولكم، لتتلاقح الآراء وتتفاعل الأرواح تسامحاً وإنسانية، ولتغلق الأقفاص والحواجز، فينقشع الصمت، وينتفي الكبت والخوف.. وتسود المحبة والعدالة والانسجام… فيزداد النشاط والفاعلية، وتتألق إبداعات البشر…!.
نعم: افتحوا عقولكم وأرواحكم.. الحياة قصيرة، قصيرة جداً، ولا تستحق أن نعيشها مع الانغلاق والتشنج والكراهية والحقد والظلم..
ولهذا يجب أن تكون قيم هذا الإمام العظيم حاضرةً وحيةً في النفوس والممارسات، أن يولد الرضا(ع) في قلوب من يحبه ويلتزمه، ليتفجر في قلوبهم وحياتهم ومعطيات وجودهم، بحيث يعيشون قيمه وروحانيّته وإنسانيته، وانفتاح قلبه على النَّاس جميعاً، ويلتزمون (ممارسةً) هذا الخُلُق النبوي المتسامح المنفتح على الخير كلّه، والإنسانية كلها.. وهذا ما نستوحيه أيضاً من خلال الحديث:
“..فو الله ما شيعتُنا إلا من اتّقى الله وأطاعَه، وما كانوا يُعرفونَ يا جابر إلا بالتّواضع والتخشّع والأمانة… وصدقِ الحديث… وكانوا أمناءَ عشائرهم في الأشياء… إلخ..”.