مأساةُ عصرِنا.. ازدواجية المثقف!
بقلم غسان عبد الله
مهما سعى المثقفُ للتحرّرِ مما يُعرَفُ بـ “الازدواجية”، فإنه لن يفلحَ، ليس لأنّ العزيمةَ أو الشجاعةَ تنقصانُه، لكي يُقْدِمَ على قهرِ ازدواجيّتِهِ والرّسوِّ على أرضٍ من الاتّساقِ بين سلوكِهِ وأفكارهِ، وإنما لأن للواقعِ الذي يعيش في جنباته سطوةً لا تُقهر، وإن شئنا بعض التفاؤل، فلنقل إن قهرَ هذه السطوةِ مهمةٌ معقّدةٌ وطويلةُ الأمد.
وقد لاحظَ بعضُ المفكرينَ أن سببَ ازدواجيةِ المثقفِ يكمنُ في أنّه أدركَ ثقافةً غيرَ ثقافتِهِ، بمعنى الثقافةِ التي وُلِدَ ونشأ في جَنَبَاتها، ولكنّه ليس حراً، كما قد يتوهّم، في القدرةِ على تخطّيها، لينتقلَ وعياً وسلوكاً إلى الثقافةِ الجديدةِ التي أدْرَكَها، لذلك يعيشُ ما وصفَهُ هذا البعضُ بـ “التمزّق على مستوى الوعي”.
ليس جديداً السجالُ حول ما يُطلقُ عليه “رسالةَ المثقف”، التي تتمحورُ، حسب دُعاتها، في أنّ على المثقفِ دوراً يجبُ أن ينهضَ به في خَلْقِ الوعيِ ونشرِهِ في أدمغةِ الناس، وحتى هنا فالمفرداتُ بحاجةٍ إلى غربلةٍ وتدقيق، فعندما نقولُ “خَلْق” الوعي فإننا نفترضُ أن لا وعيَ سابقاً في أذهانِ الناس، يتعيّنُ علينا أن نخلُقَهُ أو نصْنَعَهُ، فيما الحقيقةُ ليست كذلك أبداً.
هذه الأذهانُ ليست خُلواً من الوعي، ففيها وعيٌ مستقرٌ وراسخٌ، أكثر استقراراً ورسوخاً من ذاكَ الذي في ذهنِ المثقف، لسببٍ يجمعُ بين البساطةِ والتّعقيدِ في الآنِ ذاته، فالمثقفُ، مهما بلَغَ وعيُهُ من عمقٍ ونضجٍ، يظلُّ فرداً. وحتى لو جمعنا كلَّ المثقفينَ فإنهم سيظلونَ أفراداً لا جماعةً، فيما الوعيُ المستقرُّ والراسخُ في أذهانِ العامةِ هو وعيٌ جمعيٌّ بامتياز. يُمْكِنُ أن نؤثِّرَ في وعيِ أفرادٍ، ولكن ليس بالسهولةِ نفسِها يمكنُ تغييرُ وعي الجماعات.
هذا الوعيُ الجمعيُّ يعيدُ إنتاجَ نفسِهِ بديناميكيةٍ أنشط بكثيرٍ وأكثر فعالية من تلك الديناميكيةِ التي يمكنُ أن يُحْدِثُها نشاطُ المثقفِ لـ “تطويرِ” الوعيِ أو “تغييرِه”، لأنهُ يستمدّ قوّتَهُ من رسوخِ ومتانةِ البنى الموروثة، وهي لا تتداعى كما قد يبدو في الظاهر.
ما يحدثُ حقيقةً هو أنها هي الأخرى تجدِّدُ نفسَها كما تتجدّدُ الخلايا، وتكيّفُ أداءَها مع المستجدّات.
على مرِّ العصورِ واجهِ المصلحونَ والمفكرونَ والمثقفونَ تحدياتٍ من الطبيعةِ نفسها. لكنّ الذي اختلفَ هو تجلّياتُها أو صورُها، لا طبيعتها أو جوهرها.
زمننا الراهن، على سبيل المثال، استحدَثَ صورةَ “الخبير”، ويُرادُ إيهامُنا بأنه بديلٌ للمثقفِ، لكنه، في أحسنِ الأحوال “مثقفٌ تقليديٌّ”، حتى لو ظهرَ ببذلةٍ أنيقةٍ وساعةٍ فاخرةٍ وعطرٍ فوّاح. مأساة عصرِنا، يقول أحدهم، “كون البلاهةِ تفكر”.