تفشّي الفَساد في الدّولِ العَربيّة الأسبابُ والنّتائجُ وآلياتُ المُعالجة
بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري
تعيشُ المنطقةُ العربية عموماً وضعاً شاذاً قسرياً غير طبيعي لا يتناسب مع مواردها وثرواتها وطاقاتها البشرية والطبيعية، وهذه الحالة الشاذة ليست وليدة اليوم والأمس القريب، بل هي منذ زمن ليس بالقصير، حيث ما زالت المنطقة تعاني من الحروب والصراعات والفتن والاضطرابات المستمرة، والأزمات الاجتماعية المتواصلة، وكلها تنال من وجود إنسان وابن هذه المنطقة، وتجعله يعيش على الدوام حالة طوارئ سلبية مكلفة في كل وجوده الخاص والعام.
وعلى ما يظهر ويتضح أن هذا الوضع القسري الضاغط سيبقى كما هو بل وسيسوء أكثر فأكثر على كل المستويات والأصعدة، طالما أن المجتمعات والأفراد لا قيمة لهم في حسابات الدول المهيمنة.. حيث الحلول الجزئية المبتسرة التي تعالج النتائج والتداعيات، دونما التعمق نفي البنية، ومحاولة التعرف على الجذور وأصل المرض..!!.
وعلى الرغم أن مجتمعاتنا العربية والإسلامية دخلت منذ فترة عصر الحداثة التقنية، وانكشفت لها الكثير من تطورات العالم المعاصر، لكن للأسف ما زالت تعتاش (وتتعيّش) على ما يسمى بـ “الحداثة القشرية” الاستهلاكية (التحديث العلمي عبر شراء آلات ومصانع ووسائل جديدة وحديثة، مع بقائها متأخرة معرفياً وتقنياً بالمعنى البنيوي الـتأسيسي)، بما يعني أن أزمةً كبرى تواجهها على مستوى وجودها وفعاليتها الحضاري ودورها الرسالي، وعلى مستوى ضآلة فرصها في تطبيق مشروعها الحضاري التاريخي التنويري، تتمظهر من خلال ما تكابده من مشقات ذاتية وموضوعية، وما تعايشه من تحولات وأوضاع صعبة ومتردية أوصلت بلداننا إلى الدرك الأسفل، أو إلى حافة الهاوية على مختلف الأصعدة وفي مختلف الجوانب الاقتصادية والتنموية والاجتماعية وعلى امتداد الوطن العربي كله.
ولا شك أن هذه الأوضاع الصعبة والخطيرة لا تسر الحريصين على أوطاننا وشعوبنا والعاملين في سبيل رفعة وتطور مجتمعاتنا.. وهي حقيقةً تبعث في النفس مشاعر متضاربة ومتناقضة من الشفقة والحزن والإحباط والرغبة العارمة في تغيير أو على الأقل إصلاح الواقع العربي والإسلامي المعاش المنكوب الذي تؤكده أرقام وإحصائيات وبيانات وتقارير التنمية البشرية الصادرة عن منظمات ومؤسسات وهيئات محلية وعالمية تعنى بقضايا التنمية في منطقتنا العربية..
ولعل من أهم تلك الأمراض التي أثرت على بنية دولنا ومجتمعاتنا، هو مرض الفساد بأنواعه وأشكاله الخطيرة، وعلى رأسه الفساد الاقتصادي المرتبط بالفساد السياسي.. فما أسباب تفشي هذا المرض؟! ولماذا تعثرت عملية مواجهته في عالمنا العربي دون بقية دول العالم خاصة المتقدمة منها؟! أليس الاستبداد سبب جوهري للفساد؟، ولهذا هل يمكن القضاء على الفساد في ظل استمرار السياسات الاستبدادية القمعية؟ ثم ما هو دور وما حدود قدرة “المواطن” العربي على مواجهة غول الفساد؟ وهل من أمل في تحسين أداء الدول والحكومات العربية في مواجهة الفساد مع استمرار هيمنة نظم قمعية فائتة لا تقيم وزناً للقانون والإنسان والقيم القانونية والحقوقية، وتعتبر أن موارد بلدانها مستباحة لها؟! وهل بعد كل ما جرى في مجتمعاتنا العربية، هل من أمل ببروز حركية فكرية وعملية نهضوية لتنوير عربي تقدمي جديد يقوم على الحق والعدل والحرية والعقلانية؟ بحيث يفضي هذا التنوير إلى تحرير الإنسان من الفساد وهيمنة الاستبداد وسطوة الفهم التقليدي للدين، كي ينطلق ليفكر بحرية ومسؤولية وتشاركية بعيداً عن المنغلقات الأيديولوجية التي أسرته وسجنته ضمن معتقلات الفكر الأحادي وأضاليل الوهم التاريخي الزائف.. ليفكر في عالم الوعي والمعرفة بلا وصائية ولا أبوية من أحد، فقد بلغ إنساننا سن الرشد العقلي، ولم يفسحوا له المجال ليتنفس الهواء الطلق.. بما يعني إعادة الثقة إلى العقل نفسه، ليمارس دوره الحقيقي من جديد، بعد عهود من الاستلاب والاقصاء والاستبعاد، على مستوى التفكير والإبداع الحر الخلاق، انطلاقاً من بناء الذات المفكرة العاقلة كما قلنا..؟!.. أسئلة كثيرة وصعبة وشائكة، تعطينا فكرة عن حجم الخراب الذي لحق ببلداننا ومجتمعاتنا خاصة خلال العقود القلية الماضية التي تدخلت فيها دول كبرى حتى في غرف نوم حكامه.. وهذا كله نتيجة الفساد والإفساد الذي سارت عليها نخب سياسية لا يهمها سوى إشباع غرائزها وشهواتها في الحكم والهيمنة والتسلط الأعمى على العباد وثروات البلاد، وبيعها بأبخس الأثمان لقوى الخارج مقابل البقاء الأعمى على رأس حكم شعوبها ومجتمعاتها..
لقد استشرى وتوسَّعَ وتعمّقَ الفسادُ السياسي والاقتصادي والإداري والمالي على نطاقات واسعة في منطقتنا هذه التي هي بالأساس منطقة حطامية منكوبة – كما قلنا سابقاً – بالصراعات والأزمات والتدخلات الخارجية، وحالة أو مرض الفساد هذا تؤكده حالة الاهتراء الاقتصادي لتلك البلدان، مضافاً إليه إحصائيات وبيانات ومؤشرات تقارير ومدركات الفساد التي تعلنها منظمات وهيئات دولية معنية بقضايا الاقتصاد والسياسة الدولية. ومما لا ريب فيه أن الفساد هو أكبر حجر عثرة في طريق بناء أسس التنمية، بكافة أشكالها، بل هو أشبه بالطاعون الذي يضرب الأجساد ويكلف الكثير من الأموال والجهود لمعالجته..
وبلغة الأرقام تم تصنيف مدركات الفساد لحوالي 180 بلداً وإقليماً في العالم من خلال مستوياتها المدركة لانتشار الفساد في القطاع العام، على مقياس يتراوح من صفر (شديد الفساد) و100 نقطة (نزيه جداً). ووفقاً لتقرير منظمة الشفافية الدولية الأخير الصادر نهاية كانون الثاني الماضي، فإن أكثر من ثلثي بلدان العالم يعاني من مشكلة خطيرة مع الفساد، إذ سُجّلت درجات أقلّ من 50، فقد انخفض متوسط الدول العربية على مؤشر عام 2022 إلى 33 درجة من أصل 100.. كما لم تتجاوز أغلب الدول العربية درجة 50 على المؤشر، حيث تواصل شعوب المنطقة صراعها مع ما توصف بأنظمة الاستبداد، ونضالها من أجل حقوقها السياسية والمدنية والاجتماعية.. واحتلت 3 دول خليجية المراتب الأولى عربيا، وهي الإمارات وقطر والسعودية، في حين سجّلت ليبيا والسودان واليمن وسوريا (التي جاءت بمعدل 13 نقطة، ليكون ترتيبها 179 عالمياً)، والصومال أسوأ مستوى للفساد، أي جاءت جميعها في ذيل القائمة عربياً وعالمياً.. وتفاوتت بقية الدول العربية في تدني درجاتها؛ فجاء تحت مستوى النصف مباشرة كلٌ من الأردن وعُمان والبحرين والكويت، في حين انخفضت تونس 4 نقاط مقارنة بالعام الماضي، مع تزايد المخاوف من مواصلة البلاد السير على طريق الاستبداد.. وأما في لبنان (سويسرا الشرق أيام زمان!)، تؤكد التقارير أن انهيار قطاعه المالي منذ عام 2019 ليس إلا نتيجة للإنفاق المفرط والفساد، إذ وصلت الدولة إلى مرحلة عجز عن دفع رواتب الموظفين وضمان الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية والكهرباء والمياه…!!.. ولفت التقرير إلى أنه رغم الاستراتيجيات والخطط التي تضعها (بعض تلك الدول وليس كلها) لمحاربة الفساد، فإنّ الفجوة بين القوانين والواقع ما زالت قائمة، وهي تجعل من الصعب تحقيق النتائج المرجوة، في ظل تفاقم الأوضاع الاقتصادية، وتفشي الفساد خاصة في الدول الريعية اقتصادياً..
وبالنسبة للحلول والمعالجات المقترحة، فقد امتلأت صفحات التقارير بالوصفات العلاجية التي صيغت من قبل اختصاصيين وخبراء اقتصاديين وساسة وعلماء كبار، ولكن دون جدوى حتى تاريخه، إذ أن هؤلاء ليس أصحاب قرار تنفيذي، وليست بأيديهم مفاصل القوة والقرار.
فما هي تلك الحلول؟
لا شك بأن محاربة الفساد لا تأتي على وضعها الصحيح إلا بإعادة الاعتبار للفرد كمواطن له حقوق يجب منحه إياه، وجعله مواطناً سليماً وقادراً على الحضور الفاعل والمنتج في بلده ومجتمعه، فهو نقطة البداية في معالجة الفاسد.. وهذا يتم بالتغيير السياسي ومن خلال البدء بعملية تشاركية فعالة يتم فيها احترام حقوقه الإنسانية.
إذاً البداية من التغيير السياسي، لأن الاقتصاد قطار كبير وطويل، وقاطرته التي تسيّره هي السياسة، فلا بد أن تكون القاطرة خالية من الأعطال حتى تسير بشكل صحيح ومضمون النتائج..
وهذا يعني عملياً إحداث التغيير الجوهري في السياسة، من خلال ردم الهوة الواسعة بين المواطن ودولته القائمة، وبناء الثقة بينهما مرة أخرى من خلال تعزيز الدولة لسيادة القانون.
وما تبقى من أمور يأتي لوحده بعد إحداث عملية التغيير السياسي، وهي الفصل بين السلطات بما يضمن المحاسبة والشفافية، ووجود مؤسسات سياسية ومدنية مستقلة، فعالة وحاضرة، لمكافحة الفساد والمفسدين، بحيث تؤدي عملها وواجبها في ممارسة الدور الرقابي الفعال القائم على محاسبة الأشخاص المتورطين.. وتعزيز واقع الحوكمة الفعالة، سواء في القطاع العام أو الخاص، وكذلك تعزيز قطاع الرقابة الذاتية، والحرص على بناء قضاء مستقل وربط السلطة بالمساءلة.. لتكون المنافسةُ الحرة الشريفة في بيئة اقتصادية يسودها القانون والحقوق، هي ما يحافظ على مصالح الناس بشكل فعال ومستدام، وهي ما يقلل فُرص الفساد والغش دون الحاجة لأجهزة حكومية كبيرة كاذبة لتقوم “بقمع” الفساد والغش..!!.
نعم إن الفساد السياسي (القائم على تأبيد الاستبداد السياسي وهيمنة قوى التسلط المتطفلة على جسم الدولة) هو السبب الأساسي الممنهج الذي ما زال يعيق عملية التقدم الاقتصادي والعلمي في المنطقة، ويزيد من تفاقم انتهاكات حقوق الإنسان، ويعمل على تعميق مواقع الفساد..
وتؤكد كل تجارب البشر أن من أهم شروط نجاح الدول في التقليل من غائلة الفساد إلى درجات دنيا، هو إنجاح القوانين الموضوعة الناظمة لتأمين حاجات الناس ومتطلباتهم والسعي في سبيلها بقوة.. وهذا ينطلق أساساً من ضرورة تقدير ظروف الناس على حقيقتها الواقعية، بأنْ يعيش المسؤول (عن وضع تلك القوانين) ظروف الناس القاهرة وأوضاعهم الصعبة، ويعاني معاناتهم، ويحس على الأرض بإحساسهم، أي أن يخضع لنفس شروط حياتهم القاسية، وذلك ليأتي القانون الموضوع صحيحاً وشاملاً ودقيقاً وأقرب ما يكون للمصداقية وإمكانية التّحقُّق والتجسُّد على الأرض.. بعيداً عن المثالية والخيالية والخلفيات الأيديولوجية.
وهذا كله مرهون للبناء السياسي التعددي، وإقامة نظم المواطنة وحكم القانون التي هي العلاج الأكثر جدوائية وفعالية وديمومة للخلاص من غول الفساد ووحوش الفاسدين، وما أكثرهم في بيئة عربية يفتقر فيها الناس لأدنى درجات المواطنة الحقيقية.