هامش ثقافي

عندما تسقط قيمة الحرفِ.. توقّعوا الكثير

بقلم غسان عبد الله

الأمة التي كانت قد وسمت بأنها أمّةُ القولِ وفنونِ القول، ونقلت منقولها التراثيَّ والثقافيَّ كلَّهُ على مدار أيامها ومسار أمكنتها، عبر النص حيث هو ديوانها، مُسِخَتٍ وتقزّمت.. بأيديها وألسنتها أولاً وقبل كلِّ شيء.

ماذا حلَّ اليوم مكان ذلك كله؟!.. حلَّ اليوم اليورو والدّولار والدّرهم والدينار، مفكراً وكاتباً وشاعراً وروائياً وناقداً، وإشعاعات البورصة والأسهم، وجوانيات القوافل والشركات…عجباً، أوَ لم يكن عند قريش وما حولها كلّ ذلك وأكثر؟!، من قوافل وأموال ورحلة الشتاء والصيف؟!.. أوَ لم يكن عند العرب درهمٌ ودينار؟! بلى، ولكنّ الدينار كان في مكانه الذي لا يستقيم أن يبلغ فوقه، وكانوا هم فوقَ دنانيرهم، اليوم هذه الدنانير أصبحت تضع نفسها فوقنا!.

كان الشعر ديوان العرب، يوم كانوا عرباً، وكانت هناك شيم وشمائل العرب، وخصائص العرب، وكان الشاعرُ رائداً في أهله يلوذونَ به، يوم كانوا أهلَهُ بحق، يومَ كان هناكَ الكثير، ليسَ فقط إيماناً ويقيناً لقيمة ما يقال وقيمة القائل، بل أيضاً يوم كان هناكَ ثقةٌ بالنفس واحترام للذات ووقوفٌ عند منتهى الجلال والعزّة، ومعرفةُ الزَّبَدِ من الزُّبْدَة.

هذه الأيام، تشهد عرباً آخرين، وتشهد عروبة أخرى….. أيُّ عربٍ نحنُ اليوم؟! ليسَ أدنى الأمر أن يعرِضَ شاعرٌ فيها كُلْيَتَهُ للبيع، فاليوم هناك عددٌ من الكتّاب في أكثر من بلدٍ – عروبي بامتياز – لا يَجِدون كليةً لهم، تنقّي سمومَ جسَدِهم فيقضونَ بداءِ الكلى، ثمّةَ كاتبةٌ مغربيةٌ، كتبت قبل عام “هم ينتظرون موتي”، وتُجاب إلى نقل كُليةٍ في فرنسا، وفقط في فرنسا مع أنه كما قالت كان متاحاً لها في القاهرة، إلا أن الإجابة التي جاءتها أن لا تَعَامُل إلا مع فرنسا في هذا الشأن، هل هي البيروقراطيات أم هي العبثيات؟! لا ندري ولكن ندري فقط أن هذه الكاتبة لم تولد في قبيلة عربية، على أبوابِ عُكاظ مثلاً ليكون من حقها آنذاك، أن يُحكم لها أو أن يُستجاب لها، في أي قبيلة تستضاف؟.

هذه الكاتبة لم تجد قيمة خمسين ألف دولار، لإجراء عمليتها كما كتبت بنفسها، في ندائها!!.. ولو أنها ضربت الدف أو هزّت الخصرَ أو نقلت القدم، لوجدت خمسين ألف متبرّع بالكلية وما هو أكثر، ولو أنها حادَتْ عن فُصحاها وفصيحها، لنالتْ مليوناً بيُسرٍ من مجلاتٍ وفضائياتٍ ومؤسساتٍ، مشكلتها أنها أصرّت على ما علمته في لسان العرب، لكنها ما كانت تخاطب هؤلاء، بل نسخة تالفة من الصورة أسقطها برنامج معالجة الصور.

وطبعاً أكبر مشكلة لدى هذه الكاتبة المغربية، أن كليتها الروحية كانت عاملة بامتياز، فهي لم تكتب عامدةً متعمّدةً بالفرنسية لاعنةً عروبتها، فلو فعلتْ يوماً لوجدت عشرات الأبواب، الثقافية الحداثية المعولمة “الإنسانية” التي تتولى كلية جسدها، لو قبلت أن تكون كذلك لما نُعِيَتْ على هذه الصورة البشعة، وبهذا السبب “المعجز”!.

حتى نقابات المجرمين، وعصابات الأشقياء والمافيا، لا تترك مصائر أولادها.. كيف يمكن الاطمئنان إلى قول بأن هناك ثقافة عربية ومؤسسات لها ووزارات من أجلها؟.. كيف يمكن القول أن هناك مثقفين عرباً وأن هناك فعلاً لهم غير أدوار المراقبة بدون إرادة؟!..

دولار واحد من كلِّ كاتبٍ عربيٍّ كان يمكن أن ينقذ حياة هذه الكاتبة، دولار واحد فقط منا أيها الزملاء كان من الممكن أن نقول إننا أفضل من المافيا قليلاً….

قيل إن هناك من تبرّع للقيام بهذا الواجب، وقيل هناك من تكفّل به كله، ليس عندنا ما يقطع واقعاً، فكثيراً ما سمعنا بمثل ذلكَ وكثيراً ما بقيت الأفعالُ عند قيل!.

وفروا مراثيكم ودموع نصوصكم، ونحن معكم كذلك موفِّرين، وحدَه من عَلِمَ في حينهِ وحاولَ من أجلها شيئاً مهما كانت نتيجته، يحقُّ له أن يودِّعها اليومَ، ولا نقول يرثيها، فمن يا تُرى يستحقُّ الرِّثاءَ حقاً؟!.

أما أنتِ أيتها القبائل العربية الحديثة جداً.. مرحى لكِ..  ومرحى لأشاوسك، قولوا لهم اطمئنوا تماماً، فكتاب الآخر “غينيس” مفتوحٌ لكم، كي تسجّلوا فيه الرقم القياسي، بين الأمم والشعوب، في كُرهِ أنفسِكُم، واحتقاركم لأدبائكم ومثقّفيكم، وشحذِكُم السكاكين على جثث المثابرين فيهم، ولا عزاء لهؤلاء الحمقى فيما يحاولون.

لا عجب أيها السادة، لا عجب.. عندما تسقط قيمة المفردة وقيمة الحرف، توقعوا الكثير، فمع سقوطٍها وفي ذاتٍ اللحظة، تسقطُ الأخلاق ولا تقوم بعدها، لم أستغرب هذه الجريمة الثقافية على أي حال، ولكنَّ مُبدعينا اليوم شهداء لأمة كانت هنا، بقيت منها بعضُ جيوبٍ هنا وهناك، تنتظر متى تسجَّل “ضحية جديدة” لواقعٍ مزري، هو فضيحة دولية بكل المقاييس.

رحمَ الله كلَّ مبدعٍ من أمّتنا مات بسبب الفاقة ولم يجد من يُسعفَهُ بقليلٍ مما هو كثيرٌ لديه، رحمهم الله.. رحلوا إلى الأحياء، وخلّفوا في الأموات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *