“إسرائيلُ” في قلبِ عقلية وثقافة وعقيدة “التّمركز الغربي”
بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري
احتاجَ الغربُ لأدواتٍ فاعلة وقوية لتمرير عقيدته وثقافته القائمة على القوة والهيمنة واستمرار تدفق وتمرير المصالح المادية الهائلة له في منطقتنا التي حباها الله بالموارد والطاقات والموقع الاستراتيجي.. ومن هو أفضل وأهم وأكثر حيوية وجدوائية من إسرائيل للقيام بهذا الدور وتلك الوظيفة الدائمة والمستمرة ما استمرت وبقيت مصالح الغرب في هذه المنطقة..
لقد جرت عملية تأسيس إسرائيل (كدولة أو ككيان سياسي عسكري يحظى بالرعاية الدائمة ويشحن باستمرار بكافة أشكال وأنواع ومستويات الدعم المادي المالي والعسكري والتقني وغيره) على هذا الأساس المصلحي والتبادل النفعي المادي الذرائعي.. فالغرب يريد أن يبقى موجوداً في منطقتنا، بعد الانتهاء من عقيدة الاستعمار الكولونيالي الغربي المباشر في احتلالاته وانتداباته التي كانت مكلفة له على الدوا، مالاً وعتاداً وعدة.. هذه الموجودية الغربية إذا صح التعبير، يمكن أن تكون أكثر نفعاً وأقل تكلفة عليه، حيث المقابل السياسي والاقتصادي قليل، والمردودية أعلى بكثير.. ولهذا جاء هذا البقاء الغربي من خلال تمكين إسرائيل وتقويتها وتحويلها لدولة حقيقية، حيث كان لا بد من تهيئة أجوائه وظروفه وخلفياته السياسية والثقافية والتاريخية.
من هنا إذاً انطلقت فكرة “إيجاد وطن قومي لليهود” في فلسطين، قلب الوطن العربي، وقلب منطقة “الشرخ وليس الشرق الأوسط”، وبدأت تحظى بالدعم المطلق من قادة ورموز الغرب الذين سعوا بقوة لتمكين مجموعات من شراذم العصابات (واللوبيات المالية والاقتصادية التابعة للجاليات اليهودية، المهيمنة على كثير من مفاصل وأسواق المال في الغرب)، في بناء كيان سياسي -عسكري – أمني – اقتصادي على أرض فلسطين، بعد تهجير أهلها، وقتل من يرفض منهم، مستندين لحق تاريخي مزور وأجوف أسهمت في صنعه عقلية وعقيدة “التمركز الغربي” القائمة أساساً على رفض الآخر غير الغربي (خاصة العربي المسلم) والاستعلاء عليه.. وهي صورة أو ثقافة أو عقيدة أسهم كثير من فلاسفة الغرب الحديث في تثبيتها وترسيخها، ليجعلوها مستندة على التفاوت والتمايز المادي والمعنوي بين غرب سامٍ رفيعٍ عقلياً وفكرياً ودينياً وعرقياً، وعالم آخر (العرب والمسلمون جزء أساسي ورئيسي منه) أدنى وأحط وأقل مستوى عقلياً وغير عقلي..
من هنا كان التنسيق والتداخل المصلحي النفعي بين إسرائيل والغرب الذي جعل هذا الكيان جزءاً منه، من عقله وقلبه وعقيدته التي تتوافق وتتماشى مع عقيدة التفوق الصهيوني على بقية شعوب الأرض..
لقد جاءَ الدعم الغربي المطلق لإسرائيل ليس فقط انطلاقاً من عقدة الذنب (السياسية الخبيثة) المتوارثة تجاه اليهود، والتي تعرض فيها هؤلاء للاضطهاد والاحتقار والتعامل الدوني في بعض مجتمعات دول الغرب، وإنما جاء أيضاً وبالعنوان الأولي نتيجة التشابك الثقافي والمادي بين عقيدتين تتأسسان على الفكرة ذاتها (التفوق والتمركز والعنصرية)؛ وهذا ما يؤكده التاريخ الثقافي والعملي للغرب، فقد اتخذت الكنيسة منذ أكثر من /1600/ عاماً قراراً بوضع العهد القديم (النسخة التي تم تداولها من التوراة) في صعيد واحد أو في دفة واحدة مع العهد الجديد (الإنجيل)، وكان لهذا القرار الدور الأهم في الدفع باتجاه قبول العقيدة اليهودية والدعوة إليها في مجتمعات الغرب المسيحية، حيث أُجبر المسيحيون على اعتبار أن التراث الديني اليهودي والتراث الديني المسيحي يرجعان لأصول حضارية دينية مشتركة، بل هما وحدة دينية واحدة لا تتجزأ ولا تتبعّض..!!. هذه الثقافة التي توارثتها أجيال الغرب – على مدى قرون طويلة – رسّختْ لدى الغرب فكرة وعقيدة أن اليهود هم فعلاً أهل فلسطين الحقيقيين، وأنّ الله وعدهم بها عن حقّ وحقيقة..!!. ولا بد من السعي لتمكينهم فيها..!!.
وقد يعترض علينا البعض هنا قائلين، بأن هناك عداءً تاريخياً عقيدياً بين الغرب واليهود، وبالتالي ما معنى أن تقول بأن مجتمعات الغرب تدعمهم وتسعى في طريقهم تمكيناً وترسيخاً؟!..
في الإجابة نقول بأنه لا شكّ بوجود خلافات ومظاهر بغض وعداء تاريخية عقائدية دينية بين اليهود وقسم كبير من المسيحيين، لكن على الرغم من ذلك لم يتأثر موضوع دعم اليهود أبداً، حيث ترسخت لدى الثقافة المسيحية مقولات وأفكار ونبوءات دينية تؤكد على أن هذا الدعم لليهود هو واجب وجوباً دينياً، كونه شرطاً من شروط التمهيد لعودة المسيح مجدداً إلى الأرض للقضاء على غير المؤمنين بالمسيحية وسحق المجرمين ومن بينهم اليهود أنفسهم..!!.. بما يعني أن الدعم الذي تتلقاه دولة العصابات الصهيونية يأتي من باب التعجيل بعودة المسيح بحسب عقيدتهم.. وليس من باب محبتهم ومودتهم والإشفاق عليهم..
وكما يؤكد د. محمود حيدر، فإن الإنجيلية الدينية في الولايات المتحدة بقيت وما زالت تنظر بشكل مميز وفريد إلى دور الشعب اليهودي في العالم الحديث. فمن ناحية، يتبنى الإنجيليون النظرة المسيحية الواسعة الانتشار القائلة بأن المسيحيين هم الوارثون للوعود التي قطعها الله للعبرانيين القدامى. لكن على عكس العديد من المسيحيين الآخرين فإن الإنجيليين يؤمنون بأنه ما زال للشعب اليهودي دور في خطة الله. وقد ظهرت في القرنين السابع عشر والثامن عشر، دراسات معمقة للنبوءات الواردة في الكتاب المقدس أقنعت المفكرين الإنجيليين كما المؤمنين، بأن اليهود سوف يعودون إلى الأراضي المقدسة قبل العودة المظفرة للمسيح.
نعم هناكَ صلة عميقة – يمكن القول بأنها تكوينية ذاتية المنشأ – بين التوراة والتلمود اليهودي – المؤسس لدولة إسرائيل – واللاهوت الإنجيلي المؤسس للأطروحة الأمريكية في معانيها ومفرداتها الثقافية والسياسية العملية.. حيث أن المشترك التأسيسي بين أميركا وإسرائيل يقوم على معنيين مركزيين يُظهران وحدة النشأة والسلوك والممارسة، المعنى الأول: السمة الاستيطانية لكل من الولادتين الأميركية والإسرائيلية. وذلك على القاعدة التي تقول بوجوبٍ إحلالٍ شعبٍ لا أرضَ له، في أرض لا ينبغي لمن عليها أن تكون له أرض.. والمعنى الثاني: السمة اللاّهوتية التوراتية، التي تُبرز على الدوام البعد الميتافيزيقي للظاهرتين الأميركية والإسرائيلية، بهدف إضفاء طابع استثنائي ورسالي على كل منهما. وبالتالي جعل كل سلوك وممارسة، ينطلقان من “حقّانية” مزعومة للشعب المختار. وبأنّ ما يفعله هذا “الشعب” هو حقّ يستمد مصادره المتسامية من الحق الإلهي..
هذا الحق الاستعلائي المزعوم (وهو مركب من الاصفاء والفرادة والشعور العنصري بالتفوق ضد آخر مغاير يجب التشكيك به دائماً) تحول لمشروع قتل وتصفية لشعب ووطن وأمة بأكملها، باتتْ معها منطقتنا كلها – منذ تأسيس هذا الكيان الإرهابي – ساحات واسعة للحروب والصراعات والمنازعات والفتن والاضطرابات.. والذي زاد فيها من حدة تلك الحروب وتصفية الحسابات، هو وجود الكثير من التناقضات المزروعة في عمق جوف تكوين الأمة التاريخي والحضاري، جعل أنهار الدماء لا تغيب عن ميادينها وساحات مدنها وبلدانها تحت ذرائع وحجج دينية ومذهبية وعرقية وجهوية وغيرها…
نعم، جاءت ولادة إسرائيل لتكون الصاعق الذي تم ويتم من خلاله تفجير كثير من قنابلنا التاريخية الموقوتة (جغرافية وتكوينات تنوعية بشرية وموارد طبيعية)، والتي لم يتم العمل على حسمها (سياسياً وثقافياً حضارياً) منذ أزمان طويلة، فكانت النتائج كارثية، جاء على رأسها الكارثة الأكبر والأعظم وهي: خسارة أرض فلسطين كجغرافية ذات خصوصية فريدة؛ وهيمنة قوى الغرب من خلال إسرائيل على خيرات المنطقة وثرواتها ككل، وتحكمها بكل مفاصل وارتكازات منطقة الشرق الأوسط، حيث تحولت لتكون حارساً حقيقياً لمصالح الغرب فيها..
ثم يأتينا من يسأل مستغرباً عن أسباب تلك الهيمنة الصهيو/غربية، وعلو كعبها، وشنها للحروب والصراعات بين وقت وآخر..!!..
نعم الغرب يتحمل مسؤولية كبرى وجوهرية في استمرار تدفق دماء الأبرياء في منطقتنا، ولكن نحن العرب والمسلمين نتحمل مسؤولية كبرى أيضاً، في تضعيفنا لأنفسنا، وتفرقنا على حقنا، والسماح للغرباء بالاستحكام علينا ونهب خيراتنا… وهذا ما جعل منطقتنا هذه، (وهي منطقة الثروات والموارد والخيرات والأديان والتنوعات)، محكومة بالصراعات والتناقضات والحروب وسيلان الدم، أكثر بكثير مما هي محكومة بالأمل والهدوء والاستقرار والأمان والسلام الفردي والمجتمعي.. حيث أن بنيتها ونوياتها التاريخية بقيت (وتبقى) كالنار تحت الرماد (نتيجة عدم حسمها ومعالجتها)، قابلة للاشتعال في أية لحظة، فما بالك وحولها أبالسة الأرض وشياطين العالم يتحركون ويتدخلون ويتداخلون ويثيرون، ويستثمرون في تناقضاتها وتعقيداتها وحتى في تنوعاتها..!!.
إننا نعتقد أنَّ العلاجَ الحقيقي لأمراضنا (التي يستغلها ويستثمر فيها الغرب وخنجره الصهيوني) يبدأ من الداخل، والتغيير لا محالة ينبغي أن ينطلق منه.. وهو تغيير يقوم على إنهاء جذور الاستبداد والفساد، كمقدمة لإنهاء كيان الإرهاب المقيم على أرض فلسطين.. إنها معادلة فكرية وسياسية وحضارية لا تقبل المساومة ولا التعديل.. لا بد للعرب من السعي لتحقيقها في إعادة الاعتبار لدولة المواطنة، الدولة الوطنية القادرة والقوية والعادلة.. وهذا الهدف لن يتحقق إلا بإشاعة الثقافة الديمقراطية الحقيقية، ثقافة مبادئ تعدد الأفكار والأديان وحرية الاعتقاد، وحق الناس في الاختلاف وممارسة النقد البناء، ونبذ ثقافة التعصب والإقصاء، وعدم استخدام العنف، واتباع سبل السلام في حل الخلافات السياسية.. وهذه هي أول خطوة على درب تعافي العرب ونهضتهم الحقيقية واسترجاعهم لحقوقهم المهدورة والمستلبة، وعلى رأسها حقهم في فلسطين.