السياسي.. المثقف.. المواطن
بقلم غسان عبد الله
تحدثنا كثيراً عن الثقافة وعن أهميتها في الـ “هامش الثقافي” وتعرّضنا للمثقف وتعريف عدّة شغله في العديد من الهوامش.. لكن هنا سنسأل من جديد من هو المثقف وما هي علاقته بالسياسي.
المثقف هو ذلك الإنسان الذي يتمتع بقدر لا بأس به من رصيد معرفي، ويكون ذا اطلاع عام على الثقافات، لاسيما الحديثة منها، ويكون ذا استعداد على مواجهة الموروث بنظرة ناقدة وفاحصة. من غير استسلام للمسلمات من أفكار وتقاليد وبديهيات دينية، لأن كل ذلك يقود إلى الجمود، وأجواء الجمود لا يمكن أن تنتج ثقافة، أو تتفاعل مع مفرداتها، لأن الثقافة لا تكون إلا حيث يكون الإبداع، والإبداع لا يكون إلا حيث تكون الحرية، الحرية من الخارج، والحرية من الداخل.
أما الحرية من الخارج فالبيئة المثلى لتحقق الحرية الثقافية هي النظام الديمقراطي العلماني، علاوة على البيئة الاجتماعية التي تتمتع بثقافة الحرية.
والحرية من الداخل، تعني أن يمتلك المثقف عقلاً حراً يمكّنه من الإبداع. فإن المثقف لا بد أن يتمتع بأي قدر من ملكة الإبداع، فلا يكون مجرد متلق للأفكار، بل محاورا وناقدا لما يتلقاه، فتلقيه تلق واع. ثم لا بد ألا يقتصر على التلقي، بل أن يكون هو، وبمقدار، كثر أو قل، منتجا لأفكار، أي متمتعا بروح التجديد والإبداع.
والمثقف لا يكون مثقفاً ما لم يتمتع بديناميكية، ومواكبة للتطورات الفكرية، ولا يكون ذا قناعات ستاتيكية صلدة.
إذن المثقف هو بنسبة ما مفكّر، أي مزاولٌ للفكر والتفكير، وعليه أثناء مزاولة عملية التفكير التمتّع بشكل عام بقابلية ذهنية تحليلية ونقدية للعناصر المتلقاة، سواء كانت هذه العناصر عبارة عن تجارب، أو أحداث، أو أفكار، أو رؤى أو نتاجات فنية. هذا مع القدرة على الإبداع المعرفي، كما سلف، وعدم الاقتصار على التلقي الواعي.
والمثقف بالضرورة محاورٌ جيد، يستمع بشكل جيد، لا يدّعي امتلاك الصواب المطلق والنهائي، يتقبّل الرّد على أفكاره ونقدها، لا تهمه في الحوار الغَلَبَة على مُحَاوِرِه، بقدر ما يهمه أن يكون هدف الحوار عنده التفاهم، وتبادل الرؤى، والتقارب، بالبحث عن المشتركات. والمحاور المثقف موضوعي، يبتعد عن شخصنة الحوار، وليست له عقد تجاه مخالفيه، كما له القدرة على الإقناع، مع الاستعداد على الاقتناع.
أما السياسي، فيمكن أن نقول إنه، ونعني بلا شك السياسي الملتزم في النظام الديمقراطي، هو ذلك الشخص المعني في نشاطه واهتمامه بالشأن العام، أي الذي يحمل هماً، ويزاول اهتماماً بالشأن العام، وعلى رأس ذلك شؤون الدولة، ومسؤولياتها تجاه البلد والمواطن، وبشؤون المجتمع، فيحمل رؤيةً لحلِّ كلٍّ من مشاكل المجتمع، ورؤية لسبل تلبية احتياجاته، والعمل على تطوير الوضع العام في مختلف الميادين، التي جرى الإشارة إليها، وإصلاح ما يرى الإصلاح منها، ومعارضة ما يرى معارضته لها.
كما ينبغي أن يكون للسياسي حدٌّ أدنى من الإحاطة بالرؤى السياسية المختلفة، وله موقف من كل منها تأييداً، أو معارضة، على ضوء متبنياته وتشخيصه للأولويات، وكذلك حد أدنى من الإحاطة بميادين السياسة، والنظريات والبرامج السياسية. كما يرجّح للسياسي أن يتمتّع بحدٍّ أدنى من الالتزامِ بالقيمِ الأخلاقيةِ (النزاهة، الصدق، الوفاء بالعهد، …)، باعتبارِها تمثّلُ إلى جانبِ الرقابةِ البرلمانيةِ والرقابةِ الشعبيةِ ورقابةِ منظماتِ المجتمعِ المدنيّ، ضماناتٍ ذاتيةً لجعلِهِ المصالح العامة للبلد ولمواطنيه تتخذ موقع الأولوية في مواقفه وقراراته وبرامجه، فلا يقدم عليها المصلحة الشخصية، أو مصلحة فئة دون أخرى من المجتمع، سواء كانت تلك الفئة جماعة منتمية لدين، أو طائفة، أو قومية، أو عشيرة، أو أسرة، أو منطقة، أو طبقة، أو حزب. وإن من مهامِّ السياسيِّ الارتقاء بالمجتمع، وهذا ما لا يستطيع أن يضطّلعَ به إلا من ينتمي إلى النخبةِ التي تتحلى بالرُّقِيّ، لأن الارتقاءَ يشترطُ الرقيَّ، كون فاقدَ الشيء لا يعطيه، وأعني الرقي في المفاهيم، والقيم، والذوق.
وكما بينّا في المثقفِ، وحيث نطمحُ في السياسيِّ، أن يتمتع بقدرٍ من صفاتِ المثقفِ، يحتاج السياسيُّ إلى التّمتُعِ بثقافةِ الحوار، وقد مرّ ذكرُها، كلازمٍ من لوازمِ شخصيةِ المثقف. ثم إن السياسيَّ فيما هو قائدٌ، ومسؤولٌ، والقائدُ لا يكون قائداً، ما لم يكن قدوةً، والمسؤول لا يكون مسؤولاً، ما لم يتمتع بأعلى درجة من الشعور بالمسؤولية، وإلا فهو معرّض للمساءلة والمحاسبة.
الثقافة تتطور وتنمو وتتألق في الوسط الثقافي، وعندما يتحلى بها السياسي كمنتم للنخبة المسؤولة، وعندما تعطي أكلها تأثيراً في المجتمعِ، بتوسيعِ الوسَطِ الاجتماعيِّ المتعاطي والمتفاعلِ مع مفرداتِ الثقافة، وبتوسيع الوسط الاجتماعي الذي يحمل الهم العام، ويتابع السياسة لا كهواية، بل من موقع اهتمامه بالشأن العام، فلا يقف من السياسة موقف اللامبالاة ويتخذ اللاموقف، بحجة أن لها أهلها. فيكون، أي هذا الوسط الاجتماعي المتعاطي للثقافة والمهتم بالشأن السياسي عاملاً معضداً لعملية الارتقاء.
من هنا يكون لدينا لعملية الارتقاء بالواقع مثلث متكامل بأضلاعه الثلاثة، السياسي، المثقف، المواطن. السياسي المتعاطي للثقافة، والمثقف المهتم بالسياسة، كونها شأناً عاماً، والمواطن المبالي بالشأن العام وبالتالي بالشأن السياسي، والمتفاعل مع الثقافة والفن.
وتكتمل شروط الارتقاء بالواقع عندما يكون هناك تفاعل متواصل بين هذه الأضلاع الثلاثة، التي لا يمكن أن يؤدي دورها المطلوب ضلع واحد دون الاثنين الآخرين، بل ولا يكفي الضلعان دون ثالثهما. الثقافة من شأنها توسع الأفق المعرفي عند شخصية المتعاطي، وتعمق البعد المعرفي فيها. وأن تنمي الحس الإنساني لديه. وأن تشده إلى الجماليات، وبالتالي تشذب وترقي عنده الذوق وتنمي الروح النقدية. وتحفّز على التجديد والإبداع.
وكل هذا وغيره، إذا تحقق في السياسي، علاوة على اهتمامه بالشأن العام، وحمله للهم العام، وما ذكرناه عن مواصفات السياسي في النظام المثالي، فإذا تحققت هذه الصفات التي ذكرت آنفا في السياسي، كان لدينا سياسي واسع الأفق، عميق المعرفة، ذو حس إنساني مرهف، مشدود إلى كل ما هو جميل، سواء الجمال المعنوي أو جمال الشكل، راقي الذوق، محاور جيد، ذو نزعة نقدية تحثه على تصحيح ما يجب تصحيحه، وذو قابلية على الإبداع والابتكار والتجديد. فلنتصور كيف ستسير العملية السياسية، ويقودها هكذا سياسيون، شذبتهم الثقافة، وارتقت بشخصياتهم.