قصاصات من الأرشيف.. “الطغاة الحضاريون”!!
بقلم غسان عبد الله
اعتدتُ منذ وقت طويل أن أقصّ أو أدوِّنَ المعلوماتِ الهامةَ التي تَلْفِتُ النظرَ، كلما تصفحتُ جريدةً أو قرأتُ مجلةً أو كتاباً، واحتفظُ بتلك القصاصاتِ والمعلومات في أرشيفٍ خاص، حتى بات عندي من ذلك، الشيءُ الكثير.
كما جرت العادة أن أعود بين الحين والآخر إلى ذلك الأرشيف وأتصفّح ما تيسر منه، فأفاجأ بتلك المعلومات التي قد تكون مدهشةً أو غريبةً أو تبعثُ بالغضبِ والحزنِ، فأسائلُ نفسي: لماذا أُبقي على هذه المعلومة أو تلك حبيسة الأرشيف، ولا أُخرجها إلى دائرة الضوء مرة أخرى..!؟. وعندما رأيت التساؤلَ واقعياً ومشروعاً، قررت أن أسرد بعضاً من تلك القصاصات والمعلومات أول الكلامِ على صفحات البلاد، كلما اقتضت الضرورةُ ذلك، على أن تدور ما تحتويه القصاصات أو المعلومات حول موضوع واحد.
من تلك المعلومات على سبيل المثال، ما ذكره تويدورف في كتابه “فتح أمريكا.. مسألة الآخر”.. أن الأب “أبيدو” كان من أوائل الغازين للهنود الحمر في أمريكا اللاتينية، وهو الذي قال حين ذاك: إن الربَّ سوف يقضي عليهم قريباً.. لقد طُرد الشيطانُ الآن من هذا المكان، وتلاشى كلُّ نفوذٍ له بموتِ غالبية الهنود”، ويقول أيضاً: مَنْ يُنكِرُ أن استخدام البارود ضد الوثنيين هو بمثابة حرق البخور لربنا؟!!..”.
هذا ما قاله ذلك الرجل الأبيض، فقَتْلُ الوثنيين..!! ما هو إلا نوع من تقديم القربان للرب، والربُّ من وجهةِ نظرِ الرجلِ الأبيضِ، يباركُ هذا العملَ الدينيَّ المقدَّسَ ضدَّ الهنودِ الحمر..!!.
ويثبت تويدورف في الكتاب نفسه أن كريستوفر كولومبس كان مسكوناً بشبح الحروبِ الصليبيةِ، فقد كتبَ إلى مَلكِهِ الإسبانيّ يخبِرُهُ بأن الهدفَ من حملته في أمريكا، هو جَمْعُ الذهب، بهدفِ تجهيزِ حملةٍ عسكريةٍ لتحريرِ بيتِ المقدس من المسلمين.
وبما أن الأمريكيين الأصوليين من ذوي الثقافة اليهودية، فإنه لن يهنأ لهم عيشٌ ولا يطمئنَّ لهم بالٌ إلا بعد أن يصنعوا لأنفسهم في كل مرحلةٍ حياتيةٍ مقبلةٍ عدواً – شيطاناً، يحاربونَهُ باسم الرب، وها هم قد وجدوا ضالّتهم في العرب والمسلمين.
فبعد أحداث الحادي عشر من أيلول أطلق بوش الثاني شعارَ الحملة الصليبية ضد الإرهاب، وتبعه الجنرال “وليم بوكين” مساعد وزير الدفاع رامسفيلد للاستخبارات العسكرية، عندما تحدث عن حربه الأيديولوجية ووصف الإسلام بـ: “الشيطان الذي لا بد من الانتصار عليه إذا خضنا الحرب باسم المسيح”.
وبوكين هذا هو الذي سعى لإرسال “جيفري ميللر” مدير معتقل غوانتانامو لاستلام إدارة سجنِ “أبو غريب” في العراق، وهو المسؤول، بشكلٍ أو بآخر، عن تعذيبِ المعتقلين العراقيين، باعتبارِهِ من أبرزِ المسؤولين في الاستخبارات العسكرية الأميركيةِ المتهمةِ بالجرائمِ غير الأخلاقيةِ بحق السجناء العراقيين في “أبو غريب”.
ولكن إذا ما عدنا إلى جذور الثقافة الأمريكية لوجدناها ترتبط بمسائل عرقية ومصالح اقتصادية وسياسية، فالصراعُ فيما سبق لم يكن بين المسيحية والوثنية، بل كان بين الكاوبوي الأمريكي والهنود الحمر، والآن ليس هو صراع بين المسيحية والإسلام، وإنما هو بين الصهيونية والكاوبوي الأمريكي الحديثِ من جهةٍ، وبين العرب والمسلمين من جهة ثانية.
وخيرُ تأكيدٍ على ذلك ما تحتويه القصاصةُ التي بين يديَّ، وهي من مقالة بعنوان “حضارة المحبة” للأرشمندريت سليم غزال الرئيس العام للرهبانية المخلصية في لبنان، والذي يقول فيها: لقد عشنا في لبنان معاً مسيحيين ومسلمين، يجمعنا تاريخٌ واحدٌ وهويةٌ واحدةٌ ومصيرٌ واحدٌ، وإذا كان الإسلامُ قد اتسع للمسيحيةِ في رحابه مدى أربعةَ عشر قرناً، فهذا دليل على رحابةِ الإسلام وسماحتهِ الدينيةِ والإنسانية، وإذا كانت المسيحيةُ المشرقيةُ قد عاشت في كنف الإسلام طوال هذه المدة فهذا دليلٌ على تجذّرِها في هذا المشرق أولاً، وعلى انفتاحها على الإنسان واستعدادها للتواصل مع الآخر في مدى يتسع للقيم الروحية المشتركة، ويؤدي بنا إلى الله”.
وفيما يتعلق بإبادة الهنود الحمر التي قام بها الكاوبوي الأمريكي، تقول قصاصةٌ أخرى إن رئيس الوكالة الأمريكية لشؤونِ سكان أمريكا الأصليين أَصْدَرَ اعتذاراً عن الأخطاءِ التاريخيةِ التي ارتُكِبَتْ ضدَّ أولئك السكان، والتي تركت ميراثاً من الخِزي والعارِ والنَّقِمة، متناسياً ما قاله الأب “أبيدو”: “إن استخدام البارود ضد الوثنيين هو بمثابةِ حرقِ البخور لربنا”. وقال: إن الوكالة يجب أن تتحمَّلَ مسؤوليةَ الممارساتِ العنصريةِ وغير الإنسانيةِ التي حدثت في الماضي. وقد جاء هذا الاعتذارُ بمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين بعد المائة لتأسيسِ تلك الوكالةِ، وبعد خمسمائة عامٍ من بدءِ القضاءِ على الهنودِ الحمر الذين كان عددُهُم في القرن الخامس عشر نحو مائتين وخمسين مليون نسمة، وهم الآن لا يزيدون عن ربع مليون فقط.
وبعد هذا الاعتذارِ الأمريكيِّ “المبهجِ”..!! ألا يحق لنا أن نسأل: تُرى بعدَ كَم من القرونِ سوف يقدِّمُ الكاوبوي الأمريكي اعتذاراً عن الجرائمِ التي ارتكبها ويرتكبها وسوف يرتكبها، هو والصهيونية التي يدعمها، بحق العرب والمسلمين..!!؟. وهل حقاً ما يجري من حربِ إبادةٍ جماعيةٍ بحق أهلنا في فلسطين وخصوصاً المجازر اليومية بحق أهالي غزّة سوف يستجلب اعتذاراً بعد قرون؟!.
نعتقد أن ذلك لن يستجلب أيَّ اعتذارٍ لأنه فعلاً بالنسبة لأمريكا بايدن أو أمريكا ترامب هو مسألةُ الدولةُ العميقة بما فيها المحافظون والديمقراطيون..
نعم.. نحنُ بالنسبة لأمريكا وثنيون طالما أن ديننا ليس ضمن الوكالة الأمريكية لشؤون سكان أمريكا الأصليين.. وإن استخدام البارودِ ضدنا.. هو بمثابةِ حرقِ البخور لربهم الذي ربما يكون تمثال الحرية المزروعِ في ذاكرتنا الثقافية رمزاً صنماً لا نُدرِكُ كنهَ تعبيره فعلاً إلا حين تنجلي الشعلةُ في يد التمثال ليضحي زيتَها المستمرَ ذاك الدمُ المسفوحُ على أقدامِ الطغاةِ الحضاريين.