انهمارُ النزيفإلى صديقي الذي أُثخن بجراح “النداء”
بقلم غسان عبد الله
ماذا تبقّى من دماكَ وقد غدّتْ مزقاً مبعثرةً على كلِّ البطاحْ؟! وتحارُ بين دخولِكَ المنفى وبينَ دخولكِ الوطنَ المباحْ.. ما كلُّ من قرأ التفاصيلَ الجميلة قادرٌ أن يستضيء بنارها أو يحتوي صوتَ الجراحْ!!
بالأمسِ.. هزّتْك المدينةُ مرتين كانَ البغاةُ على المشارفِ يرسلون شرارهم.. وغدوتَ بين القومِ وجهاً ضائعاً بين الوطن المسبيِّ والألغامِ والأوجهِ الغريبة.. نادوا… تقدّمْ يا فتى الإشراق وما ذكروا شمسكَ المضيئة.. ونفرتَ مؤتزراً بحبّك غاضباً.. ها أنتَ تركضُ نحو تاريخِ استلابِكَ واقترابكَ من حدودِ الطعنةِ الأولى وتسلمكَ المدينةُ للوعودْ.. ها أنتَ وحدكَ والظعائنُ لم تزلْ تمتدُّ بين السبيِ والسبي الجديدْ وتصيحُ القريةُ – “ويكَ فارسُ أقدمِ…”..! نادَوا: حيا الله يا ابنَ الفداء والضراعة.. ورُدَّ الأرضَ نمنحْك الأمانَ والحياةْ.. فاجأتْك ومضةُ بارقٍ.. وعلمتَ أنّكَ لن تكونَ سوى الضحيةْ.. فإذا أُرْديتَ تناوحوا وتهامسوا.. وتسارعوا.. كي يحفروا قبراً يهيلوا الرملَ.. تنتحبُ الرّمال باعوكَ يومَ شريتَهم.. جعلوا دماك مدادَ أمجادِ كرسيِّهم المجبول نجيعاً.. نخبَها يومَ انكشافِ الردى.
يا صديقي.. ما كانتْ دماءُ النازفين على امتدادِ الأرضِ غيرَ دماك تُبعثُ من جديدْ.. ها أنتَ وحدَكَ تبتدي حربَ التحررِ من سلالاتِ العبيدْ.. وتجيءُ الأرضُ بعيدَ خلاصها نحوَ صدرِكَ تفتديكَ من النّزيف.. يا منْ يلمُّ الحزنَ عن ثمر الحجارةِ في الكروم.. عن حكاياتِ الرغيفْ!.
من أينَ أبدأ رحلتي نحو سرادقكَ.. يا.. مفدّى من صرخةٍ مسكونةٍ بالحبّ؟ أمْ.. من رايةٍ شمختْ على نبضِ الوريْد؟ عد نحو جرحي.. إن جرحي يشتهي لهبَ اتقادِكَ.. إن حضرْتَ وإنْ تغبْ.. ولربّما أسرجتَ خيلَ دمي لمجدِكَ.. إذ تؤوبُ محملاً بالمورقاتِ من القصائدِ والأناشيدِ التي أطلقْتَها يومَ التقى الجمعانِ أو…. عبّأتها بالأرجوانْ.. يا صديق العمر ضاقت مساحاتُ الكلامِ عن ابتكارِ خميلةٍ يغفو بها الزيتونُ طفلاً متعباً… سغباً يبسملُ خائفاً.. والجلّنارُ مسبّحاً بالحبِّ.. يمرحُ… فوقَ أشلاءِ الحجارةْ.. وغدا حضورُك وحدَهُ.. أملَ الذين تناثروا وجعاً يمزّقُ في فضاءِ الرّوحِ أجنحةَ البشارة!.
سنواتٌ مرَّت بباب روحي ولا زلت أسأل حين حمَّلت الجعبةَ بالرصاص والحرز بالزعفران المذاب وودَّعْتَني بالابتسام.. إلى أين؟؟ وأنا أعرف أن الجوابَ صعبُ؟؟ لكن يا صديق جراحاتي إلى أين تمضي؟ وقلبي يرفّ على راحتيك كطير ذبيحّ إذا ما تهاوى على كفٍّ صيفٍ حريقٍ وتطوافِ ريحْ يمرُّ سحابُ الخريفِ حزيناً وأنتَ بصدري طفلٌ صغيرٌ يلمّ خطاه عن العتباتِ.. ويركضُ نحو ابتسامةِ وجهٍ مضيءٍ تطيرُ عصافيرهُ في فضاءِ القرى القادماتِ إلى الأرضِ والعشبِ والسنديانْ يباغتُها مرّة.. مرّتين.. فتختصرُ الكونَ قيلولةً للجناحِ الحريرْ.. تباري الغصونَ بترجيعِ ألحانها.. فلحنٌ لهذا الصباحِ البهيِّ!!.. ولحنٌ لعشٍ وثيرٍ.. وثيرْ.
يجيءُ أوانُ القراءةِ في دفترِ العشقِ تسألها الأمهاتٌ فمن يذكرُ الخفقة البكرَ؟ في أي فصلٍ؟ وفي أيّ يومٍ؟ – وكيفَ استحالَ النّهارُ محارةَ عطرٍ تضيءُ الشواطي؟ وكيف تمادى انهمارُ الأغاريد في القلبِ توقاً؟ ومسّتْ كفوفُ الحبيبِ حريرَ العيون الخضيلةِ بالدمعِ حتى جنونِ البكاءْ؟. تسائلُها الأمهاتُ، تزيّنُ أشواقها في الصباحِ ببعضِ ورودِ الحنينِ.. تباركُ فصلَ احتراقي بنارك يومَ تجاهلني صمتُكَ المستريبُ.. فخلفتَ بينَ يدي قصائدَ حبَ بهيٍّ ولم تبتعدْ عن مدارِ اشتياقي إليكَ.. ولكنّ هذي المسافة بيني وبين جنون يديكَ نَمَتْ مثلَ شوكِ البراري وشدّت يميني إلى وقدةِ العمر لكنني… ما ارتضيتْ!! فهل كانَ وهماً حضورُك في صبوةِ الروحِ؟… ما.. ولكنهمْ حاصروه ببرد الشتاء القديم.. فصارَ سؤالاً على ثغرِ أنشودتي ودمي المستباحْ: لماذا يبعثرُ أشواقنا الغرباءُ؟ ويختلسونَ شبابيكَ أحلامنا من بيوتِ المدن والقرى واخضرارِ الروابي وصوتِ الرّياحْ؟ لماذا يمرّون بيني وبينك؟ ستمطرونَ البنفسجَ أسرارَنا.. والدروبَ.. العشياتِ.. بوحَ الدّماءْ.
لماذا تناثر شظايا النّداءِ بين الوجوهِ؟ وبينَ الوجوهِ تشظى عذابي مرايا.. وأنتَ تلوّن وقعَ خطاكَ بألوانِ حزني وترسمُ ما بين وجهي ووجِهكَ حمى انتظارْ.
أذكرك يا صديق عمري المغيَّبِ.. يومَ التقينا على أوجاعنا وجوعنا وصرخات الأطفال في قرانا.. وكانتْ مساكبُنا تبتدي عيدَها فيضوعُ الترابُ بغيمة وردٍ.. وما هجرَتنا البيادرُ.. نحن الذين قطفّنا السنابلَ قبلَ أوانِ الحصادِ.. فصارَ الحصادُ هشيماً في بيادرهم، يذرُّون به في وجوه قرانا، ويحملون أوسمةً للذين قاتلوك ثم احتموا خلف سياج الجرح عند المعابر إلى الأرض المبتغى التي لطالما أبْكتْكَ.. ونحنُ الذين مضغنا لهاثَ الأحاديثِ قلنا: يعودُ زمانُ الصفاءِ القديمِ ولّما.. يَعُد.. فانكفأنا إلى لهفةٍ تستظلُّ شرايينَنا مرّةً ثم تتركُ أصداءَها في اتّقادِ أناشيدنا.. آهِ … يا أيّها المشتهى لو تعودُ تعال.. نحاصرْ أكاذيبهم بانعتاقِ الوجوهِ الحزينةِ من أمنياتِ اللقاءِ المؤرجحِ بين تمني حضورٍ.. وبين تمني غيابْ.. فاقبض خطاكَ.. قليلاً.. وأورِد خطاي طريقَ الوصولِ إليكَ.. تعالَ.. اقتربْ يا رفيقَ دمي من دمي سفحتُ عليه وشاحاً من الدفءِ والياسمينْ فهذي العنادلُ تياهةٌ بالشذا والرفيفُ وهذا أوانُ البكاء.. أوانُ الحنانِ الشفيف وبيني وبينك أرجوحتانِ لعمرِ الطفولةِ.. والكلماتِ التي يبتدي مجدُها.. في انهمارِ النزيفْ.