أول الكلام

عن الذين مروا: ليتني في الصّبح عند الطفِّ معْ سيفي‏ أصلّي

بقلم غسان عبد الله

طالما أحرق جمرُ الرّوح خديَّ سخيّاً‏ كان يجري‏.. حلْمي كان سراباً‏ والمتاهات،‏ المسافات تطولُ‏ ها أتوه الآن في أرجوحة الخيبات‏ أمضي،‏ ثم أمضي‏ لا أؤوبْ‏.. خُلسةً مرّت لياليَّ‏.. جزوعاً موعد الصفصاف غابْ‏.. كلّما شئتُ أغنّي‏ لفّن] حزن الدروبْ‏.. حشَّدَ اليأسُ ذئابَ النّار تعوي‏ في الهشيمْ‏.. فإذا الفجر أفولُ‏.. والمواقيد رميمْ‏.. أيُّ غول مرّ يخفيه وراء الضحكة‏ الصفراء‏ ذيّاك الزمانْ؟!‏ أيُّ عرّاب رجيم‏ كان يغوي خطوي‏ حتى سقطتُ‏ في فخاخ العنكبوتْ؟!‏

نرجس الوقت ذبولٌ‏.. قامة الورد انحناءٌ‏.. غابة الحلْم هباءٌ‏ والمواعيد طلولُ‏ وأمانيَّ‏.. أغانيَّ استطابت نومها‏ في مهدها‏.. انهدت قلاع‏.. كم جهدْتُ أرفعُ الأبراجَ فيها‏ كي أهزّ الشمس إن نامت‏ وغطّت في السّباتْ‏.. ثم ضيّعتُ الحياةْ.

ما لغمامةِ العمرِ لا تُمطر في صحراء روحي؟‏ بعد أن كانَتْ غياثَ العمرِ‏ في صوتي‏ توافي بالنّدى بوحي‏ وتزجي مهرجاناً‏ من قصائدْ!‏ مالها كفّت عن السّقيا؟‏ أما كانت تسوّي شعر قمحي‏ كلما مرّت هبوبُ؟‏

ها أعود الآن لا ألوي على صفِّ الهوى..‏ أقوى.. أخورُ.. وأقوى،‏ فرشتُ‏ حوله – يوماً – بساط الحبّ‏ أجني من ثمار الضحكةِ الأولى..‏ أبتني من وجده قصراً‏ وأُخفيه إذا لاح الصباحْ‏.. ما للدساكرِ نامت‏ عن شبابيك أقاحيها‏ وسدّت‏ عطرها بالدمعِ‏ في عرس الأقاحْ؟‏ ما لها، لم تطلقِ الأوراقَ في باحةِ خضرتها،‏ لم ترحم شغافَ العاشقين؟‏.. فُلُّها يَسْوَدُّ في صمتِ المساءات،‏ ويذوي فوق أشلاء المحبّين،‏ نشيجٌ داكن النّوح‏ على أوراقها..‏ بدرٌ بدائيٌّ شحيحٌ‏ في سماها‏.. ساحرٌ يذرو حكايات رفاتٍ‏ فوق هاماتِ رباها‏ الغافياتْ‏: “من هنا مرّوا‏ فقامت فسحةٌ زرقاءٌ‏ في العينِ استحمّت همسةً أولى‏.. تربةٌ شهدٌ وأشجارٌ سنيةْ‏ خبّأت جنيّةٌ في كرمها طيرين من نارٍ‏ وأعطتها مفاتيح الشقاءْ‏.. أحرقتني‏ ثم غابت في عماء النبع‏ لم أبصر سوى وردِ خطاها‏ في المكانْ‏.

من هنا مرّوا‏: هنا حطّت عصا الشيخِ رحالاً‏ فانتشى في الفيء أطفالٌ،‏ كتاتيب،‏ وذِكْرٌ ليس يُنسى..‏ وتعاويذُ خلودٍ اتَخذَتْ جبّانةَ الأيام رمسا‏.. مرّ تاريخٌ:‏ تهجّي أحرفَ الفجر حمامةْ‏.. علّلت أفراخَها بالقمحِ محمولاً‏ على وعدِ غمامةْ‏.. مرّت الغيمةُ أنأى من أمانيهم‏ فماتوا قبل أن تهمي‏.. مرّ تاريخٌ:‏ يغنّي شاعرٌ للكون والكونُ سديمُ..‏ أشرقت في نايه آيُ التجهُّدِ‏.. فاعتلى متْن حصان عربيٍّ‏ سيفُه نارٌ بنارٍ‏ يشعل الدّنيا صداهُ‏.. والمدى فيه مقيمُ‏.. أولَمَ القهوةَ والعطرَ إلى مائدةِ الشعر‏ فخرّتْ‏ تحت يمناهُ نجومٌ‏ وكرومُ‏.. أسكر الرّيحَ، أين قرى العطرِ والطيُّون،‏ سحرُ الصبارِ والتين والزيتون،‏ صلصالُ القصيدةْ؟‏ أينها الرّيحُ تهزّ الزّرع‏ يختال بأنسالٍ جديدةْ‏ تتبدّى في ذراريها التخومُ؟‏.

مرّ تاريخٌ:‏ وما زار الندامى أرضهم‏ هل كسّروا الأقداحَ إشفاقاً‏ على دنٍّ نضوبٍ؟‏ هل جبالُ الدبشةِ اشتاقت ندامى‏ غيرَهم؟‏ حلّوا عرى العطرِ أراحوا‏ واستراحوا‏ في مهبّ النّزف‏ والنّزف رؤومُ!‏.. يكتوي الكرّامُ بالشّوقِ إذا هبّت صَباهمْ‏.. فيراهم‏ كعصافيرَ من الوهمِ‏ على وهمٍ تحومُ‏.. يعصر القلبَ ويبكي‏: لِمَ غابوا؟‏ لَمْ يقم بالصُّوْرِ إسرافيل فيهمْ‏ أم سقاهم‏ ملك الجنّة سلافاً‏ من رقاهُ‏ وأكاسيرَ فناءٍ‏ فتناهوا‏ طيف أشباح تراءتْ‏ في رؤاهُ‏.. فتراهُ‏ كلّما قاموا، وقد نادى من الغيب مناديهمْ‏.. يقومُ‏.

مرّ تاريخٌ:‏ خيامُ الأهل والأطنابُ أطلالٌ‏ وعطرُ الهيل، مهباجُ قِرى الضيف‏ غيابٌ‏.. ودِلالٌ فارقتها نكهةُ الجود‏.. وأبراجٌ أمضّت جسرَ أهليها‏ الكُلومُ‏ فانحنت حزناً وقد غابوا سراةً‏.. ضلَّ حاديهم شمالَ الحبِّ‏.. نجمَ القطبِ‏.. في ليلٍ غشيمٍ‏ حين ضلّوا ما يقول القلبُ‏ أم نامت على الأفق النّجومُ؟‏ ها نعود الآن كي ننفخَ في أحلامها‏ أطيافَهم‏ أم نشرب النّخب احتراقاً‏ في فضاءات تضيقُ؟‏ من دماء الكأس ما نحسو،‏ ومن أعصابها الحرّى نريق‏

يا صديقي‏ في زمان عزَّ في أكفانه السّودِ الصديقُ.. عُجْ على رسم بكيناهُ بظلّي‏ وأنِخْ حزني قليلا‏ واسقني من كأسهم بقيا‏ ففي جوفي حريقُ‏.. هدّني وجدٌ أداريه، فهل ليْ‏ من لمى الشّهد الرحيقُ؟‏.

ليتني في الصّبح عند الطفِّ معْ سيفي‏ أصلّي لإلهِ الكونِ،‏ في محراب الحسينِ.. لو أغفو قليلاً.. عُجْ بظلّي‏ يا صديقي‏ ليس لي إلاكَ يا قلبي‏ وقد عزّ الصديقُ‏.. إن تطق صبراً على ليلاك‏ في البعد‏ فإني لا أطيقُ‏.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *