فضاءات فكرية

لا نهضة ولا تقدّم من دون تأسيس الحكم الصّالح مناعة الأوطان تستمدُّ من حقوق المواطنين

بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

.. قد يصح التشخيص وتحديد مواطن الخلل، بأن هذا الواقع المتدهور يأتي نتيجة ومآلاً (طبيعياً) لمناخات وظروف تاريخية عايشها العرب والمسلمون منذ بدايات القرن الماضي، حيث تفجّرت الصراعات الدولية في منطقتنا بالذات، وجرت عملية تقسيمها مع نهاية الحرب العالمية الأولى، كما تسبب السيطرة الاحتلالية الأجنبية لبلداننا في إعاقة ومنع بناء بلدان ودول وطنية تتقوم بالمواطنة والشرعية الداخلية، كما جاءت عملية زرع الكيان الصهيوني كخنجر مسموم في قلب الوطن العربي لتصب الزيت على النار في توجيه ضربة شبه قاتلة لكثير من مشاريع التطور والتنمية وهدم أسس استقرار المنطقة وإمكانية سيرها على طريق التحضر والعمران العلمي والحضاري.

ولكن إلى جانب كل ما تقدم وهو صحيح، يجب الاعتراف بأن الانقسامات القومية والدينية والطائفية الموروث منها والمتجددة، لعبت الدور الأبرز في تشتيت أسس الوعي وبناء الهوية الوطنية الفاعلة، وهذا الدور لم يكن ذاتيًا فقط، بمعنى أنّ النخب الحاكمة أسهمت هي بدورها في تعميق الجروح التاريخية النازفة، ومنعت رتق الشروخ والفوالق الصدعية بين كل مكونات شعوب المنطقة، وبدلًا من أن يكون التنوّع نعمة أصبح نقمة، ليكون الانقسام وبالتالي الصراع والفتن هي المعلم الأهم في تاريخ المنطقة منذ عدة عقود.

من هنا نحن نعتقدأن من أولى الأولويات والضروريات الفكرية والعملية هو بناء دول متقدمة تتقوم بمواطن سليم معافى حاصل على حقوقه غير محتاج، مكتف ذاتياً، قادر على المواجهة والصمود في مواجهة تحدياته الوجودية.. وهنا أود أن أسأل: هل تمكنت بلداننا ونخبنا المهيمنة منذ عقود وعقود من صياغة هذا الإنسان القوي القادر الحر الآمن المستقر في عيشه والممتلك لمقومات نجاحه وانتصاره الحضاري..؟ أليس الاستبداد والفساد والإفساد وقمع الناس وكبتها ومنعها من حقوقها هو من أهم موانع ومعيقات بناء الإنسان القوي القادر؟ أين التنمية والتطور العلمي والحضاري في بلداننا التي ما فتئت تعاني وتتوجع وتتصارع وتصارع في سبيل بديهيات عيشها؟ حروب ومقاتل وصراعات مستمرة، وما زلنا نبحث عن لقمة الخبز في بلدان يفترض أن تكون ميزانياتها السنوية كلها متركزة على التنمية والنهضة العقلية والعلمية، لأن هذا هو من أهم شروط الفلاح والنجاح وتحقق الانتصارات على الأعداء في الخارج… نعم، الشعارات والطموحات والآمال والطروحات الأيديولوجيات مهمة، لكن لا قيمة للفكر وللشعارات والغايات الكبرى من دون إنسان قوي وقادر على تحمل مسؤولية تنفيذ هذا الشعار والغاية الكبرى..!!. الإنسان الذي أرسلت له السماء عشرات آلاف الرسل والأنبياء، وكرمته بالعقل.. والعقل هنا يعني العلم والتخطيط وامتلاك القدرات وبرمجة الحياة على الوعي والحكمة والمسؤولية.

نعم الاستعمار له دور في أزماتنا، وتعميق أمراضنا، ولكن – في وضع إجابات صحيحة وعقلانية لأسباب النكوص والتأخر والتقهقر العربي والإسلامي – يجب أن نقرأ قبل ذلك في سجلاتنا ودفاترنا، حيث تستمر أمراضنا الذاتية المزمنة في عمق الجسد العربي..

وهناك من يحمّل الثّقافة التقليدية -القائمة منذ قرون عديدة وهي ثقافة ذات أبعاد اجتماعية سلوكية – المسؤوليةَ عن فشلنا وتخلفنا الاجتماعي والحضاري، وهناك من يلقي باللائمة على السياسة والسياسيين في فسادهم ونهبهم لثروات الأمة، وهناكَ من يعيدُ التخلف إلى تلك الطبيعة الذاتية والقابلية الجوانية لذهنية الإنسان الشرقي التي يُعتقدُ –خطأً بطبيعة الحال- أنها شخصية اتباعية تقليدية قدرية، ونفسية مستسلمة وعقلية اتكالية ومسترخية تؤمن بالأساطير والخرافات، ولا تملك إرادة تغيير واقعها.

لكن بالإجمال العام يمكنُ تحديد أسباب فشل النّهضة العربية الإسلامية في العناصر التالية:

  1. هيمنة الاستبدادُ والطغيان:

فقد لاحظنا أنه منذ نجاح نخب العسكرة في الدولة التحديثية العربية في استلام السلطة في عالما العربي (والذي جرى في نهاية عهود الاستعمار وتحقق الاستقلال الشكلي)، لاحظنا أن هؤلاء الواصلين إلى الحكم، اشتغلوا بكل شيء إلا بتنمية مجتمعاتهم ومحاولة تحديثها وتطويرها واستثمار مواردها الضخمة الهائلة التي توفرت لهم طبيعياً وبشرياً، وكانت الحجة والذريعة الدائمة هي (لم يسمحوا لنا؟! وبالتعبير العامي: ما خلّونا؟ يعني عدنا لنظرية المؤامرة!!!)..

ولكن بالتحليل المنطقي العقلاني العلمي، يمكن القول: إن الأحزاب العقائدية الشمولية “المشحصنة” هي التي بنت وجودها على حكم الفرد والإيمان بقدراته الخارقة الإلهية، وأنتجت هياكل إدارية ومؤسسات بيروقراطية واسعة وأنظمة سياسية قوية متماسكة وصلبة كانت أقوى وأرسخ وأصلب بكثير من مجتمعاتها.. أي أن هذه الصلابة والقوة جاءت على حساب تضعيف ما تبقى من مؤسسات وهياكل “الدولة – الأم”، ما أفقدها قدرتها على السير الطبيعي الطوعي نحو أهدافها التنموية السياسية والاقتصادية كأية دولة أخرى، عبر الاشتغال اليومي الروتيني الطبيعي على تأمين مصالح الناس والمجتمع، خصوصاً وأنها قدمت نفسها كما قلنا على أساس أنها “دولة – رعاية” و”دولة – أم” اجتماعية..

وبشيء من الاستطراد والتفصيل، أرادت الدولة التحديثية العربية – التي انبثقت عن مشروع النهضة القومي – أرادتْ “نظرياً وشعاراتياً” إقامة دول العدل والحرية والمساواة والاستقلال، كما زعمتْ، ولكنها عجزتْ عن إقامة العدل، واحترام حريات الشعوب، ومنحها حقوقها، وتأمين حاجاتها ومقتضيات وجودها الحي الآمن والمستقر والمزدهر ولو بحدوده الدنيا… وما قامت به عملياً هو إقامة وتثبيت أسس ومقومات دول الاستبداد ومجتمعات الفساد، أي بناء دول مستلبة الإرادة خانعة وتابعة خارجياً، حيث أهمل الحكام شعوبهم ومجتمعاتهم، أهانوها في وجودها وكراماتها، واستبدوا بها وقمعوها، واعتمدوا على الدعم والإسناد الخارجي فقط..

نعم، كانت الدولة العربية تاريخياً – وحتى لحظتنا الراهنة – دولة استبداد وقهر وغلبة، هذا هو الثابت في مسيرة الحكم السياسي العربي والإسلامي غالباً، بينما الطارئ والاستثنائي فيها هو أن تكون دولة عدالة وإنسانية..!.

نعم، كان (وما زال) الاستبدادُ – وكل ما يتفرعُ عنه من إقصاء وإلغاء وهيمنة وعنف وووإلخ – هو المرضُ العضالُ الذي عانت وتعاني منه دولُ العربِ ومجتمعاتهم.. ما فتح ويفتحُ المجالَ الواسعَ لكلّ أشكالِ وألوانِ الفساد والإفساد السياسي والاقتصادي وغيرهما.. وما لم يتمُّ الانتهاءُ منه أو – على الأقل – الحدُّ من شدته وجموحه وخطورته (عبرَ بناءِ دولٍ مدنيةٍ ديمقراطية مؤسَّسيّة حديثة) سيبقى العربُ يتنقّلونَ من انكسارٍ إلى آخر ومن هزيمةٍ إلى أخرى، إلى أنْ يرثَ اللهُ الأرضَ وما عليها ومَنْ عليها..!!.

  • التدخل الخارجي ووجود الكيان الصهيوني:

تعتبر المنطقة العربية منطقة الثروات الهائلة والموقع الاستراتيجي الحيوي، ولهذا كانت على الدوام محط أنظار كل القوى الكبرى التي تستهدف تلك الثروات وخطوط إمرار الطاقة إليها.. ولهذا كانت كل خيارات وحسابات تلك القوى الدولية الكبرى تتمحور حول السيطرة على تلك الموارد الضخمة، وتسهيل (وضمان) وصولها إلى مجتمعاتهم.. فكانوا أن وضعوا في الدول المعنية رجالات حكم تابعين لها، دعمتهم وساندتهم كي يسهلوا قبضها وسهولة حصولها على تلك الثروات وتسريع استثمارها.. وهؤلاء الحكام لم يكونوا مهتمين بالنهضة والتقدم قدر اهتمامهم بالبقاء والنفاذ الآمن إلى ثروات شعوبهم وتحكمهم بهم.. إضافة إلى ذلك، كان وجود الكيان الصهيوني في قلب العالم العربي والإسلامي، العامل الأكبر والدافع الأهم لتفجر العنف في منطقتنا وحدوث الاختلالات في مجتمعاتنا.. ومنع وصول العرب إلى نهضتهم المنشودة.. فإسرائيل والغرب عموماً الذي زرعها كالخنجر المسموم في صدر الأمة، ليس من مصلحته تحرر العرب واستقلالهم وانبعاث جوهر النهضة في مجتمعاتهم خاصة النهضة العلمية والتقنية والحداثة السياسية..  

  • ضعف إرادة العمل على النهوض وتحقيق التنمية:

مع تقديرنا واعترافنا بوجود مشكلة تدخلات خارجية تمنع تقدم العرب والمسلمين، وتحاصرهم في أمراضهم وعللهم، ومحاولتها فرض أجنداتها ومخططاتهم الاستعمارية عليهم، ولكن يجب عدم نسيان وتناسي أو إهمال العوامل الداخلية المسؤولة عن منع النهضة العربية والإسلامية، وهي المتعلقة بضعف إرادة المسلمين أو تضعيفهم لأنفسهم.. وهذه لها أسبابها الثقافية وجذورها الممتدة في التاريخ والفكر التعطيلي المسيطر..

إنّ المشكلة الثقافية العربية والإسلامية التي نحن بصددها هنا والتي نعتبرها من أسباب منع العرب من التقدم، ليست كائنة أو مركوزة في هوية المسلمين الثقافية التي يعبرون من خلالها عن انتمائهم (لرؤية كونية) ووعيهم لوجودهم الإنساني وانبعاثهم الحضاري الغني والمؤثر في عمق حركة الحضارات الإنسانية التي مرت في تاريخ العالم كله، بمقدار ما هي قائمة في طبيعة التعاطي (والتعامل) مع تلك الهوية المعرفية والحضارية، وإدراك ضرورة تحسين شروط مشاركتها الخلاقة والمؤثرة في العالم المعاصر.. وأيضاً بمقدار ما هي (أي الأزمة) قائمة مع كثير من مواقع ومكونات ومعطيات هذا التراث الإسلامي الكبير والواسع الذي لم يتم التعامل معه بصورة منتجة وفعالة وعقلانية حتى الآن بالرغم من كل المشاريع النهضوية الفكرية الحضارية التي انسكب فيها حبر كبير، والتي حاول منتجوها من كبار المفكرين، تقديم رؤى تراثية مستنيرة فعالة يمكن إثارة همم المسلمين على طريق النهوض.

نعم إنّ العربَ والمسلمين عموماً بعيدونَ كلَّ البعد عن روحِ المبادرة وعقلية المبادأة والتنمية الفردية الحقيقية، والتي هي – بمجملها – أساسُ التواجد الفاعل في الحياة، وجوهر الحضور المؤثر في العصر.

إنَّ هيمنة الروح الساكنة في ذاتها والمتساكنة مع التقليد، والعقلية الاتكالية على واقع العرب سيبقيهم في أسفل الترتيب، مرتهنين للآخر الأقوى والأعلم والأفعل والحاضر دوماً في معادلة الإنتاج والإبداع والازدهار والتقدم..

من هنا يمكننا القول بأنّ العرب والمسلمين لن يتمكنوا عموماً من ولوج طريق التقدم والنهضة الحقيقية لتغيير واقعهم المتردي والمنحط الراهن والمستمر منذ عقود طويلة، ما لم يتغلبوا على ضعفهم واستكانتهم واستضعافهم لأنفسهم وخضوعهم للآخر واستلابهم له وعدم تحقق استقلالهم عن إرادات الآخرين وهيمنتهم على ثرواتهم ومواردهم.

إن أمراضنا الداخلية كثيرة ولا يمكن أن ننجح في الخارج من دون علاجها أولاً.. لهذا أتصور أن الحقوق أولى الأولويات حالياً.. وهذا هو علة وسبب عدم تمكّننا (بل عجزنا) نحن العرب من بناء أسس ذاتية لنهضتهم العلمية والحضارية، وظلوا محتاجين لغيرهم من الإبرة وحتى الصاروخ.. وعلى الرغم من أنه مرّ زمن طويل (أكثر من قرن)، ما زالت الجماهير والشعوب العربية والإسلامية بصورة عامة تتطلع وتحلم بتحقيق تلك النهضة والتقدم، حيث تكررت المحاولات بشكلٍ كبير منذ ذلكَ التّاريخ إلى يومنا هذا للسير – ولو البطيء والمحدود – على طريق التنمية والتقدم، ولكن الفشل كان المآل الأخير..

نقول هذا الكلام كمثقفين نحمل مسؤولية الكلمة الحرة.. والمثقف أو المفكر الحقيقي هو الذي يكون صادقاً وواقعياً في عرض المشكلات وتوصيف الأمراض واستعراض الأزمات الضاربة كلها في مجتمعه.. فلا يداهن، ولا يناور، ولا يدلّس، ولا ينافق.. لا يجمّل القبائح ولا يقبّح الجماليات.. يشخّص أصل العلّة، مع وصف الدواء.. مثَله في هذا مَثل الطبيب الذي من شروط نجاح علاجه صدقه ومصداقيته مع مريضه في تشخيص موطن المرض، ووصف بروتوكول العلاج.. هو يعاين ويشخّص ويقولُ ويستعرض ويوصّف ويتابع فقط، والباقي عند المريض، يأخذ بالدواء أم يرفضه منكراً مرضه من الأساس..!!.

ولكن يبقى السؤال هنا:

هل بقي من دور للكاتب – المفكر في مجتمعات تقليدية تؤمن بالخرافات والأسطرة الثقافية والسياسية، ويُراد لها أن تنبذ الثقافة وتستمر متعايشة مع أزماتها ومحتاجة لغيرها ومستغرقة في تقليديتها وتخلفها؟ مجتمعات تجتهد مراكز قواها القديمة والمعاصرة في تدمير العقل وتبديد الحقيقة وتشتيت الفكر النقدي؟!..

لا جواب إلا في قول الحقيقة للمريض.. فما بالنا ومريضنا العربي مصاب بأمراض مزمنة مستعصية..!!.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *