هامش ثقافي

الشعرُ بين الغموض والوضوح

بقلم غسان عبد الله

وفي اللغة العربية تتعدّدُ أساليبُ الخطابِ الموجَّهِ في طُرُقِه وكيفيّاتِه، فتسطيعُ أن توصلَ فكرةً بالمقالةِ أو بالمسرحيةِ أو بالشعرِ أو بالنثرِ أو بالقصةِ بأنواعها وهكذا.

وإيصالُ فكرةٍ، أو معالجةُ موضوع، لكي يتمّ القصدُ منه لا بدّ من أن يكون مفهوماً للسامع دون تعقيد لفظي أو معنوي أو لغوي. وقد شاع كثيرا هذا الغموض وإدخال الفلسفة في هذه الأغراضِ الأدبية، مما تأباه اللغة وتنكره القريحة.

فأصبح من الإبداع أن تأتيَ بشيءٍ لا يفهمُه غيرُك، ومن الإبداعِ أن تتكلم كلاماً يحارُ الناسُ في تفسيره، وتضطّربُ الأفكارُ في فكِّ رموزه، وكل ذلك كان من التأثُّر بالفلسفات الغربية والأدبِ الغربي.

وقد طلعُ علينا مذهبٌ غريبٌ من الغربِ وأحدَثَ في العالمِ ضجّةً وهو مذهب “اللامعقول”، وراج هذا المذهب في فرنسا. وقد لفتَ أنظارَ المثقفينَ إليه، وتأثّر به البعضُ في إنتاجهم الأدبي. وهذا المذهب يعبِّر عن السخرية المريرة من منطقِ الحياةِ التقليديّ وعدمِ الثقةِ فيه. وإنما كان ذلك الخيالَ المتّسعَ عندهم، ومحاكاتِ اللامعقولِ ووصفَ الأمورِ الغيبية – ناتجٌ عن التعلُّق بالماديات، حيث إنهم ينكرون – كما هو فكر الفلاسفة ومن نحا نحوهم – الأمورَ الغيبيةَ والروحيةَ ولا يعتقدونَ إلا بما يشاهدونَهُ عيانا.

وهذا فكرٌ سقيم؛ ولذلك احتاجوا إلى اللجوء لـ “اللامعقول” والخيال الفسيح؛ لكي ينفّسوا عن أرواحهم التي تعبت من التعلُّق بالماديات. والإنسانُ بطبيعتهِ يحبُّ الأمورَ الروحيةَ، وتنطلقُ بها روحُه، وتجوبُ ساحاتِ المعاني الأخرى التي تنفِّس لهُ عن تعب الحياة ومادياتها المملة.

من أجل ذلك كله كان اللجوء من الغربيين والـ “لا دينين” والفلاسفة إلى هذه الأغراض من اللامعقولِ ومحاكات الغيبِ والخيالات. وربما كان هذا هو الدافعُ لنشوءِ المذهبِ الرومانتيكي الذي يهدفُ إلى الخيالِ والتحرُّرِ الوجداني والفرارِ من الواقع والتخلصِ من التقيّد بالأصول الفنيةِ التقليديةِ للأدبِ بشتى مجالاتها القواعدية والفكرية.

وكذلك من يطالع الأدبَ الغربي يجد فيه كثيراً من هذا الخيال، وما روايات دون كيشوت وخيالاته الواسعة عنَّا ببعيد. أما نحن وفي لغتنا العربية فليس ثمةَ شيءٌ من هذا أبداً، بل هي مبنيةٌ على الوضوحِ والإبداعِ في الأداءِ والتّعبير، واختيارِ الكلماتِ المناسبة للجملِ المناسبة، والمجيءِ بالمعنى الصالحِ للواقعِ الحاضر. بحيث لا يدخلُ شيءٌ في شيء، ولا يلتبس معنى بمعنى.

صحيح أنه قد وردَ عن بعضِ الصوفيةِ في الأزمانِ الفائتةِ بعضَ الشعرِ الغامضِ الذي لا تجدُ له حلاً ولا تستطيع أن تعرف له مخرجاً، فهذا كذلك قد لاقى إنكاراً من بعض أهل الأدب وقالوا بتركه وتسليم معناه لقائله.

فإذاً يبقى الوضوح مع دقَّة المعاني وفصاحةِ الألفاظ هو الرائدُ المعتمد، والأساسُ في الأدب العربي. وربما نشوءُ الأدباءِ حديثي السنّ وانبهارُهم بهذا الغموضِ وهذا التشويش هو الذي أخصب انتشاره فيما بيننا، وجعله فنّاً يتسابق الأدباء إلى تحقيقه.

فليس الإفراط بمقبول ولا التفريطُ بمرتضى، بل إن قوةَ المعاني وسباكةَ الألفاظِ وإبداعَ الصورِ في العمل الأدبي هو الذي يعطي العمل رقيّاً وإبداعاً.

أما إذا قرأت عملاً أدبياً – وكنتَ أديباً فضلاً عن كونك غير أديبٍ – ولا تفهم منه شيئاً إلا ألما في الفكر من زحمةِ الكلمات وتشتُّت المعنى. فلا أظنُّه إلا عملاً جديرٌ به البحرُ أن يتلقّفه ليخبِّئه عن أعين الحاسدين!.

فمثلاً كتب بعضهم يقول:

“وقفتُ كلَّ الموتِ في الطابورِ..!!

لم يسمعْ خطايَ.. سواكِ..

والآن في فوضى الهلاوسِ تخبزينَ الماءَ

حتى يعرفَ التنّورُ أرغفتي البريئةَ!!”

وغير ذلك الكثير…

وعابوا قديماً على حسان بن ثابت قوله:

ولو أنَّ مَجداً أخْلَدَ الدهْر واحِداً = مِنَ النَّاسِ أبْقى مَجْدُهُ الدَّهْرَ مُطعِما

وعابوا على الفرزدق قوله الغامض والمعقَّد:

وما مثله في الناس إلا مملكا = أبو أمه حي أبوه يقاربه

وقول المتنبي:

كيف يكون أبا البــرايا آدم = وأبوك والثقلان أنت محمد

فإنك تجد في هذه الأبيات من الغموضِ ما يحجُبُ عنك معناهُ وتستصعبُ النطقَ به والوصولَ للغرضِ الذي قيل هذا الكلام من أجله.

لذا فإننا نستخلص مما مر أن الإبداع كائنٌ في فصاحةِ اللفظ، وإبداعِ الصور، وقوةِ التركيب، وجزالة المعنى.

وأن المجيءَ بالغموضِ سواءٌ في التركيب أو في المعنى أو في اللفظ غيرُ موافقٍ لما عليه الأدبُ العربيُّ وتستهجنُهُ الأفكارُ السليمة، وإن نادى به المنادون، وصفّق له الناس ورحبوا، فلا يُعْبَأ به ولا يُلتَفتُ إليه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *