أول الكلام

حلمٌ بغيض

بقلم غسان عبد الله

صبَّ في قدحِهِ تلكَ المياهَ السوداء ذات الرائحة المنعشة والطعم اللاذع اللتان لا يستطيع مقاومتهما أبداً، تناول علبة السجائر الملقاة بغير وضع محدد على الطاولة العتيقة التي تنضح بملاين من ذرات الغبار أشعل سيجارته و مضي يحتسى كوبه الوحيد ذاك الكوب الذي لم يعي وظيفة أخرى له في الوجود سوى احتواءه هذا المزيج الأسود، مضى متثاقلاً إلى مذياعه الصغير يبحث بين موجاتِه القليلةِ عن شيءٍ يصلُحُ للاستماع “كلُّها أخبارٌ ملفَّقةٌ معتَّقةُ، “على الإنسان أن يبتعد عن نشراتِ الأخبار إن أراد أن لا يصاب بالشيخوخة مبكراً” هذا ما قاله في نفسه، أقفل مذياعه ومضى إلى التلفاز يبحث عن شيء مسلّي لكنَّ شيئاً لم يَرُقْ له ارتدى ملابسه ببرودِهِ المعتاد، بحثَ في عقلهِ عن مكانٍ يستحقُّ العناءَ للذَّهابِ إليه قرّر أخيراً أن يتسكّع في الحديقة.. لم يتغيّر شيءٌ في هذه الحديقةِ مُذْ وجَدَت أشجارُ السَّروِ تمتدُّ محاولِةً اقتحامَ عنان السماءِ تشيخُ على مهلها، تهرمُ وهي واقفةٌ بنفس المكان لا تتحرّكُ أو تُبدي أدنى رغبةٍ في التغيير بل تستمرُّ في نموِّها متجاوزةً حدودَ الزمان والمكان.. تلك الأزهارُ بائسةٌ حقاً تنمو في الصيف أو الربيع لكنها لا تمكثُ أكثر من ذلك لأن هذا لا يعنيها هي تبعثُ البهجةَ حقاً لكنها بهجةٌ مؤقّتةٌ لا تدوم، مسّرُةٌ مزيّفةٌ تنتهي بانتهاءِ الحَدَثِ المهمِّ وإنْ كانت لا تعترضُ أن ترقُدَ على سريرِ مريضٍ أو ضريحِ قبرٍ كذلك فهي لا تهتمُّ كونها مجرّدَ أكليلٍ يُتوّج به العظماءُ أو قادةُ الحروب.

لكنه الآن هنا، لا يُقلِقُهُ مصيرُ الأشجارِ أو الأزهارِ فكلُّ ما يحتاجُهُ هو أن يَنْعُمَ ببعضِ الوقتِ المسلّي أو المفترض به أن يكون مسلياً، مضى إلى شجرة البلوط ورقدَ تحت ظلّها.. السماءُ فوقه تنتشرُ إلى ما لا نهاية زرقاءُ رائعةٌ تتخلّلُها بعضُ السُّحُبِ البيضاءِ يختلطُ هذا المزيجُ الرائعُ من الألوانِ بخُضرةِ العُشبِ من حولِه، لكنّ الأرضَ تبدو لهُ ضيقةً كرقعةِ الشّطرنجِ لا تحملُ سوى لونَيْنِ أبيضَ وأسودَ.. إنه أسير نفسه التي باتت تضيق يوماً بعد يوم، إنه كهفُ الرُّوتينِ المُعْتِم إنْ حاول أنْ يخرجَ منه فَقَدَ روحَهُ.. تلك الروحُ التي استسلمت لعواصفِ اليأسِ وضاعت نفسُهُ في معمعةِ البحثِ عن بصيصِ نورٍ وسطَ بحورٍ لا متناهيةٍ من الضّبابِ القاتمِ الذي يجعلُ الأملَ في رؤيةِ أيِّ نورٍ ضرباً من المحال.. لا لشيء إلا أنه يجلس هنالك تحت تلك الشجرةِ الكبيرةِ يحاولُ أن يجدَ معنى لحياتهِ بين قليلٍ من الأشياءِ التي تعلّمها في حياته!!.

يقفُ مجدّداً يبحث عن شيء جديد يقتلُ به نهارَهُ الطويلَ.. يتمشى في الشوارع تائهاً على وجههِ يحاوُل أن يجدَ شيئاً يجذُب انتباهَهُ أو يعيدُ إليه قليلاً من خيالِه، إنه يفتقدُ الأفكار المجنونةَ.. هذه الأفكارُ التي تقلب موازيينَ حياته رأساً على عقب وتصنع لأيامه مذاقاً آخر يرى خلالَهُ الحياةَ كما يجب لها أن تكونَ أو كما تصوِّرُها أن تكون.. الناسُ من حولِهِ لا تقفُ أو تنتظرُ أو تحتارُ بل هي عازمةٌ على المضيِّ في طريقها الذي سلكَتْهُ سواءٌ أكان يؤدّي إلى غايةٍ أم كان طريقاً مسدودا، لكنه لا يحبُّ أن يفضي به الدرب إلى طريق مسدود لا يحب أن يعود من حيث أتى.

يجلس على صخرةٍ أمام البحرِ.. أمواجُ البحرِ تُبْهِرُهُ.. لا يعترضُ طريقَها أيُّ شيء.. تمضي حيثُ تشاءُ وقتما تشاء.. في أسوأ الظروفِ وأفضلها.. هي حرّةٌ لأنها اختارت أن تكون كذلك، كم يتمنى أن ينتمي إلى هذا الطودِ العظيمِ يوماً ما، البحرُ هو أصدقُ تعبيرٍ عنهُ.. هادئٌ بعضَ الأحيان لكنّهُ في هدوئهِ يُخفي الكثيرَ.. الكثيرَ من المفاجآت.. خلفَ هدوئهِ يكمُنُ الخطرُ الحقيقيُّ وراءَ سكونِه دوّاماتٍ من الضياع، ذلك لأنه لم يصل بعدُ إلى قاع نفسِهِ.. لم يتلمّسِ القاعَ بيديهِ ويتيقّن أن هناك أرضاً صلبةً يُعـتَمَدُ عليها في أعماق نفسه، وهو الآن أقربُ من أيِّ وقتٍ مضى إلى الحقيقة.. حقيقةِ أنَّ كلَّ ما يدورُ حولَهُ هو حُلُمٌ بغيضٌ كالذي يخوضه الآن!!.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *