تفجّر العصبيات وشَوكة الغلبة في الاجتماع التاريخي العربي مقاربة في دوافعُ التّطرف وأسباب نشوء الإرهاب
بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري
هل العصبيةُ والتّطرف أمرٌ ذاتي وفطري في الإنسان، يولدُ معه، وينمو ويكبرُ في حركة الخارج بعد ولادته؟! ثم لماذا يتطرفُ الإنسانُ ويغالي في فكره وعقيدته وثوابته الرمزية والمادية؟!.. هل الخللُ قائم في العقل والوعي أم في أصل الفكرة والمبدأ أم أنه يعود لنقص العدل، وبالتالي شيوع الظلم والحرمان والفساد والتسلط كأمراض مجتمعية مهيمنة؟!..
ثم لماذا نلاحظُ أنَّ مسيرة الاجتماع العربي والإسلامي مليئة بأحداث ووقائع التطرف والغلو والعنف وفرض الرأي بالقوة إلى حد أن السيف والدينار (القوة والفساد) باتا أهم مظهر من مظاهر حركة هذا الاجتماع في سيرورته التاريخية الزمنية؟!.
في الواقع، لا يمكنُ أن يكونَ التطرفُ شأن ذاتي جواني أو فطري بشري، لا دخل أو تأثير للإنسان عليه، فالإنسانُ يولدُ في أحسن تقويم، روحي ومادي، مكرماً من الله بالعقل والهدى والاستقامة، ومحاطاً برعاية إلهية شاملة منذ ولادته وحتى مماته، أما التطرف والعصبيات فهي أمور خارجية، تعود لعوامل ومسببات سياسية واجتماعية، ويمكن للإنسان نتيجة هيمنة تلك الظروف عليه، أن يتحول إلى كائن آخر غير إنساني، فيكون الغلو ويتفجر التطرف ويشيع العنف والإرهاب..
وإذا ما جئنا إلى بلداننا واجتماعنا السياسي والأهلي العربي والإسلامي، فإننا نجد أن التّطرف (الفكري والسياسي العملي) كان هو الابن الشرعي (العاق) للدّولة التّحديثيّة العربيّة، والذي نجم عبر تزاوج هذه الدولة مع الاستبداد والقمع الذي مارسته تلك الدولة بحق مجتمعاتها وهيمنت من خلاله بقوة العنف والدم على المجال العام والخاص لأفراد تلك المجتمعات، بحيث باتت العلاقات السائدة بين بعضهم البعض قائمة ومتمحورة حول القوة والغلبة وهيمنة التطرف والعصبيات.
وبمراجعة بسيطة لتاريخ اجتماعنا السياسي الذي كانت هذه الدولة التحديثية العربية مقوماً رئيسياً ومحورياً فيه، نجد أن تلك الدولة لم تبدع في شيء قدر إبداعها في تعميق ثقافة التطرف والعنف والسطو على مقدرات مجتمعاتها الغنية بكل الموارد والطاقات الطبيعية والبشرية، وتقويض أية فرصة للنمو الاقتصادي، مع تهيئة ظروف انتشار تيارات التطرف وحركات التعصب والإرهاب يسارية كانت أم يمينية، واستثمارها في لعبة الصراع مع الغرب وعلى رأسه أمريكا.
لقد قضتْ تلكَ الدّولة التحديثية على أحلام شباب الأمة في بناء مستقبل زاهر لهم، ورمّدتْ أمانيهم في تشييد واقع سياسي واقتصادي عربي تنموي منتج ومزدهر، يمكن أن يفعل قدراتهم ومواهبهم وطاقاتهم، ويستوعبهم ويدفعهم لميادين العمل والإنتاج الحقيقي لا الشكلي، جرى هذا على الرغم من كل الآمال العريضة والواسعة التي انعقدت على تلك النظم التي مثّلت هذه الدولة.. وسرعان ما تحطمت الأحلام والأوهام “الثورية” (الساذجة والبسيطة) على صخور الواقع المعقد، وأدخلت النخب السياسية التي التحقت جميعها تقريباً بما سمّي “بالمشروع الثوري”، في أزمة أيديولوجية وجودية عميقة..
لقد كانت سياسات المنع والإعاقة والقمع، وسياسات الردع والنفي وكمّ الأفواه، هي السّائدة والمهيمنة على وعي وسلوكية النخب التي حكمت تلك الدول التحديثية، إلا ما ندر.. وكان الهمّ ومحطّ الاهتمام واحداً، هو البقاء الأعمى في الحكم والكرسي رغماً عن أنف الشعوب وعلى الرغم من ممانعتها.. وهذه الظروف الضاغطة “التاريخية” الاستثنائية التي تسبب بها جموح العسكر العربي للسّلطة والحكم، قسّمت الناس وَمَيّزَتْ بينهم، وحولتهم إلى مجرد آلات مسيّرة تعمل بالخوف والوعود.. ودَفعتْ كثيرين منهم للهروب والفرار والهجرة خارج بلدانهم بحثاً عن عمل وملاذات آمنة.. وأما من بقي في الداخل رافضاً الخضوع، فقد اتجه للعمل ضمن أحزاب وتنظيمات سرية تحت الأرض بعيداً عن أعين الرقابة الأمنية وقوانين الطوارئ.. وجرّاء هذا الوضع الشاذ والخطير خسرت الأمّة الإجماع المفترض أنْ يأتي بناءً على الشّرعية أو التّوافقات الشّرعية (القائمة أساساً هي بدورها على قناعة الناس ورضاهم الطوعي بالحكم السائد)، وتسلّطتْ النّخب الطّفيلة النّرجسية المُرْتهنة والعقيمة والأنانية، والبعيدة عن الواقع، على مقدرات شعوب الأمة وثروات مجتمعاتها، فعملت فيها (تلك النخب السلطوية) نَهَباً وخراباً وتدميراً، تارةً من أجل تثبيت مواقعها وتدعيم مفاصل بنيانها السّلطوي، وأُخْرى لتحطيم الأمّة والمجتمعات العربية، وتآمر البلدان على بعضها بعضاً، بما جَعَلَ القانون السّائد في واقعنا العربي أشبه ما يكون بقانون الغاب، ليتحول هذا الواقع العربي إلى أرضيةً خصبة (ولّادة) لنشوء الصّراعات وتفجير الحروب واشتعال الأزمات وراء الأزمات وتكديسها فوق بعضها، والبقاء في حالة ارتهان كامل للقوى الإقليمية والدولية الكبرى.. حتى وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم من هيمنة الانفجارات الجهادية الراديكالية والتنظيمات الأصولية، كأحد الأمثلة البارزة على نتائج (ومآلات) ليالي القمع وعهود الاستبداد الطويل والفشل التنموي الكبير، وعدم حسم قضية الإجماع الشرعي الطوعي والتمثيل الحقيقي لجماهير الأمة.. بل باتت هذه القضية غير ذات معنى حالياً، في ظل رهان الدولة التحديثية العربية – في نسخها الفوضوية المتشظية الأخيرة – على انتقال الهمّ والاهتمام الإقليمي والدولي إلى موضوعة “مكافحة الإرهاب” الأصولي الإسلامي، والتي باتت تعلق عليه كل فشلها وتأخرها وعدم فتحها المجال العمومي للفرد العربي من أجل التشارك والحضور والفاعلية، خصوصاً مع خوف الغرب من التغيير في المنطقة العربية، وسعيه للإبقاء على المستنقعات السياسية فيها (على ما فيها من روائح نتنة ومياه آسنة وأمراض مميتة) من باب: “من تعرفه خير وأفضل ممن لا تعرفه”.. ولهذا تحالف الغرب مع تلك النظم العربية المستبدة والمفسدة لمنع التغيير بكل السبل والوسائل المتاحة، وإبقاء المجتمعات مرهونة لحاجاتها الأولى، تتعيش على أزماتها، بعيداً عن أية أحلام بالنهضة والتغيير الحضاري والسعي لبناء مجتمعاتها على العدل والمساواة والإنسانية..
نعم، الأمر لا يحتاج لكثير جهد للوصول إلى حقيقة الأسباب الكامنة وراء هذا الفشل الحضاري العربي المقيم منذ قرون.. حيث أنه وعلى الرغم مما يبدو ظاهرياً أنه سبب ثقافي تاريخي يتصل بطبيعة القناعات والمفاهيم التاريخية السائدة والمتحكمة بسلوك الناس هنا، (مع قناعتنا بطبيعة الحال بأهمية البحث عن وجود دور وتأثير مهم للتاريخ وثقافته في هذا الموضوع)، ولكن السبب الجوهري للإعاقة والمنع والتأخر وهيمنة أفكار وسلوكيات التطرف، لا تعود للمواطنين والناس أنفسهم ولثقافتهم ونسيجهم الاعتقادي، كما تحاول بعض الحكومات تحميل مواطنيها مسؤولية هذا الإرهاب والتطرف.. فالفاعل وصاحب المسؤولية على الأرض، هو تلك السياسات والاستراتيجيات والخطط الاقتصادية والاجتماعية المطبقة (فوقياً ووصائياً) على الناس، والتي لم يؤخذ فيها رأيهم وقناعاتهم.. وهذه الحكومات (الممثلة لتلك النظم) لم تفعل شيئاً على مدى عقود طويلة من امتلاكها للقرار والمصير وتحكمها بمنافذ الثروات، لكي تواجه سلبيات التاريخ وانقساماته وتعقيداته المؤثرة على سلوك الفرد العربي حتى اليوم، من أجل صنع ما تقول أنه مواطن واعٍ وفاعل ومنتج ومتسامح وووإلخ.. فلم تكافح الفقر، ولم تعالج العوز والتخلف الاقتصادي وغير الاقتصادي الذي تسبب للناس بالحرمان وشظف العيش والبقاء مرتهنين لحاجاتهم الأولى في ظل ما يراه الناس من فوات منفعة اقتصادي وتنموي عليها نتيجة النهب وفشل خطط التنمية.. ولم تمكّن المواطنين من حياتهم، كما لم تحسّن واقعهم بالعقل والعلم، وفشلت في إكسابهم المهارات وتدريبهم على ثقافة الوعي والتسامح والمسؤولية والقيم المدنية الحديثة.. هي فقط انشغلت وانهمكت في تأمين مصالحها الخاصة، وعاشت في أبراجها العاجية بعيداً عن هموم البشر ومشكلاتهم وأزماتهم التي تكدست يوماً بعد يوم، وتكرّست وتفاقمت وتراكمت مع مرور السنين نتيجة سياساتها هي باعتبار صاحبة القرار، ولم تحلها (حيث المماطلة والتسويف سيد الموقف)، حتى انفجرت في وجهها، فكان ما كان من نمو بذور التطرف والعنف، واشتعال الصراعات والحروب والنزاعات الأولى وتحكم القوى الكبرى بالمنطقة ككل..
والمستقبل العربي لا يشي بأي أمل..!!.. فنحن نسير من أزمة كبرى إلى أزمة أكبر منها.. بما يحقّقُ لأمريكا والغرب مزيداً من التنازلات العربية ونهب خيرات شعوب المنطقة، والاستمرار في التبديد والتضييع الكامل لحقوق الشعوب السياسية والاقتصادية الشاملة. فهل بعد كل ما جرى من مآسي وخسائر وفشل، سيدفع النخب والحكومات وأصحاب القرار، للدرس والاعتبار وإحداث تغييرات حقيقية جدية شاملة؟.
ربما تكون تلك التجارب والإخفاقات العملية والمرارات السياسية والتكاليف الباهظة، حافزاً لكثير من النخب والحركات السياسية ذات المنهج الشمولي لفهم أن بناء الدولة الوطنية وتقويتها، وتأسيسها على معايير القانون والعدل والحداثة السياسية (حقوق فردية وحريات وتنظيم سياسي سلمي تداولي تعددي)، أهم بكثير جداَ، من بناء الدولة القومية أو النظر للأمة من زاويتها الأوسع دونما امتلاك إمكانات وقدرات مقابلة تحقق هذا الغرض.. لكن المشكلة أن هذا الوعي المتأخر لم ينعكس سلوكياً على واقع وآلية عمل تلك الأحزاب والحركات، إذ أن العجز عن بناء الدولة الوطنية العربية الحديثة (وتأسيسها على معايير القانون والعدل والحداثة السياسية من حقوق فردية وحريات وتنظيم سياسي سلمي تداولي تعددي)، ولّد وأنتج تنظيمات وجماعات وكيانات طائفية وعشائرية، ودفَعَ للعودة إل الانتماءات ما قبل وطنية… وجعل مجتمعات العرب رهينة بيد الفوضى والإمعية والاستلاب والتخلف العملي.
وهذا التفكير الشمولي والعقلية المركزية المغلقة على هويات أقصوية خلاصية “اصطفائية” لم تنتج (كما نرى أمام أعيننا يوماً بعد يوم) سوى الفشل المزمن، ولم تقدم لناسها ولغيرها سوى الأحقاد والصراعات، ولم تثمر سوى التخلف والمعاناة، ولم تضع سوى العراقيل والأشواك في طريق تطور مجتمعاتها وتقدمها ورفاهية شعوبها.
نعم، الناس في عالمنا ومجتمعاتنا لا يمكنها ولا تستطيع أصلاً تقبل و”أكل” مزيد من الكلام الرومانسي الجميل، أو “شرب” النظريات والمفاهيم التجريدية، والعيش في جنان أحلام التجريد والمثاليات النظرية بصرف النظر عن كونها يمينة أو يسارية أو غيرها.. فقد باتت دولة الخدمات والرفاه والاقتصاد الخدمي والإنتاجي هي الأهم وهي المطلوبة.. فالناس تريد أن ترى وتعاين أمامها نماذج مادية حقيقية لتطورها وعيشها وسعادتها، في أن تتوافر على تنمية وحداثة ورفاه دنيوي.. تريد أن تعيش مثل باقي المجتمعات المتقدمة المرفّهة الحاضرة في زمانها ومكانها والمؤثرة في مسيرة أنظمتها وحكوماتها ورسم مصائرها.
من هنا خلاصتنا التي نقول ونؤكد فيها، أنه لن تقوم للأمة أية قيامة تنموية ونهضة فاعلة حقيقية تنعكس على حياة الناس في حياةٍ سعيدة وعيش مزدهر رغيد، دونما تحولات سياسية بنيوية جدية عميقة، يعطى فيها الناس حقوقهم كاملةً (بلا منّيّة من أحد!!)، بعيداً عن مزيد من التسويف والتأجيل والمماطلة، ومزيد من استنزاف متواصل لخيرات الأمة ومقدراتها التي باتت تضمحل يوماً بعد يوم، خصوصاً مع زيادة تدخل القوى الدولية في منطقتنا، وتفجيرها للعنف والحروب في بلداننا بموافقة بعض تلك الأنظمة والسلطات والحركات السياسية السائدة عندنا، وهذا كله لن يفيد شعوبنا ولن ينقلهم نحو الأمام على طريق تعزيز حقوق الإنسان والتقدم والتنمية الإنسانية والاقتصادية وبناء السلام والازدهار والوصول إلى السعادة.